في عام 1988، بدأت المكسيك أولى خطوات تشييد خطوط المترو في باطن عاصمتها "مكسيكو سيتي" تقليلاً لحدة الزحام والتلوث الذي ضاق به صدر المدينة. ومع تعميق عمليات الحفر، اصطدمت إحدى الحفارات عام 1992 بمقبرة جماعية مليئة بالعظام البشرية دفنت غير بعيد من مستشفى "سان خوسيه دي لوس ناتشوراليز الملكي"، ما استدعى إبلاغ علماء الآثار الذين ما لبثوا أن جمعوا الرفات المؤلفة من مئات الهياكل العظمية العائدة لأشخاص توفوا خلال فترة العصر الاستعماري وتحديداً أوائل القرن السادس عشر.
وقد لفتت آنذاك، ثلاثة جماجم مختلفة الشكل والتفاصيل نظر الباحثين، ذلك أن أسنانها الأمامية كانت مزينة بأشكال زخرفية رُجح أنها قد تعود إلى عادة طقوسية، على خلاف أسنان سكان لوس ناتشوراليز الأصليين، الذين شكلوا غالبية جثث موقع الدفن، والتي خلت من أي أشكال مماثلة. خلص علماء الآثار إلى أن جماجم الأفراد الثلاثة تعود على الأرجح لأفارقة مستعبدين، لكنهم كانوا بحاجة إلى مزيد من الأدلة للتأكيد على صحة نظريتهم.
وبعد مرور 28 عاماً على اكتشاف المقبرة الجماعية، وتحديداً في الثلاثين من أبريل(نيسان) الماضي، أماط الباحثون اللثام عن كنز من المعلومات الوراثية التي تم استخراجها من أسنان الجماجم الثلاثة، مؤكدين أنهم أفارقة وربما يكونون من أوائل الذين سيقوا قسراً من قارتهم ونقلوا إلى الأميركتين. يقول الدكتور رودريغو باركيرا، وهو طالب دراسات عليا في "معهد ماكس بلانك" لعلوم التاريخ البشري في ألمانيا والباحث الرئيس للدراسة التي نشرت بدورية Current Biology العلمية المتخصصة، "لقد درسنا هياكل الرجال العظمية بالكامل. أردنا معرفة مقدار المعاناة التي عايشوها ليس فقط لجهة الأمراض التي أصابتهم، ولكن كذلك لجهة طريقة تعامل المستعمرين الإسبان معهم حتى نتمكن من سرد قصتهم الحقيقية، التي سيكون لها عظيم الأثر في رواية الأحداث الكاملة للفترة الاستعمارية للمكسيك".
تاريخ ملطخ بالسواد
يعدُّ الرق من ضمن أسوأ انتهاكات حقوق الإنسان على امتداد تاريخ البشرية. وقد كانت تجارة الرقيق عبر الأطلسي، حدثاً فريداً نظراً لطول أمدها الذي استمر 400 عام، وحجمها الذي لامس الـ17 مليون شخص باستثناء أولئك الذين لقوا حتفهم فى أثناء نقلهم، بحسب تقديرات رسمية للأمم المتحدة. وبامتدادها بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر، شكلت تجارة الرقيق الأطلسية أكبر عملية ترحيل فى التاريخ، إذ شملت مناطق وقارات متعددة. وكانت السفن المحملة بالبضائع التجارية كالبنادق والمشروبات الكحولية والخيول تغادر الموانئ الأوروبية متجهة إلى غرب أفريقيا، حيث تقوم هناك بمبادلة بضائعها بأفارقة مستعبدين. وهؤلاء المستعبدون هم في الأصل إما أسرى حروب محلية أو ضحايا لتجارة العبيد المحلية التي كانت مزدهرة آنذاك.
كانت هذه السفن المشحونة بالعبيد الأفارقة، تبدأ رحلتها عبر "الممر الأوسط" متجهة إلى المستعمرات الأميركية والأوروبية في الكاريبي وأميركا الجنوبية. وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن واحداً من بين كل ستة عبيد لقي مصرعه خلال هذه الرحلات جراء الظروف العسيرة غير الصحية. وقد افتتح البرتغاليون تجارة الرقيق الأطلسية، قبل أن ينضم إليهم الإسبان، لتتدفق الأمم الاستعمارية الأخرى تباعاً، حيث كانت الحاجة ماسة لجلب الرقيق إلى الأميركتين من أجل العمل في إنتاج السكر والقطن والتبغ. ومع ارتفاع وفيات سكان أميركا الأصليين جراء الأمراض التي جُلبت إلى مناطقهم من قبل الأوروبيين، بدأ التفكير في استيراد العبيد الأفارقة، بحيث جُلب نحو 900 ألف منهم بحلول عام 1600 فقط.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
استبدال الأفارقة بالسكان الأصليين
في عام 1518 أذن تشارلز الأول، ملك إسبانيا، بالنقل المباشر للأشخاص المستعبدين من إفريقيا إلى الأميركتين. وفي عام 1542، سنَّ الملك الإسباني "القوانين الجديدة" التي حظرت على المستعمرين في "ولاية إسبانيا الجديدة" استخدام السكان الأصليين عبيداً. وبذا، حرّر القانون الجديد آلاف عمال السخرة من السكان الأصليين، فارتفع الطلب على العبيد من الأفارقة، ومن شعب الكريول (هاييتي)، ومن الخلاسيين وكل المنحدرين من أصل أفريقي للعمل كخدم وطهاة وعمال مناجم ومزارعي حقول. وأدت موجات الطلب المتزايدة إلى استقدام زهاء 120 ألف أفريقي مستعبد إلى ما يعرف اليوم بالمكسيك، بين عامي 1518 و1650.
