هل هو حقاً ذلك؟ بابا روماني كاثوليكي بدرجة أيديولوجية ومسحة يسارية ماركسية، وهو عند بعضهم من دون خجل أو وجل شيوعي؟
الشاهد أنه، منذ أن ارتقى فرنسيس السدة البطرسية، والأصوات تتعالى موجهة إليه سهام الاتهام حول توجهاته الفكرية من الناحية الاقتصادية، وهل هو يميل للأطروحات والشروحات الماركسية والفكر الاشتراكي بأكثر من ميله أو تفضيله النموذج الرأسمالي أو لا؟
يتوجب علينا القول في البداية للبحث عن جواب، إن البابا فرنسيس، منذ الأيام الأولى لبابويته، لم يتوان يوماً في الدفاع عن الفقراء، والتنديد بالرأسمالية العالمية التي اتهمها مراراً، تلميحاً أو تصريحاً، بأنها تنهش من لحم المعدمين حول العالم... هل لهذا وجد الرجل ذو الثوب الأبيض نفسه تحت مطرقة اليمين الأميركي المحافظ أول الأمر؟
عظات فرنسيس تزعج المحافظين الأميركيين
كانت عظات البابا سبباً رئيساً في اتهامات بعض الأصوات، لا سيما من تيار المحافظين الأميركيين مثل الإذاعي الأميركي رش ليمبوه، الذي كتب مقالاً عنوانه: "من المحزن كم أن البابا مخطئ"، قال فيه: "إلا إذا كان اليساريون تعمدوا سوء ترجمة عظة الحبر الأعظم المنشورة بالإنجليزية على موقع حاضرة الفاتيكان، فإنها تحمل في طياتها أفكاراً يسارية بحتة".
في متن المقال، تساءل ليمبوه إن كان البابا نفسه هو كاتب العظة التي حذر فيها من أن "حب المال قد يؤدي إلى طغيان جديد"، فإن الأمر هنا يعكس ثقة فجة وسذاجة في صالح من يسيطرون على القوى الاقتصادية".
وصف "ليمبوه" الإذاعي الشهير الذي يتابعه أكثر من 15 مليون أميركي، الأمر بأنه كلام محزن؛ لأن قداسته لا يدري عما يتحدث عنه، عندما يتعلق الأمر بالرأسمالية والاشتراكية؛ ولأن ما يتفوه به قداسته نظريات ماركسية بحتة، وكأنه مانيفستو ماركسي جديد عمن ينبغي أن يسيطر على الأسواق المالية، فهو يقول إن الاقتصاد العالمي بحاجة لسيطرة الحكومة.
والشاهد أن انتقاد البابا فرنسيس لاقتصاديات السوق الحرة قد جعل منه في أعين غلاة الرأسمالية رمزاً لليسار، وشجع ذلك بعض المتقولين عليه على القول بأنه شيوعي، لا سيما بعد أن وصف هذا الزعيم الروحي، لمليار وثلاثمئة مليون كاثوليكي حول العالم، الرأسمالية بأنها: "مصدر لعدم المساواة في أحسن الأحوال، وقاتلة على أسوأ تقدير".
باباوات كاثوليك وآراء في الاقتصاد
يعن لنا هنا التساؤل: هل كانت آراء فرنسيس مغايرة كثيراً من الناحية الاقتصادية لآراء سابقيه من باباوات الكنيسة الرومانية الكاثوليكية؟
المؤكد أن الكتابات الاقتصادية للبابا فرنسيس، ومن قبله كتابات البابا يوحنا بولس الثاني، ليست إلا انعكاساً للتقليد الكنسي الكاثوليكي المتضمن في الوثيقة الشهيرة المعروفة باسم "Rerum Novarum" أو "الأشياء الجديدة"، التي وضعها البابا لاون الثالث عشر، وتناول فيها ما سماه وقتها "روح التغيير الثوري" التي كانت تجتاح أوروبا حينها.
حملت الوثيقة التي صدرت عام (1891م)، أفكاراً تمثل طعناً واضحاً في الأفكار الشيوعية التي كانت جزءاً من ذلك التغيير، غير أن الوثيقة بالقدر نفسه حملت بعض الانتقادات للجوانب الرأسمالية، ولهذا اعتبرها بعضهم مزيجاً غير مألوف، ولا يتفق مع الانقسام بين اليسار واليمين الذي سيطر على الحالة السياسية في القرن العشرين.
