اختتمت نائبة الرئيس الأميركي، كامالا هاريس، زيارتها لمنطقة جنوب شرقي آسيا، الخميس، لتؤكد مجدداً التزام إدارة بايدن باهتمامها بالأرخبيل، واسترجاع النفوذ في منطقة المحيطين الهندي والهادي، ومجابهة النفوذ الصيني الذي شهد توسعاً عسكرياً واقتصادياً إبان إدارة ترمب للبيت الأبيض.
وبعد أن رتب البيت الأبيض عديداً من ملفاته الداخلية، اتجهت السياسة الخارجية لواشنطن إلى الشرق الآسيوي، فالزيارات الأميركية تتوالى على المنطقة، ابتداءً من زيارة نائبة وزير الخارجية ويندي شيرمان لكمبوديا وتايلاند وإندونيسيا، مروراً بزيارة وزير الدفاع لويد أوستن لسنغافورة وفيتنام والفيليبين، والحضور الافتراضي لوزير الخارجية أنتوني بلينكن للقاء رابطة "آسيان"، لتؤكد تلك الزيارات واللقاءات المتتالية والمتعاقبة أن التنافس الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والصين هو قضية السياسة الخارجية الأولى لإدارة بايدن.
في الوقت الذي ترى فيه الصين أن الولايات المتحدة تتدخل في الشؤون الإقليمية، وتسعى لزعزعة الاستقرار، وتعمد إحداث وقيعة بين الصين وجيرانها في المنطقة، تسعى دول المنطقة جاهدة للتوازن بعلاقاتها الأميركية - الصينية دون ترجيح لأي منهما على حساب الآخر.
كما أن هناك قلقاً من قبل حلفاء الولايات المتحدة من إمكانية وفاء واشنطن بوعودها، والخوف من تغليب الإدارة الأميركية المتعاقبة على مصالحها بالدرجة الأولى قبل مصالح حلفائها. وتكرار سيناريو أفغانستان العالق في الأذهان بأن تقرر واشنطن عدم أهمية حلفاء "آسيان"، والانسحاب من المنطقة دون سابق إنذار.
تمهيد الزيارة
قبيل وصول نائبة الرئيس الأميركي، كامالا هاريس، إلى منطقة جنوب شرقي آسيا، ومع إعلان الزيارة، أشار محللون إلى أن زيارة سيدة البيت الأبيض تهدف إلى حشد الدعم من قبل الدول الحلفاء والصديقة في جنوب شرقي آسيا، ولإظهار اهتمام البيت الأبيض بالمنطقة، وإثبات وجودها مقابل النفوذ الصيني المتزايد، فيما أكد مسؤول كبير في الحكومة الأميركية لـ"رويترز" أن هدف الزيارة هو توضيح وإظهار رسالة أن "أميركا عادت إلى الإقليم الذي يوصف بكونه الأكثر أهمية في العالم".
كما أن خطاب وزير الدفاع الأميركي في سنغافورة الشهر الماضي، قد أرسى قواعد وأسس الإدارة الجديدة في التعامل مع المنطقة وموقفها من المد الصيني في آسيان، حيث أكد لويد أوستن أن واشنطن تستنكر التحركات الصينية في بحر الصين الجنوبي، ووصفها بـ"التعدي على سياسة دول الجوار"، فيما أوضح أن بلاده لا تريد من دول آسيان الاختيار بين الصين والولايات المتحدة. وأكد حرص واشنطن على بناء علاقات شراكة مع دول المنطقة.
الخطاب الأميركي أثار استهجان وإدانة الجانب الصيني على لسان سفارتها في سنغافورة بأن خطاب وزير الدفاع مشوه للحقائق ويختلق الأكاذيب، لخدمة أهداف استراتيجية جيوسياسية أميركية.
