Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.
اقرأ الآن

عيسى مخلوف يسرد سيرته الشاملة في "ضفاف أخرى"

كتاب حواري يلقي أضواء على الماضي والاغتراب والتجربة الشعرية والفكرية

الشاعر عيسى مخلوف (صفحة الشاعر على فيسبوك)

لعل الكتاب الصادر حديثاً عن دار الرافدين (2021) بعنوان "ضفاف أخرى"، الذي تضمن حوارات أجراها الشاعر العراقي علي محمود خضير مع عيسى مخلوف الشاعر والأكاديمي والكاتب اللبناني، يندرج في سياق السرة الذاتية المروية وغير المكتوبة التي ترسم إطاراً ذاتياً وثقافياً وفكرياً للكاتب من خلال فن الحوار مع الآخر، الصحافي هنا. وقد أضاف الكاتب مخلوف، في القسم الثاني من الكتاب، عدداً من النصوص والرسائل المتبادلة مع شعراء لبنانيين وعرب وأجانب، ومن الرسوم والصور المتصلة بالموضوعات التي جرى التداول بشأنها في متن الكتاب.

قبل الشروع في عرض أهم النقاط التي وردت في هذه المقابلات الدسمة، لا بد لي من الإشارة إلى أن للكتاب مسوغات نقدية عامة وخاصة، بحيث يكشف عن منطلقات الشاعر والكاتب مخلوف، مما قد لا تنطوي عليه النصوص الشعرية، بحكم طبيعتها، ولا توجبها، ولا تمهد لها. ذلك أن صائغه، عنيت الشاعر مخلوف، ومحاوره خضير، إذ يجولان بين السيرة والثقافة، وبين الفلسفة والشعر، وبين السياسة والاجتماع، حيناً بعد حين، وعلى نحو واعٍ ومقصود أحياناً، وعفوي حيناً آخر، فإن مخلوف يدل على تمثله نسقاً معيناً من الموسوعية -اللازمة للأديب أو القارئ المميز على حد تعبير أومبرتو إيكو- ينهل منها مادة أدبه، وشعره، ومواقفه، على حد سواء.

ولعل أولى علامات التبليغ عن السيرة الثقافية هي مكان مولده وطفولته ونشأته، في إحدى القرى من شمال لبنان، ومستهل الانشغال الثقافي هو موت الأخ الأكبر، على نحو فجائي، وعيشه وسط بيئة جبلية وطبيعية ساحرة وباعثة على التأمل في الموت والحياة وفي الحدود اللا مرئية، التي يعني بها الجهل، والتعصب، والعنف الناجم عنهما، والتخلف، وما سوى ذلك من الحدود المانعة التقدم، على ما يناقشه المتحاوران لاحقاً.

الماضي الطوباوي

ويقول مخلوف، في رده على سؤال حول طفولته، إنه حظي بتربية "محاطة بالحنان والحب"، في كنف عائلة وأبوين حريصين على تعليم الأبناء، واعتبار العلم "هو الثروة الوحيدة". وأهم من ذلك أن نظرتهما إلى العائلة كانت مثالية بل "طوباوية إلى أقصى الحدود" (ص: 26) ومن تلك اللحظات الطفولية، بل الجنة الأولى، حيث الخليط الأثيري من الروائح والمناظر الطبيعية والاحتضان الأمومي، يستخلص الأديب ألمَ الانقطاع عن الأهل، ووفاتهم دونه، في اغتراب قسري، لا مجال فيه لعودة يطمئن فيها إلى غده.

أما الحساسية الفنية والأدبية فمستمدة من القراءات الأولى، المتاحة من مكتبة مدرسة "الفرير" في طرابلس، لشعراء الرابطة القلمية، وروايات نجيب محفوظ، وكتابات ميخائيل نعيمة وأمين الريحاني العابرة الحدود والطوائف والنزاعات التي سرعان ما اندلعت، أواسط السبعينيات، وكان لا يزال المعني مخلوف قيدَ الارتحال إلى باريس، هرباً من نيران الحرب الأهلية القاتلة والعبثية.