أفرزت وثيقة "الأشياء الجديدة" لاحقاً ما اصطلح على تسميته "عقيدة الكنيسة الاجتماعية" ، التي تعد اليوم الأساس الأيديولوجي الاقتصادي لرؤية الكنيسة الرومانية الكاثوليكية للسياقات المعولمة رأسمالياً بنوع خاص.
أحد أفضل الذين توقفوا أمام تلك العقيدة بالبحث والدرس والتحليل كان اللورد البريطاني والبروفيسور في ذات الوقت موريس غلاسمان، الذي حصل على درجة الدكتوراه في دراسة تلك العقيدة، من حيث تعاليمها المثيرة والرفيعة، التي ترفض أيديولوجيات اليسار واليمين التقليدية.
يقول غلاسمان: "تعارض هذه فكرة أن هناك دولة أو سوقاً فقط، إنها تؤمن بأن تفعيل المجتمع أو ما تسميه التضامن، قادر على مقاومة هيمنة الأغنياء على الفقراء، ولكن من خلال النقابات العمالية، والجمعيات المعنية، وما يسمى التبعية، التي هي مركزية السلطة".
هذه التعاليم تعارض الشيوعية؛ لأنها "تؤيد الملكية الخاصة" ؛ ولأنها "ضد التأميم" أو توزيع الملكية على أفراد المجموعة.
فرنسيس القادم من بلاد مرهقة اقتصادياً
ولعل فرنسيس، البابا الأميركي اللاتيني الأول في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية، أكثر تأثراً من غيره بما تعيشه قارة أميركا اللاتينية وبلده الأرجنتين بنوع خاص؛ ولهذا فقد حرص على الدوام أن يطلب من كهنته رؤية العالم من خلال عيون الفقراء، ومن خلال العيش بينهم، وحين حل به الاختيار خليفة لمار بطرس، استحضر معه النهج نفسه إلى البابوية، وقد جادل فرنسيس طويلاً، بأن عدم المساواة يخلق "حالة من الخطيئة الاجتماعية"، معتبراً أن "البطالة هي نتيجة لاختيار العالم، ولنظام اقتصادي أدى إلى هذه المأساة".
إلا أن السؤال الرئيس لا يزال مطروحاً: هل نحن أمام بابا شيوعي؟
الجواب بالقطع لا، فهناك الملايين حول العالم من المعجبين بالبابا فرنسيس على اليسار، وهناك بالقدر نفسه الملايين من اليمين الرافضين لتوجهاته، إلا أنه ليس شيوعياً، ولا حتى ماركسياً، ففي مقابلة للحبر الأعظم مع صحيفة "لاستامبا الإيطالية" أوائل شهر ديسمبر (كانون الأول) من عام 2013 قال فرنسيس: "الفكر الماركسي خطأ" ، مضيفاً: "قابلت العديد من الماركسيين، وهم أشخاص طيبون، ولا أعتقد أن الأمر يزعجني، في إشارة لوصفه بالماركسي".
وفي مناسبة تالية في أكتوبر (تشرين الأول) من العام الذي يليه، وفي خلال لقاء البابا مع مئتي شخص من ممثلي الحركات الشعبية المجتمعين في روما لمدة ثلاثة أيام في لقائهم العالمي، قال البابا فرنسيس: "إن تحدثت عن مسائل كالأرض والعمل والمسكن لفترة من الوقت، سيقال عني إن البابا شيوعي"، واصفاً ذلك بـ"الأمر الغريب"، على حد تعبيره.
يظهر فرنسيس في كثير من كلماته وقراءاته في تصريحاته وعظاته، أن "محبة الفقراء تكمن في صلب الإنجيل والعقيدة الاجتماعية للكنيسة"، ويوقن بأن "هذا التلاقي مع الفقراء والمعذبين في الأرض لا يأتي استجابة لأيديولوجية معينة".
لا تلتقي الشيوعية ولا الماركسية مع كاثوليكية القلب والعقل، ولا مع سحق الإنسان ومحقه، ضمن منظومات تحقر من شأن الفرد؛ فالمسيحية جعلت السبت من أجل الإنسان، لا الإنسان في خدمة السبت، وفي هذا الإطار لم تكن سيرة فرنسيس الأولى في الأرجنتين إلا مصداقاً لإيمانه بالفقر الإنجيلي الإيجابي على مثال فرنسيس الأسيزي.
