على الرغم من اعتماد المغرب العديد من برامج الإصلاح، إلا أن مجاله التعليمي يعد من أفشل الأنظمة حول العالم، وما زال يعاني اختلالات عدة، منها ضعف المقررات المعتمدة، والتردد في اختيار لغة التدريس بين العربية والفرنسية، إضافة لظاهرة العنف المتبادلة بين الأساتذة والتلامذة، وكذلك بعض ظواهر الفساد، وأزمة العطالة التي تقضي على آمال العديد من الطلاب.
إصلاح الإصلاح
كان المغرب يشهد في فترة ما قبل الاستعمار نظاماً تعليمياً تقليدياً يعتمد اللغة العربية، ويشمل بالأساس تحفيظ القرآن وتعليم الشريعة الإسلامية، ويتم في الكتاتيب القرآنية والمساجد والزوايا، لكن فرنسا عملت خلال فترة احتلالها للمملكة (1912-1956) على تغيير بنية ذلك النظام، وجعلت منه آلية لشرعنة تواجدها في المنطقة المغاربية بشكل عام، ووظفته كمجال للتبعية، وقامت باعتماد اللغة الفرنسية في مجال التعليم، كما قامت بـ "فرنسة" هيئة التدريس، لكن بالمقابل، أنشأت العديد من المدارس في مختلف مناطق المملكة.
وعرف البلد منذ الاستقلال عدداً هائلاً من أنظمة الإصلاح بدءاً من عام 1957، عبر إنشاء اللجنة العليا لإصلاح التعليم، التي تبنت المبادئ الأربعة المشهورة، التعريب، وتوحيد البرامج التعليمية، ومغربة التدريس، وتعميم التعليم على كل فئات المجتمع، لكن تم التراجع عن تلك المبادئ من طرف اللجنة الملكية لإصلاح التعليم التي أنشئت عام 1958، وقررت اعتماد اللغة الفرنسية، إلى أن تم إحداث لجنة التربية والثقافة عام 1959 موصية بإنشاء مجلس أعلى للتعليم، وتعيين أطر مغربية، إضافة إلى إبقاء الاعتماد على اللغة الفرنسية في السلك الابتدائي، وفي عام 1964، تم عقد "مناظرة المعمورة" التي أقرت تعريب التعليم في سلك الابتدائي بشكل كامل، والإبقاء على تعليم اللغات الأجنبية ابتداء من المستوى الإعدادي، وإعلان العربية اللغة الرسمية للتعليم في البلاد، لكن المغرب قرر مرة أخرى العودة لاعتماد اللغة الفرنسية في تدريس المواد العلمية في 1967، كما قرر العدول عن فكرة مغربة الأطر التعليمية.
وتم عقد مناظرة وطنية أخرى في عام 1970 بمدينة إفران، وكان من أهم مخرجاتها الدعوة للرجوع الى مبدأي التعميم ومغربة الأطر، إلى أن تم طرح برنامج استعجالي عام 1973 مطالباً باعتماد المبدأين السابقين، وفي عام 1980 تم اعتماد "مشروع إصلاح التعليم"، و كانت الغاية منه فتح طريق التكوين المهني، كما تم إطلاق "المخطط الثلاثي" الذي أقر ضرورة تعميم التعليم في القرى المغربية، وأنشئت عام 1994 "اللجنة الوطنية المختصة بقضايا التعليم" التي أوصت بإلزامية تعليم الاطفال بين ستة و16 سنة، وإقرار مجانية التعليم والتعريب والتوحيد، لكن البنك الدولي طالب عام 1995 بإعادة النظر في مبدأ مجانية التعليم، وفي عام 1999 تم إنشاء "اللجنة الملكية الاستشارية للتربية والتكوين"، التي أصدرت "الميثاق الوطني للتربية والتكوين"، وتم في عام 2006 إحداث "المجلس الأعلى للتعليم"، الذي أقر في تقرير أصدره عام 2008 أن معظم الأهداف التي سطرها "الميثاق" لم يتم تطبيقها على الشكل الأمثل، ومن ثم قام المغرب بإطلاق برنامج استعجالي جديد (2009-2012)، وأُصدر في عام 2015 "الرؤية الاستراتيجية لإصلاح المدرسة المغربية" في أفق 2030.
