ربما أكثر ما يلفت في رواية الكاتبة المصرية الشابة فيرينا ويلسون "ما تخفيه جدران المدينة" (دار أقلام عربية) كونها كُتبت كاملة بالعامية المصرية سرداً وحواراً. ولا تعد الكتابة الإبداعية بالعامية المصرية جديدة، وإن لاقت وما زالت، هجوماً من قبل البعض لأسباب مختلفة منذ سبعينيات القرن التاسع عشر. وكانت بداية دخول العامية المصرية إلى الإبداع الرسمي بعيداً عما أنتجته القريحة الشعبية مع المسرح وبالتحديد مع يعقوب صنوع، وكذلك مع محمد عثمان جلال الذي مصَّر مسرحيات موليير وراسين بالزجل المصري. كما أن قصيدة العامية المصرية استطاعت أن تحفر لنفسها مكانة كبيرة، مع بيرم التونسي وفؤاد حداد وعبد الرحمن الأبنودي وصلاح جاهين وسيد حجاب وغيرهم. أما في الرواية فلم يكن هناك خلاف حول أن يكون سرد أحداثها بالفصحى وإنما كان في شأن الحوار الذي يدور بين الشخصيات داخلها؛ هل يُكتَب بالعامية أم الفصحى؟ فهناك كتاب أمثال نجيب محفوظ انحازوا إلى الفصحى وآخرون مثل يوسف إدريس وعبد الرحمن الشرقاوي كتبوا الحوارات بالعامية.
وتعود بداية كتابة أول رواية بالعامية المصرية إلى أربعينيات القرن العشرين، وتمثلت في "قنطرة الذي كفر" لمصطفى مشرفة. وفي عام 1991 أعيد طبع الرواية نفسها، علماً أنها تتناول أحداث ثورة 1919. ثم أصدرتها الهيئة المصرية العامة للكتاب ضمن مشروع "مكتبة الأسرة" في 2012، وأصدرتها دار "بتانة" في 2019.
ثم خاض يوسف القعيد هذه التجربة في روايته "لبن العصفور" 1994، إلا أنه في العقد الأخير تحولت كتابة الروايات بالعامية المصرية إلى ظاهرة جديرة بالتحقيق والدراسة، خصوصاً مع فوز إحداها في عام 2019 بجائزة ساويرس لأفضل عمل روائي. ونقصد هنا رواية "المولودة" (دار الشروق) للكاتبة نادية كامل. ويلاحظ هنا أن غالبية الذين يسلكون هذا الاتجاه من السيدات مثل "تحت سقف واحد" لدينا عماد، و"سندرلا" لهبة السواح. ومن أوسع الكُتَّاب قراءة بين المراهقين في مصر ويكتب بالعامية، أحمد يونس في سلسلته "نادر فودة" التي تجاوزت مبيعاتها المليون نسخة.
بين الحكاية والحبكة
ومن أكثر السمات التي تشترك فيها الروايات المكتوبة بالعامية المصرية خصوصاً من جيل الكتاب الشباب، ومنها رواية فيرينا ويلسون "ما تخفيه جدران المدينة" أنها تنتمي إلى فن الحكايات أكثر من كونها تنتمي إلى الإبداع الأدبي. ومن أكثر النظريات النقدية الأدبية التي اهتمت بما يميز النص الأدبي عن النص غير الأدبي، المدرسة الشكلانية الروسية. فالحبكة عندهم هي وحدها التي تتمتع بالخاصية الأدبية، أما الحكاية فهي مجرد مادة خام تنتظر يد الكاتب البارع كي يحولها إلى نص إبداعي. فكل البشر يملكون خاصية الحكي والقص. الجدات والأمهات يحكين لأطفالهن. والمتعلم وغير المتعلم يستطيع أن يحكي. فالحكي ظاهرة إنسانية يشترك فيها الجميع. فقط الكاتب هو من يستطيع أن يحول هذه الحكايات إلى أدب عن طريق الحبكة التي تمنعنا من النظر إلى الأحداث على أنها نمطية ومألوفة. لذا يصح القول إن كل حبكة تحتوي على حكاية وتصنف على أنها عمل أدبي، وليس كل حكاية عملاً أدبياً.
وتشمل الحبكة إضافة إلى الترتيب الفني للأحداث الخاصة بالقصة، على الوسائل التي يستعملها المؤلف للتدخل في الحكاية مثل الإبطاء من سير السرد عبر التركيز على وصف حدث ما، واستخدام تقنيات أدبية مثل الفلاش باك، الحذف والاستطراد، التغريب وغيرها من الوسائل الفنية التي تميز بين لغة الأدب ولغة غيره من العلوم.