عن أسقف بوينس آيرس الفقير إلى الله
اعتاد فرنسيس طيلة حياته التنقل بالمواصلات العامة، ولم يطلب يوماً الحصول على سائق خاص، وحين كان يعيش في بيونس آيرس، كان يحفظ شوارعها عن ظهر قلب، حيث كان يسير فيها ساعات بمفرده، ويلقي التحية على الجميع.
قلة قليلة تعلم أن فرنسيس شارك طويلاً في المظاهرات التي خرجت في الأرجنتين ضد الانصياع لوصفات صندوق النقد الدولي، وضد الوصفات النيوليبرالية للاقتصاد الأرجنتيني.
ضاحكاً وفي حوار سابق له قال البابا فرنسيس: "إن الفقر في القلب من الإنجيل، وعليه فإن الشيوعيين قد سرقوا رايتنا؛ لأن راية المسيحية هي الفقر والفقراء"، ثم يتابع بذات الابتسامة: "بالنظر لكون المسيحية أقدم قطعاً من كارل ماركس، فإننا يمكننا أن ننظر لماركس والماركسيين باعتبارهم مسيحيين يرفعون شعارات مسيحية".
كرامة الإنسان هي الشغل الشاغل لفرنسيس، الرجل ذو الرداء الأبيض، الذي سك مصطلح "الاستعمار الجديد"، وكان يقصد به "الاندفاعات غير البريئة للمؤسسات الاقتصادية الدولية، التي تمارس قهراً متعمداً ومقصوداً بحق الفقراء".
في العديد من المناسبات الروحية والاجتماعية كان فرنسيس يوجه انتقادات لاذعة للمضاربات ونظام المنفعة، وللنظام الاقتصادي الذي يسود العالم، ولا يخدم سوى قلة قليلة جداً من سكانه.
حدث في عام 2005، في أحد حوارات فرنسيس أسقف روما، أن قال: "إن الرأسمالية ليست شيطانية ما لم نؤلهها، وما دامت تبقى مجرد أدوات، لكن إذا طغى الطموح المطلق لكسب المال، وإذا أصبحت المصلحة العامة وكرامة البشر في المرتبة الثانية أو الثالثة، وإذا بدأت الأموال والأرباح تستعبدنا، وإذا كان الجشع ركيزة لنظامنا الاجتماعي والاقتصادي، فإن ذلك يعني أن مجتمعاتنا تتجه للانهيار"، مضيفاً: "يجب ألا يصبح الإنسان والخليقة جمعاء في خدمة المال".
فرنسيس ونقد غير ماركسي للرأسمالية
ولعل المتابع المحقق والمدقق لحياة البابا فرنسيس وفكره يدرك تمام الإدراك أن نقد فرنسيس للرأسمالية، إنما هو بعيد كل البعد عن النقد الماركسي الممنهج والمغرق في أطر الشيوعية التقليدية سياسياً على الأقل، واقتصادياً في حده الأعلى، وسيدرك كذلك أنه نقد أخلاقي من جهة، وإيماني وإنساني من جهة ثانية، وأغلب الظن أن رؤى فرنسيس في هذا الإطار كانت نتاجاً لشبابه الذي عاشه في زمن "البيرونية القومية الأرجنتينية" شديدة الصلة بالطبقة العاملة، كما يشير إلى ذلك أوستين إيفيريه كاتب سيرة حياة البابا، وإن كانت تلك الأفكار لم تكن تنتمي على نحو واضح وقاطع لليمين أو اليسار؛ ومع تطوره الفكري صار البابا أقرب إلى أفكار المنظر الاقتصادي الفرنسي توماس بيكتي، ورؤيته المثيرة عن "رأس المال في القرن الحادي والعشرين".
استطاع فرنسيس حقيقة خلال السنوات القليلة من حبريته تحريك المياه الراكدة في عالم الاقتصاد الدولي، والمثير هنا أن هناك شهوداً من قلب المعسكر الأميركي الرأسمالي من أمثال السيناتور الأميركي الشهير بيرني ساندرز، ذاك الذي وجد دائماً قريباً من أفكار ومواقف البابا فرنسيس الاقتصادية حول عدد كبير من الموضوعات.
حين زار ساندرز حاضرة الفاتيكان في أبريل (نيسان) من عام 2016، أوضح في تصريحات له أنه مقتنع بأن البابا لعب دوراً "مهماً وتاريخياً في محاولته الدفع نحو اقتصاد عالمي جديد"، وأكد دعمه الرؤية الاقتصادية للبابا فرنسيس ومواقفه من التغير المناخي.