سحب البساط الصيني
وضعت كامالا هاريس، وهي أكبر مسؤول أميركي يزور إقليم جنوب شرقي آسيا منذ وصول جو بايدن لمكتب البيت الأبيض، منطقة جنوب شرقي آسيا نصب أعينها، لكسب دعم وثقة الحلفاء في المنطقة لإيقاف التوسع الصيني، بالتالي إعادة تموضع الولايات المتحدة في المنطقة. فيما يرى أن اختيار الإدارة الأميركية لسنغافورة وفيتنام كمحطتين رئيستين للزيارة يتسق تماماً مع تقرير التوجيه الاستراتيجي للأمن القومي المؤقت الذي نشر في مارس (آذار) الماضي الذي يؤكد فيه أن سنغافورة وفيتنام شركاء رئيسون في جنوب شرقي آسيا.
ومن جانب آخر، يشير محللون إلى أن اختيار واشنطن سنغافورة وفيتنام ليكونا المحطتين الرئيستين في الزيارة يظهر إعطاء الأولوية للأمن القومي والفرص الاقتصادية في المنطقة، إذ ترتبط الولايات المتحدة باتفاقية شراكة للدفاع مع سنغافورة، تتيح للقوات الأميركية الوصول إلى قاعدة ليون سيتي البحرية والقواعد الجوية في سنغافورة، كما تربط فيتنام والولايات المتحدة بعلاقات اقتصادية وطيدة ومتزايدة، خصوصاً في الآونة الأخيرة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بالمقابل، يصعب على الجانب الآسيوي في الوقت الحالي الابتعاد كثيراً عن جارته الصين التي يستفيد من علاقاتها لما يعود عليه بالنفع الاقتصادي، وسيكون من الصعب التضحية بهذه الاستفادات والانزلاق في صراعات القوى الكبرى بين الطرفين الأميركي والصيني. فيما يتوجب على الولايات المتحدة أن تضمن انخراطها اقتصادياً في المنطقة بشكل قوي.
وأعطت سياسة الولايات المتحدة الأميركية أولوية لإعادة إحياء وتنشيط الشراكات مع دول جنوب شرقي آسيا الرئيسة كجزء من أجندتها الناشئة في منطقة المحيطين الهندي والهادي، في محاولة لكسب ود دول "آسيان".
وتقول أنغيلا مانشيني، رئيسة أسواق آسيا والمحيط الهادي، إن التنافس الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والصين هو قضية السياسة الخارجية الأولى لإدارة بايدن، وعلى البيت الأبيض أن يعي جيداً أنه لا توجد رغبة من دول جنوب شرقي آسيا في الاختيار بين طريقي الولايات المتحدة والصين.
وركزت الإدارة الأميركية على هذه النقطة، ففي زيارتي وزير الدفاع ونائبة الرئيس الأميركي أكد المسؤولان أن البيت الأبيض "لن يطلب من الدول الاختيار بين واشنطن وبكين".
دبلوماسية اللقاح
سعت واشنطن إلى مجاراة بكين بما يعرف بـ"دبلوماسية اللقاح"، فقد غطى اللقاح الصيني 29 في المئة من اللقاحات التي تبرعت بها الصين في المنطقة، كما باعت بكين ما يقارب 203 ملايين من اللقاحات المصنعة في الصين إلى دول جنوب شرقي آسيا.
وبالمقابل، قدمت الولايات المتحدة مطلع أغسطس (آب) وبالتزامن مع زيارة وزير الدفاع الأميركي للمنطقة، تبرعاً باللقاحات بإجمالي 24 مليون جرعة، أي ما يعادل خمس تبرعاتها عالمياً، إلى منطقة جنوب شرقي آسيا، إضافة إلى تبرعات بملايين الدولارات من أدوات الحماية الشخصية والمعملية وأدوات الوقاية من كورونا.
وأعلنت نائبة الرئيس الأميركي خلال زيارتها لمنطقة "آسيان" عن تبرع بلادها بمزيد من الجرعات من لقاح "فايزر" إلى هانوي التي ستصل أرض فيتنام خلال أيام. كما أصبحت فيتنام المركز الإقليمي في منطقة جنوب شرقي آسيا للمركز الأميركي لمكافحة الأمراض، ليكون لديها السبق بين دول الجوار، وتنضم إلى ثلاثة مكاتب أخرى في العالم تابعة للحكومة الأميركية.
