تسعى جزيرة تايوان إلى الخروج من الهيمنة الصينية التي ما زالت ترى تايبيه جزءاً لا يتجزأ من أراضيها، وهناك خطوات متسارعة من حكومة تايوان للاستقلال والاعتراف الدولي، إذ أعلنت إصدار جواز سفر جديد لمواطنيها يُظهر اسم "تايوان" بالإنجليزية، في خطوة تراها حكومة الصين "تحركاً تافهاً" لا يغير من تابعية تايوان لجمهورية الصين الشعبية. بينما تدفع واشنطن باتجاه علاقات أكثر عمقاً مع الجزيرة الصينية، مما يسبب غضب التنين الصيني، كما أن سطوة الأخيرة عالمياً منعت أي اعتراف دولي بها.
شبه استقلال
تقع تايوان المعروفة رسمياً بجمهورية الصين الوطنية في شرق آسيا، ومع تأسيس الصين عام 1912 كانت تايبيه تحت الاستعمار الياباني، لكن الجمهورية الصينية بدأت ممارسة الولاية القضائية عليها بعد استسلام اليابان في الحرب العالمية الثانية عام 1945.
وفي أثناء الحرب الأهلية الصينية بين جمهورية الصين والحزب الشيوعي الصيني نقلت حكومة الأولى مقرها إلى تايوان عام 1949، ومع فرض الحزب سيطرته على الأراضي الصينية انتقلت الجمهورية إلى الركن الأخير الذي تبقى لها وهو جزيرة تايوان.
وتنظر جمهورية الصين الشعبية إلى تايوان باعتبارها من ضمن ثلاث جزر بقيت خارج سيادتها عند تأسيس دولتها قبل استعادتها، وهي هونغ كونغ التي كانت تحت الاستعمار البريطاني، وماكاو التي كان يحكمها البرتغاليون، وفورموزا المستقلة التي استعمرتها اليابان وسميت لاحقاً بتايوان. وفي الوقت الذي تعد فيه هونغ كونغ وماكاو إقليمين تابعين للصين، لكنهما يتمتعان بحكم ذاتي، فإن تايوان تصر على أنها دولة مستقلة لا تتبع الأراضي أو الحكم الصيني، لكنها لا تحظى باعتراف دولي بهذا الاستقلال.
ومع قيام الجمهورية أعلنت بكين نفسها الممثل الرسمي لتايوان في المنظمات الدولية والأممية. وأكدت أنها إقليم متمرد، وينبغي إعادة اتحاده مع الحضن الصيني. وتضمن السياسة الصينية أن أي استقلال للحكومة التايوانية سيقابل برد عسكري، كما تمنع إقامة أي علاقات دبلوماسية رسمية معها ومع تايوان في الوقت نفسه، مما جعل عدد الدول التي تعترف بتايوان ولديها علاقات دبلوماسية معها قليلاً للغاية، إذ تعترف أربع عشرة دولة فقط بتايوان، وهي غواتيمالا، وهايتي، وهندوراس، وباراغواي، ونيكاراغوا، وبيليز، وسانت لوسيا، وسانت فنسنت والجرينادينز، وجزر مارشال، وسانت كيتس ونيفيس، بالاو، توفالو، ناورو والفاتيكان.
حكومة لا دولة
تُعد الولايات المتحدة من بين الدول التي لا تقيم علاقات دبلوماسية مع تايوان، لكنها تحتفظ بعلاقات جيدة مع تايبيه، وتربطهما علاقات تجارية وصفقات عسكرية عدة. فمنذ أربعة عقود بدأت العلاقات بين المسؤولين الأميركيين ومسؤولي تايوان من دون أي تمثيل دبلوماسي رسمي، فلا توجد لقاءات رسمية بين ممثلي الجانبين في وزارة الخارجية أو البيت الأبيض، كما أن هذه القيود كانت تحث على عدم إشارة الحكومة الأميركية إلى تايوان باعتبارها "بلداً" أو "حكومة"، كما تضمنت قيود العلاقة الجديدة منع زيارات مسؤولي تايبيه إلى واشنطن.