هل من ملامح رئيسة، في اختصار غير مخل ومن دون تطويل ممل، لرؤية البابا فرنسيس للاقتصاد العالمي؟
اقتصاد فرنسيس رؤية كوسمولوجية
في السادس من مايو (أيار) من عام 2016، وحين حضر قادة الاتحاد الأوروبي إلى حاضرة الفاتيكان، كان فرنسيس حاسماً وحازماً في محبة وصدق، ساعياً لعمل الخير بالمحبة، ناصحاً وإن لم يملك الفرق العسكرية التي يمكنها أن تحقق أفكاره بالقوة، كما تندر جوزيف ستالين ذات مرة على البابا بيوس الثاني عشر، حين قال: "كم فرقة عسكرية يمتلك البابا؟".
في اللقاء المشار إليه دعا البابا إلى تغيير النظام الاقتصادي الذي يسود العالم، والذي وصفه بأنه "نظام غير منصف، لا يراعي حقوق المستضعفين في الأرض"، الأمر الذي دعا للخوف على حياة البابا من جراء مواقفه المعادية للرأسمالية والإمبريالية، وفق ما صرح به الرئيس البوليفي إيفو موراليس ذات مرة.
عشية انعقاد المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس بسويسرا في 22 يناير (كانون الثاني) 2016 بعث البابا فرنسيس برسالة إلى المشاركين في هذا المحفل الاقتصادي الكبير، حملها إلى المؤتمر الكاردينال بيتر توركسون، رئيس المجلس البابوي للعدالة والسلام، تطرق فيها إلى المشاكل التي يعاني منها عالم العمل؛ حيث تقوم "الثورة الصناعية الرابعة" بالحد من فرص العمل في وقت تشير فيه آخر دراسات المنظمة الدولية للعمل إلى أن مئات ملايين الأشخاص هم اليوم عاطلون عن العمل.
يؤكد البابا فرنسيس في رسالته أن تلك الثورة تزيد من معدلات الفقر، وانعدام المساواة في مناطق عدة حول العالم، وتضع العالم أمام معادلة أخلاقية طرفاها التقدم التكنولوجي والإنسان، وهل يترك الطرف الأول ليسيطر على الثاني تماماً؟
الرسالة عبارة عن صرخة إنسانية وروحية لأصحاب رؤوس الأموال، وقادة الدول الصناعية، وصناع القرارات السياسية، تحمل خوفاً على فقراء الأرض الذين يطالب البابا أثرياء العالم بعدم نسيانهم، عطفاً على المهمشين، وكذا المعوزون، ومن يسميهم الأقل حظاً.
لا تفيد الأقوال أو المشاهد البكائية، من دون تغيير حقيقي فاعل وناجز على الأرض، ومن هنا يعد البابا فرنسيس في رسالته أن البكاء أمام مآسي الآخرين لا يعني فقط المشاركة في آلامهم ومعاناتهم؛ إذ لا بد أن ندرك اليوم أن أفعالنا مسؤولة عن حالات الظلم وانعدام المساواة.
الحبر الروماني ودعوة لرؤية بؤس العالم
يدعو فرنسيس "الفقير وراء جدران الفاتيكان" كبار العالم وأسياده الجدد إلى فتح الأعين: "كي نرى بؤس العالم، وجراح العديد من الإخوة والأخوات المحرومين من الكرامة، لنشعر بأننا مستفزون للإصغاء لصرخة النجدة التي يطلقونها، ولنشد بأيدينا على أيديهم، ولنجذبهم إلينا كي يشعروا بحرارة حضورنا وصداقتنا وأخوتنا، ولتصبح صرختهم صرختنا، ولنهدم معاً حاجز اللامبالاة التي غالباً ما تسود لتخفي الخبث والأنانية".
لا يوفر بابا روما متابعة دقيقة للتبدلات الجذرية والعميقة التي نشهدها اليوم على صعيد الاقتصاد العالمي، وكيف أن رجالات الدين والمؤسسات الدينية حول العالم أضحى فرض عين عليهم رفع عقيرتهم للمطالبة بحماية الكائن البشري والبيئة من نتائج تلك الثورات وتبعاتها، التي تزيد الأغنياء غنى، وتفقر الفقراء بأكثر مما هم فيه.