وينظر محللون صينيون إلى المحاولات الأميركية على أنها "غير مجدية أو صادقة". فقد أكد المحلل الصيني المتخصص في شؤون بحر الصين الجنوبي، هو بو، أن إدارة بايدن "ليس لديها أي سياسة واضحة أو مسار واضح تجاه المنطقة". كما أشار إلى صعوبة تأثير الولايات المتحدة على دول جنوب شرقي آسيا من الناحية الاقتصادية والدبلوماسية، وأن تأثيرها ينحصر فيما تقدمه لهذه الدول من عروض عسكرية وتعاون دفاعي.
شراكات واتفاقات
وصفت كامالا هاريس زيارتها لسنغافورة بالمثمرة، وتلتها تصريحات ثنائية تؤكد نمو العلاقات بين واشنطن وسنغافورة، أعقبتها اتفاقات شراكة بين الجانبين في مجالات الأمن الرقمي والتعاون المناخي والاقتصادي.
وأوضحت نائبة الرئيس الأميركي في خطابها الخطوط الأولية للسياسة الأميركية في المنطقة في تشابه لخطاب وزير الدفاع الأميركي في زيارته السابقة لسنغافورة، حيث تطرقت هاريس إلى اهتمام الولايات المتحدة بإقليم المحيطين الهندي والهادي، وأنها جزء منه، وأهميته من الناحية الاقتصادية لواشنطن، مبينة أن مستقبل الشراكات بين الولايات المتحدة ومنطقة جنوب شرقي آسيا في مجالات عديدة، وهو ما ترجم بالفعل من خلال الاتفاقات التي وقعتها واشنطن مع سنغافورة، في حين لم يمر خطاب نائبة الرئيس دون الحديث عن المنافس الصيني، إذ أكدت كامالا هاريس أن الصين تعمل على "إكراه" و"تخويف" جيرانها في ادعاءاتها بمنطقة بحر الصين الجنوبي، وهو ما كررته مجدداً في زيارتها إلى العاصمة الفيتنامية هانوي.
ورداً على هذه المزاعم الأميركية، قال وزير الخارجية الصيني، إن الولايات المتحدة تتدخل في الشؤون الإقليمية للمنطقة، وتزعزع الاستقرار والسلم، كما اتهم الإعلام الصيني كامالا هاريس بالعمل على إحداث وقيعة بين الصين وجيرانها في جنوب شرقي آسيا.
هانوي حذرة
أوضح السفير الفيتنامي السابق في الولايات المتحدة بام كوانج فين، أن زيارة كامالا هاريس تأتي امتداداً لمساعدة فيتنام في طلبها على اللقاح، فيما جعلت الولايات المتحدة فيتنام والدول المجاورة لها من أولوياتها، وجرى إرسال 500 مليون جرعة لقاح للمنطقة.
كما تسعى هانوي إلى أن تكون مركزاً لتصنيع وتصدير اللقاح لمنطقة جنوب شرقي آسيا. فيما رجح نيرفا باتل، الرئيس التنفيذي لـ"آسيا غروب"، أن البلدين سيعملان مستقبلاً على تنامي العلاقات الاقتصادية ومجالات متعددة مثل التكنولوجيا والإلكترونيات.
بينما قال المحلل الاقتصادي الفيتنامي لو دانغ دواه، إن هانوي رحبت بالتعاون مع واشنطن، لكن بطريقة حذرة، حيث يربطها عدد من المصالح المشتركة مع الصين، إلى جانب الحدود البرية الممتدة بين البلدين، ولهذا سيكون هناك تفهم لسبب ترحيب فيتنام الحذر.
وعلى ما يبدو فإن السياسة الخارجية لفيتنام وارتباطها الوثيق مع الصين غير مطروح للنقاش على نطاق واسع خلال هذه الزيارة، مع تأكيد فيتنام المستمر حفاظها على العلاقات بين الجانبين الأميركي والصيني دون ترجيح لأي منهما على حساب الآخر.