إصلاحات فاشلة
يجمع المختصون على ضعف البرامج الإصلاحية التي اعتمدها المغرب على مدى عقود، موضحين العلل الكثيرة التي تخللتها تلك الإصلاحات، ويشير الإطار التربوي، عبد الوهاب السحيمي، إلى أن ضعف الاصلاحات التعليمية في المغرب يتجلى في التغييب الكلي للعنصر البشري داخل المنظومة، موضحاً أن "كل الإصلاحات التي اعتمدتها الحكومات المتعاقبة في فترات مختلفة، تم فرضها من فوق ولم تأخذ نهائياً في الاعتبار ظروف اشتغال نساء ورجال التعليم، وكذلك ظروفهم الاجتماعية والمادية"، مضيفاً أنه "لا يمكن أن يستقيم أي إصلاح، مهما كان موفقاً وبراقاً على الورق، من دون انخراط الفاعل الميداني للمنظومة وهو الأستاذ، لكن، للأسف، كل الإصلاحات المتعاقبة همشت الأطر التربوية بشكل كبير، فهي إضافة إلى كونها لم تشركه في بلورة الإصلاح، لم تهتم لأوضاعه وظروفه، ولم تكثرت حتى لحقوقه التي ضاعت منه جراء مسلسل الإجهاز على المكتسبات التي عرفها القطاع خلال السنوات الأخيرة".
ويوضح السحيمي أنه إضافة إلى التهميش الذي يطال الأطر التربوية في بلورة وتنزيل الإصلاحات، يتم اعتماد النهج نفسه على المتعلمين، إذ تم تغييبهم كذلك في كل الإصلاحات، ولم تهتم لظروفهم ومعاناتهم مع الفقر والتهميش والمشكلات الاجتماعية، بالتالي، وقفت كل الإصلاحات عند باب المدرسة ولم تدخلها، على حد تعبيره.
الجودة في التعليم
من جانبه، أكد وزير التربية الوطنية المغربي، شكيب بنموسى، أن الحكومة تستهدف التسريع ببلوغ المنعطف الحاسم نحو الجودة في التعليم، ووضع هذا التحدي في صدارة الأولويات، مشيراً إلى أن الوزارة تعمل على تجسيد هدف الجودة، من خلال تركيز تدخلاتها على تحسين مؤشرين جوهريين اثنين، يتعلقان بالتقليص من الهدر المدرسي من جهة، وبتعزيز التمكن من التعلم والكفايات الأساس وتحسين المكتسبات الدراسية من جهة ثانية، مضيفاً أن ما حققته منظومة التربية والتكوين من منجزات مهمة، بخاصة على مستوى توسيع قاعدة التعليم، وتحقيق إلزامية التعليم، جعل الانتظارات تتجه بالأساس نحو تحقيق مدرسة الإنصاف وتكافؤ الفرص، والقضاء على الفوارق المجالية والاجتماعية، خصوصاً تحسين جودة التعليم، التي لا ترقى إلى المستوى المأمول، بحسب ما أبرزه العديد من التشخيصات والتقويمات.
وضعية مقلقة
وكان البنك الدولي قد أشار في أحد تقاريره إلى أن المغرب قد بذل جهوداً جبارة لتعميم التعليم الابتدائي، غير أن بقية الأسلاك التعليمية لم تستفد بشكل كبير من هذه العملية، إذ ترتفع نسبة الهدر المدرسي من سلك إلى آخر ليبلغ المعدل الوطني للتمدرس 87.6 في المئة في الإعدادي و61.1 في المئة في الثانوي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتوضح الدراسة أن تحليل البيانات المصنفة في قطاع التعليم يكشف أوجه عدم إنصاف كبيرة تخص بشكل رئيس الأطفال في المناطق القروية، بما في ذلك الإناث والأطفال الذين يعيشون في ظروف هشة، بخاصة الأشخاص في وضعية إعاقة، إذ لا يتجاوز معدل تمدرس هذه الفئات وفقاً لآخر الإحصاءات المتوافرة 32.4 في المئة، وفي المناطق القروية، تشير البيانات إلى أن الأطفال بشكل عام يواجهون صعوبات في الانتقال من المرحلة الابتدائية إلى المرحلة الإعدادية، إذ لا يلتحق بالإعدادي سوى 69.5 في المئة منهم، وينخفض هذا المعدل ليصل إلى 30.6 في المئة في ما يتعلق بولوج السلك الثانوي، بينما لا يتجاوز 21.9 في المئة عند الإناث.