رسالة فرنسيس إلى دافوس، أقرب ما تكون إلى رؤية "يوتوبية" تهدف إلى العمل على بناء مجتمع بشري يشمل الجميع، ويرتكز إلى احترام الكرامة البشرية والتسامح والرأفة والمحبة؛ وبهذا يمكن أن يصبح المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس منصة لحماية الخليقة والدفاع عنها من أجل التوصل إلى عملية سلمية وبشرية اجتماعية متكاملة، وفي سبيل الوصول إلى تحقيق أهداف أجندة التنمية المستدامة لعام 2030، والاتفاق الذي تم التوصل إليه في باريس بشأن مواجهة ظاهرة التبدلات المناخية.
عادة ما يتوقف البابا فرنسيس محذراً ومنذراً من "المادية التكنوقراطية عديمة الضمير"، تلك التي تولد وعوداً وهمية، داعياً إلى وضع سياسات أكثر إنسانية.
في أكتوبر عام 2017 استقبل البابا فرنسيس أعضاء الأكاديمية البابوية للحياة، ورئيسها المونسنيور "فينشنسيو باليا"، بمناسبة جمعيتها العامة الـ23، التي التأمت وقتها في الفاتيكان تحت شعار "مرافقة الحياة والمسؤوليات التكنولوجية الجديدة".
في ذلك اللقاء ذكّر البابا فرنسيس بـ"مخاطر النزعة المادية القاسية التي تميز التحالف بين الاقتصاد والتكنولوجيا، ولفت إلى أن إنسان اليوم يبدو أنه يمر بمرحلة خاصة من تاريخه الذي تلتقي فيه على نحو غير مشهود، الأسئلة القديمة والحديثة دائماً عن معنى الحياة البشرية، مصدرها ومصيرها؛ مبيناً أن السمة الرمزية لهذه المرحلة يمكن تلخيصها في الانتشار السريع لثقافة ترتكز على نحو استحواذي على سيادة الإنسان على الواقع.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
رأس الرومانية الكاثوليكة وتحذير من الفردانية
البابا الذي لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون شيوعياً يحذر من أن هناك من يتحدث عن عبادة حقيقية لنفسه، يضحي على مذبحها بكل شيء، بما في ذلك أحب العلاقات إلى قلبه، وعادة ما يؤكد أن: "ذلك المنظور مؤذ؛ لأنه يجسد شخصاً ينظر إلى نفسه في المرآة باستمرار، حتى يصبح عاجزاً عن تحويل عينيه إلى الآخرين والعالم، وأن "انتشار هذا الموقف له عواقب وخيمة على جميع العواطف وعلاقات الحياة".
هل يعني ذلك أن البابا فرنسيس ينفي أو يقلل شرعية تطلع الفرد لنوعية الحياة وأهمية الموارد الاقتصادية والتقنية التي يمكن أن تعزز ذلك؟
بالتأكيد هو لا يفعل ذلك، وعند قداسته أيضاً أنه لا يمكن أن يسود هذا تحت صمت المادية عديمة الضمير التي تميز التحالف بين الاقتصاد والتكنولوجيا، الذي يعد الحياة مورداً يجري استغلاله أو التخلص منه لصالح السلطة والربح.
ينظر فرنسيس كما لو كان خبيراً اقتصادياً ماهراً للغاية، لا سيما عندما يشير إلى أن رجالاً ونساء وأطفالاً في جميع أنحاء العالم يعيشون، لسوء الحظ، تجربة مرارة الوعود الوهمية وألمها لهذه المادية التكنوقراطية؛ كذلك لأنه "خلافاً للدعاية لرخاء يمكن أن ينتشر تلقائياً مع توسع السوق، تتوسع رقعة الفقر، والصراع، والرفض، والإقصاء، والاستياء، والبأس".
يبحث الأب الأقدس الجالس سعيداً على كرسي مار بطرس عن تقدم علمي وتكنولوجي حقيق بأن يلهم سياسات أكثر إنسانية.
في هذا السياق كان الكرسي الرسولي بقيادة البابا فرنسيس يدعو إلى وقف "أشكال الأوليغاركية"؛ أي حكم الأقلية من قبل الشبكات الاقتصادية والمالية العظمى.
ففي وثيقة أعدها مجمع عقيدة الإيمان في حاضرة الفاتيكان بالتعاون مع الهيئة المعنية بالتنمية البشرية المتكاملة، وحظيت بموافقة البابا فرنسيس، ونشرت في مايو 2018، حذر الكرسي الرسولي من "تزايد سلطة جهات متنفذة وشبكات مالية كبرى وانتشارها"؛ لأن "من عليه ممارسة سلطة سياسية ما، غالباً ما يكون مشوشاً وعاجزاً بسبب تجاوز البعد الوطني لهذه الجهات وحركة رؤوس الأموال التي تديرها"، بينما "ينبغي له أن يكافح في سبيل الاستجابة لدعوته الأصلية وهي خدمة الصالح العام".