ولا ينسى الكاتب مخلوف، في سياق كلامه عن البيئة الثقافية الأشمل للعاصمة بيروت، قبيل الحرب الأهلية، الإشارة إلى النهضة المسرحية والفنية والسينمائية والصحافية الثقافية التي نهل منها جميعها، في مقابل وقوفه المبكر ضد النظام الطائفي المتخلف في بلاده، الذي لا يوفر فرصة لتدمير مكتسبات الوطن إبان سلمه ونهضته العمرانية والتمدنية على حد قول جرجي زيدان. ولعل ذلك الموقف هو نفسه لكوكبة الشعراء والأدباء اللبنانيين والعرب ممن خذلتهم أوطانهم، وقمعت تطلعاتهم إلى الحرية والمساواة وتجاوز العصبيات الطائفية والحزبية الضيقة، إلى رحابة الإبداع والأخوة الإنسانية السمحاء.

الحرب والإغتراب

وفي المحور الثاني الذي خصه المتحاوران بـ"الحرب والهجرة" روى مخلوف كيف تناهى إلى سمعه خبر المجزرة في عين الرمانة، ينقلها والده "بصوت متهدج"، وكيف أن نيران الحرب الأهلية أخذت في الاتساع والشمول، ما اضطر والديه إلى إبعاد ابنهما (عيسى) صوب فنزويلا، وإلى مدينة كراكاس حيث للعائلة أقارب يعنون به. وما حفظه من تلك الهجرة الأولى، يقول مخلوف إن غربة الكائن عن وطنه لا تنسيه العنف الماثل في جسده، ولا تزيل من ذاكرته آلام القهر والعذاب والخوف من القتل والتهميش والاستغلال. وفي هذا الشأن، تخطر في ذهنه قوافل الهاربين من أوطانهم والمهاجرين غير الشرعيين، وقد هلك منهم آلاف في لجج البحار، دون شواطئ الأمان والحرية والعيش الكريم، في أوروبا.

ولدى سؤال الصحافي خضير عن الأثر الذي تركته تلك التجربة في نفسه، أجاب مخلوف بأن له كتابات ومذكرات لا تزال طي الأدراج وأنه عازمٌ على نشرها لاحقاً. ومن تجربة الهجرة إياها، التي قويَ أوارها هذه الأيام أيضاً أوائل القرن الحادي والعشرين، تولدت مسرحية "قدام باب السفارة الليل كان طويل"، سبق وقدمتها نضال الأشقر على مسرح المدينة في بيروت. وقد تنبه الكاتب مخلوف إلى أن تجربة الاغتراب القسرية هذه التي قاسى آلامها، هي نفسها معاناة الشعوب الفقيرة وأنظمة البؤس القهارة، على امتداد الكرة الأرضية.

ثم كان المحور الثالث، وربما الأحب إلى قلب الشاعر (ص: 55-100) بعنوان "باريس مسرح الحياة المكشوف"، وفيه يجيب مخلوف عن أسئلة خضير، حول ظروف انتقاله من كراكاس إلى باريس. فيجيبه الشاعر مخلوف بأنه قصد باريس لمتابعة تحصيله العلمي، في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية، ونيله الدكتوراه فيها، وعمله الصحافي الثقافي والفني. ولما كانت لا تزال بيروت في حمأة الصراعات، انتقلت صحف ومجلات عربية كثيرة منها إلى باريس، ونزح معها الكثير من الصحافيين الأدباء والشعراء، من أمثال أنسي الحاج، ومحمود درويش، وسميح القاسم، وإميل حبيبي، وكاظم جهاد، وسمير قصير، وغسان تويني، وعقل العويط وجوزيف سماحة وغيرهم، فتسنى لعيسى أن يلتقي بهم، ويعقد صداقات معهم، ويتعرف عميقاً إلى نتاجاتهم. مثلما كانت باريس عاصمة فكرية عالمية، أتاحت للشاعر الاطلاع على إصدارات الكتاب والشعراء من أميركا اللاتينية، واللقاء ببعضهم من أمثال خورخي لويس بورخيس، وخوليو كورتاثار، وأوكتافيو باث، ولويس ميزون، وغيرهم. هذا عدا عن لقاءاته بالبحاثة الفرنسيين المستعربين، أمثال جاك بيرك، ومكسيم رودنسون، وأندريه ميكيل وغيرهم ممن شكلوا مراجع علمية للكثير من البحاثة والطلبة العرب.