ألحَّ المستعمرون الإسبان على جلب هذه الجماعات لاعتقادهم بأنها تبلي بلاءً حسناً في مواجهة الأمراض التي جلبها الأوروبيون إلى الأميركتين، من مثل الجدري والحصبة وحمى التيفوئيد والتي كادت، جنباً إلى جنب حملات الغزو العسكرية الأوروبية الوحشية، أن تقضي على السكان الأصليين. تم إنشاء مستشفى "سان خوسيه دي لوس ناتشوراليز الملكي" حوالى عام 1530 لخدمة المرضى من السكان الأصليين حصراً، والذين قضى كثير منهم جراء تفشي مرض الجدري. وقد تم علاج الأفارقة الثلاثة هناك. وعندما قضى أجلهم، دفنوا جنباً إلى جنب المتوفين من السكان الأصليين. ويرجح الدكتور باركيرا أنهم ربما قضوا جميعاً نتيجة الوباء. وقد لاحظ الباحثون أن فكوكهم كانت تضم أسناناً ذات حشوات زخرفية، شبيهة بتلك التي لوحظ وجودها لدى الأفارقة المستعبدين في البرتغال؛ وهي ممارسة أفريقية مستمرة حتى يومنا هذا لدى بعض المجموعات العرقية المستوطنة جنوب الصحراء الكبرى. ما دفع الباحثين إلى استنتاج أن الجماجم الثلاثة تعود لأفارقة.
يقول الدكتور لورديس ماركيز مورفين، عالم الآثار بالمدرسة الوطنية للأنثروبولوجيا والتاريخ في مكسيكو سيتي الذي شارك في الدراسة البحثية بدورية Current Biology، لم نكن نعرف بالضبط إن كانت الهياكل العظمية للرجال الثلاثة تعود إلى "نيجروس إسكلافوس" أو "نيجروس ليبر"، في إشارة إلى التمييز بين العبيد الأرقاء والعبيد المُعتقين. لكن الرضّات المحفورة في الهياكل العظمية الثلاثة تشير إلى أنهم كانوا عبيدا أرقاء. "فأحدهم كان مصاباً بطلق ناري"، بحسب مورفين الذي يشير إلى خمس شظايا تعود لرصاصات علقت في تجويف صدري لأحد الرجال. ويذكر مورفين في الدراسة: "أمكننا بسهولة رؤية الصبغة النحاسية المخضرة التي تلطخ العظم حيث استقرت الرصاصات وبقيت في جسم الرجل حتى وفاته". كما ظهرت على هياكل بعض الرجال علامات على نقص التغذية، وكسور لدى الجمجمة والساق، وتشوهات في عظام الكتف ما يوحي بأنهم كُلفوا بالقيام بأعمال مضنية وشاقة، وأنهم عانوا سوء معاملة جسدية. وقد أظهر التحليل أن الرجال الثلاثة توفوا وهم في مرحلة سنيّة تتراوح بين الـ25 والـ35 سنة.
ولدوا في أفريقيا
أزال باركيرا وفريقه ضرساً من كل جمجمة من الجماجم الثلاث لاستخراج وتحليل الحمض النووي. وقد أظهرت "التوقيعات الجينية" التي تم الحصول عليها من الأضراس، أن أصول الرجال الثلاثة تعود إلى غرب أو جنوب إفريقيا. وعثر الباحثون كذلك لدى نظائر الأسنان على دلائل تشير بوضوح إلى أن الرجال الثلاثة ولدوا وترعرعوا خارج المكسيك. يذكر باركيرا في بحثه: "لقد افترضنا في بداية الدراسة أنهم قد يكونون أبناء أفارقة تزاوجوا مع أميركيين أصليين، أو أبناء أفارقة تزاوجوا مع أوروبيين، لكن الأمر لم يكن كذلك".
الدراسة البحثية التي نشرت يوم الثلاثين من أبريل الماضي، في دورية Current Biology، قدمت لمحة عن حياة الأفارقة الثلاثة قبل رحلتهم القسرية إلى خارج القارة السمراء، وأضافت نظرة غير مسبوقة إلى الأمراض المعدية التي قد تكون جلبتها تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي إلى العالم الجديد. فإثر قيام الفريق البحثي بإعادة ترتيب الجينوم المسبب للأمراض المستعاد من بقايا الهياكل العظمية، وجدوا أن أحد الرجال كان مصاباً بفيروس الالتهاب الكبدي، فيما ثبُتت إصابة آخر بالبكتيريا المسببة لعدوى "العليقي الجلدي" وهو مرض شديد الشبه بمرض الزهري.
ويقول يوهانس كراوس، الباحث في معهد "ماكس بلانك" والمؤلف المشارك في الدراسة، إن النتائج تقدم بعضاً من أقدم الأمثلة المعروفة لمسببات الأمراض لدى البقايا البشرية في الأميركتين، وتقدم كذلك أول دليل مباشر من الفترة الاستعمارية المبكرة على إمكانية جلب مسببات بعض الأمراض من أفريقيا. يضيف كراوس: "لطالما ركزنا على فرضية جلب الأوروبيين والإسبان تحديداً للأمراض معهم إلى الأميركتين، وأعتقد أننا قللنا احتمالية مساهمة تجارة الرقيق الأفريقية القسرية في جلب هذه الأمراض المعدية إلى العالم الجديد".