ومن هذا المنظور تقترب رواية "ما تخفيه جدران المدينة" إلى عالم الحكاية البكر الذي لا تتدخل فيه الصنعة الروائية التي تسكنها الحبكة. فالحكاية تدور حول فتاة تدعى "فريدة" من الإسكندرية يجبرها والدها على الزواج من شخص لا تعرفه، فتقرر الهرب مع حبيبها، إلا أنه يخذلها ويرفض الزواج منها، فتهرب البنت إلى القاهرة وتعيش في شقة ورثتها أمها عن والدها ولا يعرف عنها الأب شيئاً. وهناك تلتقي بالصحافي رامي الذي يساعدها في إيجاد عمل. وتنتهي الرواية بموافقة فريدة على الزواج من هذا الشاب الذي أنقذ حياتها من الضياع.
السرد المباشر
والعنصر الثاني الذي يميز الحكاية عن الحبكة، أن الحكايات مباشرة في طرح مقاصدها التي تريد إيصالها للمتلقي. وهذا النمط يكون ظاهراً في الحكايات الشعبية ويحضر أيضاً في رواية فرينا التي تعرض مقاصدها بشكل مباشر دون جهد فني يسمح بتعدد التأويلات والرؤى. فالمؤلفة تكتب على غلاف الرواية الخلفي في التعريف بنفسها بأنها "شابة نسوية ومهتمة بحقوق المرأة". لذا يظهر الأب داخل الرواية كنموذج للرجل المتسلط لا يكف عن ضرب الأم والابنة التي يجبرها على الزواج من شخص لا تعرفه ويحدد موعد الزفاف دون استشارة صاحبة الشأن.
هو لا يحب الإناث ويعتبر أن ابنته عار لا يستره سوى الزواج. وتظهر الأم في صورة المضطهدة المغلوبة على أمرها غير القادرة على الفكاك من جحيم هذا الزوج. فأم البطلة "سمية" صورة مشابهة لـ"أمينة" في ثلاثية نجيب محفوظ.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والعنصر الثالث الذي يميز الحكايات هو الشخصيات، وهي هنا ليست إشكالية، بما أنها إما خيرة وإما شريرة، ومنها الصديقة النموذجية "ليلى"، والحبيب النموذجي "رامي"، والرجل المتحرش الشرير، والمرأة الخائنة. ودائماً ما تكون ردود أفعال هذه الشخصيات متوقعة.
وتعتمد فرينا على تكنيك يعرف في المسرح بكسر الجدار الرابع، أي يسمح للممثلين في العرض المسرحي بالحديث مباشرة إلى الجمهور، وداخل الرواية توجه الكاتبة حديثها إلى المتلقي مباشرة معلقة على الأحداث لتوجهه إلى فهم معين خلال كشفها عما سيأتي من أحداث مما يضفي على النص مزيداً من المباشرة.
طابع شفوي
ومن السمات التي تحضر في الحكايات وتميزها عن غيرها أنها تكتب أو تقال باللغة العامية، وأنها ذات طابع شفوي كما في حكايات "ألف ليلة وليلة" أو السير الشعبية. فقصيدة العامية المصرية كي تتخلص من إرث الشفاهة والفنون القولية العامية مثل الزجل، مرَّت بمراحل كثيرة من التجريب إلى أن أصبحت ذات حس فلسفي عند فؤاد حداد، وواكبت الشعر المكتوب بالفصحى، وأصبح هناك ما يعرف بقصيدة النثر العامية. إلا أن الروايات المكتوبة بالعامية لا تزال قريبة من عالم الحكاية الشفاهي ولم تصل بعد إلى الحبكة الأدبية التي تميز بين ما هو أدبي وغير أدبي. كما أنها متأثرة كثيراً بما يعرف بـ"سرد الفيسبوك". ويتجلى ذلك في رواية "ما تخفيه جدران المدينة"، فالكاتبة مولعة بالحديث إلى القارئ وتوجيه النصائح له. كما أنه لا يوجد اهتمام بالوصف بقدر الاهتمام بسرد الأحداث وتطورها ومن ذلك اختيار الكاتبة مكانين لتدور فيهما الأحداث: الإسكندرية والقاهرة إلا أنها لا تمنحهما أي خصوصية عبر الوصف المركز على طبيعة كل منهما، معتمدة على الخلفية المشتركة التي يعرفها القارئ عن المكانين دون أن تضيف إليه من خبراتها الحسية والفنية.
ازدادت كتابة الرواية بالعامية المصرية في العقد الأخير، إلا أن الطريق طويل أمامها حتى تثبت نفسها، كما فعلت قصيدة العامية. ما زالت بحاجة إلى التخلص من إرث الحكاية لتنتقل إلى الحبكة، وهذا هو الاختبار الحقيقي لذلك النوع من الروايات وعليه يتحدد مصيرها. فإما أنها ظاهرة وقتية ترتبط بفئة عمرية معينة أو أنها فن جدير بالقراءة وتقديم الجديد والمنافسة.