لكن، الحكومة الأميركية المنتهية إدارتها أعلنت قبل أيام على لسان وزير خارجيتها مايك بومبيو تغيير هذه القيود التي تحدد العلاقة بين الجانبين. بعد إقرار الكونغرس قانوناً جديداً يتضمن حث الحكومة على مراجعة هذه القواعد، كما أظهر المجلس نيته إلغاء هذه القواعد واستبدالها باسترشادات جديدة، باعتبار تايوان حكومة ديمقراطية في محاولة لتعميق وتوطيد العلاقات بين الولايات المتحدة وتايوان، والمبنيّة على قيمة وأهمية العلاقات بين البلدين. هذا القرار وصفه وزير الخارجية التايواني جوزيف وو بالخطوة الكبيرة من الجانب الأميركي في تعزيز العلاقات بين الجانبين.
كما أعقب إعلان رفع هذه القيود مؤخراً استضافة سفير الولايات المتحدة في هولندا ممثل تايوان في البلاد بالسفارة الأميركية في أول لقاء رسمي لمسؤول أميركي منذ الإعلان عن رفع وزير الخارجية القيود مع اللقاءات بمسؤولي تايبيه. وكتب سفير الولايات المتحدة في هولندا، بيتي هويكسترا، على "تويتر" مرحباً بلقائه.
وبحسب محللين فإن توسع الصين وازدياد قوتها يقوض السلام والاستقرار في مضيق تايوان، كما أن ضمان علاقات جيدة بين الولايات المتحدة وحلفائها، خصوصاً مع تايوان التي تصارع الوجود بسبب تهديد الحرية والديمقراطية في تايوان من قبل الحكومة الصينية، يؤدي أيضاً إلى الزعزعة.
غضب التنين
تسبب تقارب العلاقات بين الجانب الأميركي وتايوان في استياء الصين، وكان جانب من جوانب الصراع بين بكين وواشنطن في ظل إدارة ترمب. وكرر في كثير من المرات تابعية تايوان للبر الصيني، وأنها لن تسمح بالاعتراف الدولي بها، ولوّحت باستخدام القوة إذا لزم الأمر.
ومع القرار الأخير برفع القيود عن العلاقات الدبلوماسية بين الجانبين الأميركي والتايواني، هددت الحكومة الصينية الولايات المتحدة بـ"ضربة مضادة" ضد التحرك الأميركي لرفع القيود عن التواصل واللقاءات بين المسؤولين في تايوان. وأكدت بكين أن تايوان جزء أصيل من الصين، وتستعيده حتى وإن كان بالقوة، وشددت على رفضها أي تمثيل دبلوماسي لتايوان.
وصرح متحدث الخارجية الصيني زاهو ليجيان، بأن بلاده تدين بشدة التحرك الذي أقدمت عليه الولايات المتحدة، ووصفته بخرق للعلاقات الدبلوماسية بين بكين وواشنطن. كما استنكرت الصين أي فعل يخص ويمس المصالح الصينية، وهددت بأنه سيقابل بهجمات مضادة، وحذرت بومبيو من مراجعة القرار أو مواجهة عقاب صارم.
بينما وصفت وكالة "شينخوا" الصينية الرسمية في تقرير لها الخبر الذي أعلنه بومبيو عن رفع قيود اللقاءات مع مسؤولي تايوان بالرغبة في تأجيج المواجهات غير المبررة، وأنه لا يهدف إلى السلام العالمي، بل أورد التقرير أن خطوة الإدارة الأميركية هي الفرصة الأخيرة لها لشق العلاقات الأميركية - الصينية. كما جاء في تقرير الوكالة أن بومبيو كان يسعى في أثناء فترة وزارته إلى تخريب العلاقات بين الولايات المتحدة وتايوان.
وعلقت بكين على الزيارة الملغاة من قبل سفيرة أميركا في الأمم المتحدة إلى تايوان بـ"الاستفزاز الجنوني" الذي يجب أن يقف من جانب أميركا، ودانت هذه الزيارة، مؤكدة أن جمهورية الصين الشعبية وحكومتها هي المتحدث الرسمي والوحيد باسم تايوان باعتبارها جزءاً من البلاد، وليست دولة مستقلة.