وأشار تقرير للمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي المغربي (الحكومي) إلى أن 31 في المئة من التلاميذ لم يتجاوز استيعابهم لمقرّر اللغة العربية الرسمي في السنة السادسة نسبة 42 في المئة، ولا تتعدى هذه النسبة 32 في المئة في المجال القروي، ولا يتجاوز استيعاب 46 في المئة من تلاميذ الفصل الثالث من المستوى الإعدادي مقرر اللغة العربية نسبة 36 في المئة.
جدلية اللغة
وشهدت الإصلاحات التي عرفها المغرب في مجال التعليم اضطراباً بخصوص تحديد اللغة المعتمدة، وتراوحت تلك الإصلاحات بين اعتماد اللغة الفرنسية والعربية عبر فترات، ولا يزال الجدل حول لغة التدريس قائماً حتى الآن، ويرفض فؤاد بوعلي، رئيس الائتلاف الوطني من أجل اللغة العربية، أن تكون اللغة الفرنسية لغة تدريس في المدرسة المغربية، موضحاً أنها يجب أن تكون في مجال اللغات الأجنبية، وأن تكون اللغة العربية هي لغة التدريس باعتبارها اللغة الجامعة للأمة، مشدداً على كون اعتماد الفرنسية لغة للتدريس هو جناية في حق التعليم وفي حق المدرسة المغربية.
من جانبه يشير عبد الوهاب السحيمي إلى أن عدم وضوح الرؤيا عند القيمين على المنظومة التعليمية في المغرب يجعل مآل كل الإصلاحات الفشل، مذكراً بأن تبني خيار تعريب التعليم مباشرة بعد الاستقلال ثم العودة إلى الفرنسية مع القانون الإطار 51.17، يؤكد أن المغرب لم يقتنع بعد بالنموذج التعليمي الذي سينهجه ولم يحدد الفاعلون السياسيون اتجاه البوصلة في المسار التعليمي الصالح للمغرب، معتبراً أن "هذا التخبط ناتج بالأساس من منطلقات أيديولوجية للفاعل السياسي، فهناك من قلبه مع فرنسا وبالتالي يعمل جاهداً على فرض اللغة الفرنسية، وهناك من قلبه مع الشرق ويعمل على تنزيل وفرض العربية، وبين كل هذه القوى واللوبيات ضاع التعليم في المغرب وضاعت 60 سنة من عمر المغرب تم قضاؤها في التجاذبات والصراعات الأيديولوجية".
غياب الثقة
ويسجل فقدان الثقة للعديد من المغاربة في نظامهم التعليمي، وهناك بعض مظاهر العنف التي تعرفها بعض المدارس، إضافة إلى ظاهرة "الجنس مقابل النقط" التي تفجرت أخيراً في بعض الجامعات، في حين لا يوجد تناسق بين التخصصات التعليمية وسوق الشغل، إضافة لوجود أزمة العطالة التي تشهدها البلاد منذ عقود التي تزيد من نفور التلاميذ من المدارس.
ويشير عبد الوهاب السحيمي إلى ضعف الثقة في المدرسة المغربية العمومية، ولذلك أسباب عدة، منها الحرب التي يشنها باستمرار مسؤولون حكوميون بهدف إضعافها، بالتالي توجيه مواطنيهم لتسجيل أبنائهم في القطاع الخاص، لأن معظمهم مستثمر في القطاع الخاص، منبهاً، في الوقت عينه، لتردي المناهج التعليمية وعدم تجديدها منذ سنوات طويلة، حتى تكون ملائمة مع العصر الذي نعيشه وتنمي القدرة على التفكير والنقد والابتكار عند المتعلم، ومن ثم تكوين شخصيته القوية والاعتماد على الذات، بالتالي، "نحن بحاجة إلى نظام تعليمي جديد، يخوّل القدرة على التفكير والنقد والإبداع من المستويات الابتدائية، كما يخوّل الطالب الاعتماد على الذات في توفير فرص الشغل".