وظهر ذلك بشكل خاص حين التقى رئيس وزراء فيتنام، بام مين تشين، بالسفير الصيني قبل لقائه مع نائبة رئيس الولايات المتحدة. وقالت الحكومة الفيتنامية، في بيان، إن رئيس الوزراء يؤكد مراعاة فيتنام سياسة خارجية مستقلة ومتعددة الأطراف ومتنوعة تعتمد على الذات، وأنها عضو مسؤول في المجتمع الدولي.
كابول الأرخبيل
تزامنت زيارة نائبة الرئيس الأميركي مع انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان، والوضع المتأزم الذي آلت إليه البلاد بعد ذلك الانسحاب، ليلقي ذلك الحدث بظلاله على الزيارة وخطاب هاريس في الأرخبيل.
وعلى الرغم من محدودية تأثير الانسحاب الأميركي على منطقة جنوب شرقي آسيا، فإنه يثير قلق حلفاء واشنطن، وحرص الإدارة الأميركية المتعاقبة على مصالحها بالدرجة الأولى قبل مصالح حلفائها.
ويؤكد المتخصص الإقليمي، موراي هيبرت، أن الولايات المتحدة عليها الإثبات لحلفائها في المنطقة أنها "ستبقي على وعودها" دون أن تكرر ما فعلته في أفغانستان. فيما يشير يون سون من برنامج دراسات شرق آسيا إلى أن ما حدث في أفغانستان كان أمراً مثيراً للغضب، ويقلق عديداً من البلدان، حيث ينتاب حلفاء الولايات المتحدة الخوف من إمكانية أن تقرر واشنطن فجأة أن حلفاءها أصبحوا غير مهمين، بالتالي ينسحبون ويتركونهم وحيدين، وهي الرواية التي حاولت الصين التركيز عليها في سياستها مستقبلاً. فقد فندت بكين الادعاءات التي جاءت على لسان كامالا هاريس في خطابها في المنطقة بالإشارة إلى فشل الولايات المتحدة في أفغانستان. وقال متحدث وزارة الخارجية، وانغ وين بين، إن أميركا تختبئ خلف خطاب قوامه القواعد الدولية، وذلك للدفاع عن "سلوكها المتسلط والمهيمن". وذكر المتحدث الصيني أن الولايات المتحدة تدخلت عسكرياً في أفغانستان، ولا تريد تحمل مسؤولية معاناة الناس في هذه الدولة.
ويفسر عديد من المراقبين انسحاب الولايات المتحدة الأميركية من أفغانستان وعدد من بلدان الشرق الأوسط، على أنه تمهيد لتدعيم وتقوية وجودها في منطقة المحيطين الهادي والهندي، خاصة مع التأكيد المستمر للإدارة الأميركية على أهمية حرية الحركة الملاحية في الإقليم.
كما تثير الإشارات المتكررة من المسؤولين الأميركيين، لرفضهم الأنشطة التي تقدم عليها الصين بين حين وآخر، لانتهاك المياه الإقليمية في منطقة بحر الصين الجنوبي مع جيرانها في "آسيان"، التساؤل عن النوايا الأميركية في المنطقة.
ويتزامن الاهتمام الأميركي المتزايد في الآونة الأخيرة اتجاهاً نحو الشرق الآسيوي مع الاهتمام البريطاني بدول جنوب شرقي آسيا. ويرجع ذلك إلى عدد من الأسباب، على رأسها سرعة النمو الاقتصادي الذي تتسم به اقتصادات هذه الدول، التي يبلغ عدد سكانها نحو 660 مليون شخص، إلى جانب محورية دور بحر الصين الجنوبي في العملية التجارية عالمياً، مع سعي غربي، للحد من النفوذ الصيني من خلال تعاونات اقتصادية وسياسية وعسكرية، لتقوية العلاقات مع دول الأرخبيل.
وكدليل على جدية الولايات المتحدة في الانخراط مع الإقليم أعلنت كامالا هاريس عن استعداد بلادها لاستضافة قمة "أبيك" 2023 على أراضي الولايات المتحدة.