كما حثت الصين أخيراً الولايات المتحدة على إيقاف التبادل الدبلوماسي مع تايوان، وأعلنت رفضها إياه، وطالبت الحكومة الأميركية بالتوقف عن ارتكاب الأخطاء.
استفزاز عسكري
بين الحين والآخر، تضطلع القوات العسكرية الجوية الصينية بموجات تهديد لتايوان في محاولة للضغط على الحكومة في تايبيه، وإضعاف مقاومتها، على حد تعبير أحد الخبراء العسكريين التايوانيين. ووفقاً لمركز الدفاع الوطني وأبحاث الأمن في تايبيه، فإن القوات نفذت أكثر من 380 طلعة جوية في منطقة تحديد الدفاع الجوي بتايوان في الفترة بين يناير (كانون الثاني) ونوفمبر (تشرين الثاني) الماضيين. وجاء في التقرير أن الزيادة المتكررة في هذه الطلعات جاءت رداً على تقارب العلاقات بين تايوان والولايات المتحدة مما استنفر الصين.
وفي سبتمبر (أيلول) الماضي، دانت تايوان الاستفزاز الخطير من قبل الصين، بسبب خرق طائراتها العسكرية الأجواء التايوانية يومين متتاليين، فيما وصفته وزارة الخارجية بـ"الخطر على السلم والاستقرار الإقليميين".
وتذكر صحيفة "آسيا تايمز" أن البحرية التايوانية أجرت أكثر من ألف ومئتي مهمة في محاولة لاعتراض سفن البحرية الصينية، وهو ما يعد زيادة بـ400 ضعف عن العمليات التي قامت بها البحرية التايوانية في عام 2019.
وأورد تقرير نُشر في مجلة الجيش الأميركي في سبتمبر الماضي، أن الطريقة الأكثر فاعلية في ردع العسكرية الصينية، ومنعها من الهجوم على تايوان هي وضع الولايات المتحدة لقواتها بطريقة تؤجج الصراع أكثر وتوضح التزام أميركا الكامل بحماية تايوان، بل وذهب التقرير إلى اقتراح وجود عسكري أميركي على الأرض في تايوان للدفاع عن سيادة أراضيها.
جواز جديد
في الحادي عشر من يناير الحالي، أقدمت تايوان على خطوة جديدة في سلسلة السعي للاستقلال عن الصين، إذ أصدرت جواز سفر جديداً يحمل اسم تايوان في أسفله بخط كبير بالإنجليزية، ويكتب اسم جمهورية الصين في أعلاه باللغة الصينية والإنجليزية حول الشعار الوطني.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويركز الإصدار الجديد على كلمة "تايوان" في تصميمه، بحيث يمكن نشر الاسم على نطاق أوسع، وتعريف المجتمع الدولي بالدولة التي تسعى للاستقلال والاعتراف الدولي. ويهدف التصميم الجديد، كما تذكر الحكومة، لمنع الخلط بين تايوان والصين. حيث قالت السلطات إن الجائحة في الفترة الأولى التي فرضت فيها الدول قيوداً على الصين ودخول مواطنيها منذ انتشار كورونا، أثرت في مواطني تايلاند، إذ مُنِع بعض السياح والمواطنين من السفر، ورُفِض دخولهم بسبب تلك القيود، لاعتقادهم أنهم من مواطني جمهورية الصين الشعبية.
وفي تصريح لمدير عام مكتب الشؤون القنصلية لـ"رويترز"، قال إن الهدف من إصدار الجواز الجديد زيادة الرؤية والتعرض لاسم تايوان، ولهذا فلن يختلط بينهم وبين القادمين من الصين عندما يسافرون إلى البلدان الأخرى. وكتبت رئيسة تايوان على "إنستغرام" عقب إصدار الجواز الجديد، أن كلمة تايوان الكبيرة على غلاف جواز السفر ستمكن المواطنين في البلاد من السفر حول العالم، وتجعل المجتمع الدولي غير قادر على تجاهل وجود تايوان.