باريس الثقافة

ولم يقتصر أثر باريس في تكوين الشاعر والكاتب مخلوف على هذا الجانب، بل تعداه إلى ترجمة الشعر الفرنكوفوني، لبعض الشعراء أمثال صلاح ستيتية وجورج شحادة، وغيرهما، وإلى المجال الفني الرحب، ولقائه العديد من الفنانين اللبنانيين والعرب والأجانب، وإشرافه على كاتالوغ معرض جبران خليل جبران عام 1998، وأهم الخبرات التي استخلصها من أساتذته في الجامعة، ولا سيما شغفه من المعرفة بالأسئلة لا بالأجوبة الجاهزة.

وفي الفصول اللاحقة وقفات وعبَر دالة؛ ففي إجاباته عن أسئلة تتصل بإقامته في مدينة نيويورك، حين كان مستشاراً خاصاً للشؤون الثقافية في منظمة الأمم المتحدة (2006-2007)، وصفَ المدينة بأنها موئل الحساسيات الجديدة، في الفن والسياسة، والموسيقى، والكتابة الشعرية، إلى كونها مركزاً للمال والثراء الفاحش والتجارة المتوحشة.

ثم كان للكاتب عيسى مخلوف حديث عن "الحدائق الزمنية والحدائق اللا زمنية" معطياً أمثلة عن عناية الأمم القديمة والمعاصرة بالحدائق الغناء باعتبارها تمثيلاً للفراديس التي تؤمن بها الشعوب المعنية. وعلى هذا، يسمي الكاتب أنواع الحدائق، وتصاميمها، وصلتها بالشعر والفنون الجميلة الأخرى، والعلوم ذات الصلة بالطبيعة وديمومتها.

اقرأ المزيد

أما فصل "الجدران غير المرئية" ففيه يطرح الكاتب تصوره الخاص للحدود التي يصطنعها البشر، قديماً وحديثاً، لإدامة التمييز والامتيازات بين الناس، ولخلق الضغائن بينهم، وصولاً إلى الحروب والنزاعات. ومن هذه الجدران الحقد، والتعصب الأعمى، وادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة، والاستبداد، والتخلف، والتطرف، والجهل، وغيرها. أما تجاوز هذه الجدران فيمثل تحدياً جوهرياً للشعوب المتحضرة والأجيال المتعاقبة من أجل ديمومة السلام والرخاء والأمان لجميع البشر من دون استثناء.

في كتاب "ضفاف أخرى" محاور كثيرة، لا يتسنى للقارئ المتعجل أن يوردها، مثل دور الثقافة والأدب في ظل التكنولوجيا والذكاء الصناعي، ومكانة الشعر وصلته بالفنون التشكيلية، ومصاعب الترجمة ومحاسنها وحوار الثقافات الذي توفره، والوباء المستجد "كورونا" والعودة المؤجلة إلى البلاد.

حسب الأديب والشاعر عيسى مخلوف أنه جعل من كل منها، أي من فصول الكتاب التي يفترض أن تكشف عن سمة من شخصه، أو تروي بعضاً من سيرته الثقافية، جسرَ عبور إلى فهم الآخر والعالم والشعر والفنون. حتى ليمكن إطلاق تسمية عديلة للكتاب "جسورٌ أخرى"، بديلاً من الضفاف.

المزيد من ثقافة