ويُنظر إلى هذه الخطوة باعتبارها تحدياً جديداً من تايوان ورغبة في إثبات اختلافها واستقلالها عن الصين، حيث صرحت بكين بعدم أهمية أي "تحركات تافهة" منها، وأكدت أن هذا الأمر لن يغير من حقيقة أنها جزء غير منفصل من بكين.
ويسافر مواطنو تايوان باستخدام جواز سفر تايواني معترف به ومن أكثر الوثائق المقبولة دولياً، لكن لا يمكنهم استخدامه في مباني منظمات دولية مثل الأمم المتحدة. وعلى رغم عدم الاعتراف الدولي الذي تُواجَه به تايوان، فهي تُصَنف في المرتبة الثانية والعشرين كأكبر الاقتصادات على مستوى العالم، وتربطها علاقات تجارية وثيقة مع الولايات المتحدة.
وعبرت الصين عن انزعاجها من العلاقات التجارية بين الجانبين، إذ أكد متحدث الخارجية معارضة بكين القاطعة أي شكل من التبادل الرسمي بين الولايات المتحدة وتايوان، مشيراً إلى أن بلاده موقفها ثابت وواضح.
جائحة ناجحة
وسلط العالم الضوء على تايوان كأفضل دولة نجحت في احتواء كورونا على رغم قربها من الصين، في تجربة ملهمة في التعامل مع الجائحة والسيطرة على الفيروس المستجد. فحتى نوفمبر الماضي كانت قد سجلت مجمل 498 حالة منذ اكتشاف الحالة الأولى في يناير المنقضي. واستطاعت الإجراءات التي اتخذتها تايوان تقويض انتشار الفيروس والعودة السريعة للحياة الطبيعية في البلاد بوقت قياسي.
لكن، على رغم ذلك النجاح الواسع في إحكام السيطرة على العدوى محلياً، تبقى تايوان خارج منظمة الصحة العالمية، وهو ما جدد رغبتها في الانضمام إلى المنظمة العالمية، لتضع موطئ قدم على طريق الاعتراف الدولي.
وتايوان ليست عضواً في منظمة الصحة العالمية وفي عدد من المنظمات الدولية، مثل اللجنة الأولمبية الدولية ومنظمة الطيران المدني الدولية إلى جانب الأمم المتحدة، وهي تشارك مع الصين التي تمثلها في هذه المنظمات. وصرح وزير الصحة التايواني العام الماضي بأن اختبار الجائحة ربما يُمَكّن منظمة الصحة العالمية من الاعتراف بأن الجائحة لا تعرف الحدود الوطنية، لذا لا بد أن لا يبقى أي مكان أو إقليم خارج المنظمة، ويمكنه أن يصنع إسهامات للعالم.
وتعرضت منظمة الصحة العالمية لانتقادات شديدة العام الماضي بعد أن نشرت تايوان محتوى الخطاب الذي أرسلته إلى المنظمة قبيل إعلان الصين عن الفيروس، وأوضحت تايوان أن المنظمة تجاهلت الخطاب، ورفضت السماح لها بمشاركة خبراتها ومعلوماتها عن كورونا الذي عُرف بهذه الفترة باسم "فيروس ووهان".
كما أكدت لجنة المتابعة الأمنية والاقتصادية الأميركية- الصينية بالكونغرس في تقرير سابق، أن استبعاد تايوان أدى إلى تداعيات خطيرة، حيث منع الدول الأعضاء في منظمة الصحة العالمية من الحصول على التوجيهات في الوقت المناسب مع بدايات تفشي الوباء.
وأشارت تايوان إلى أنها تعلمت عدداً من الدروس في إدارة الجائحة، وكانت ترغب في مشاركتها مع العالم. لكن حلم الانضمام إلى المنظمة "لم يتحقق"، حيث ظل مسؤولو المنظمة يؤكدون أنها جزء من الصين، كما جاء في مقابلة لمساعد المدير العام لمنظمة الصحة العالمية في لقاء مع قناة بهونغ كونغ.