الوثيقة المشار إليها تؤكد أن هناك ضرورة الآن أكثر من أي وقت مضى لتحالف متجدد بين الجهات الاقتصادية والسياسية، في مجال تعزيز ما يلزم لتطور متكامل لكل إنسان وللمجتمع برمته، والجمع في الوقت ذاته بين متطلبات كل من التضامن والرعاية معاً.
صوت البابا الإنساني غير الماركسي في الوثيقة يشير إلى أن "الأسواق تعجز عن ضبط نفسها وحدها، والصناعة المالية اليوم، بسبب انتشارها، إن صح التعبير، قدرة تأثيرها التي لا مفر منها في السيطرة على الاقتصاد الحقيقي، أصبحت مكاناً يمكن للأنانية والقمع أن يحدثا فيه ضرراً لا مثيل له للمجتمع".
وخلاصة الوثيقة القول: "يجب إدانة المواقف اللاأخلاقية، التي تخلق ظروفاً يسهل فيها توليد الإساءات وعمليات الاحتيال على نحو كبير، وخصوصاً على حساب الأطراف الأقل حظاً".
السؤال الأخير على هامش هذه القراءة: هل كان للبابا الروماني الكاثوليكي، المصلح الاقتصادي لأحوال العالم، أن يصمت عن إعادة ترتيب الأمور المالية والاقتصادية لدولة الفاتيكان؟
في الأول من سبتمبر (أيلول) من عام 2014، صدرت مجلة FORTUNالأميركية ذائعة الصيت بغلاف يحمل صورة فرنسيس مبتسماً، وبعنوان عريض (HOLY REFORMER) أي "المصلح المقدس".
بعد حوالى خمسة أشهر، على استقالة البابا بندكتوس السادس عشر وبحسب قصة المجلة التي تهتم بشؤون الثروات والاقتصاديات حول العالم، أعلنها البابا فرنسيس صراحة: أريد وضع خطة تعيد هيكلية العمل الاقتصادية داخل الفاتيكان، التي من شأنها إصلاح سلسلة الأزمات المالية التي ألمت بالفاتيكان على فترات متعاقبة.
هل من دلالة جذرية لمثل هذا التصريح، وفي وقت سريع على تسيده للبابوية؟
فرنسيس بابا للمتألمين لا الشيوعيين
المؤكد أن التصريح هنا ينم عن اهتمام البابا الأول بالفقراء، قبل أي قيمة أو أولوية أخرى؛ فقد جعل فرنسيس اهتمامه بالفقراء والمسامحة أعلى من جميع الأمور العقائدية التي تخص إيمان الكنيسة.
عندما التقى البابا فرنسيس مرتدياً زيه الأبيض المتواضع وصليبه المعدني، مجموعة من الخبراء الاقتصاديين في شهر أغسطس (آب) 2014، بدا لهم رئيس مجموعة اقتصادية وهو يرسم خطته الاستراتيجية؛ إذ بدأ بالكلمات التالية: "إن رسالتنا الروحية يجب أن تقوم على المصداقية... لذا يجب أن نكون أولاً شفافين في أمورنا الاقتصادية؛ فبعد قرون من السرية والتآمر، آن الأوان لكي نفتح دفاترنا لمؤمني الكنيسة، علينا أن نتبنى الضوابط الصارمة والبروتوكولات الواضحة والشفافة لننهي هذه الدوامة من الأزمات التي أساءت أيما إساءة للمؤسسة الكاثوليكية الفاتيكانية في الأعوام المنصرمة".
في لقائه مع المجموعة الاقتصادية شرح البابا مستفيضاً: "إن ممارسات الفاتيكان التي من شأنها عدم الكفاءة قد حرمتها من أن تحب الآخرين، وعلينا لجم هذه الممارسات على الفور".
قبل أن يختتم البابا مداخلته توجه لمجموعته وقال: "أنتم الخبراء، أثق بكم، الكرة في ملعبكم الآن لتجدوا حلولاً لهذه المشكلات، وأريد هذه الحلول بالسرعة القصوى".
بدا فرنسيس بابا صاحب نظرة معقدة، ولكنها براغماتية مستنيرة في إدارته المالية للفاتيكان: "الأموال مهمة لتحقيق الكثير من الأمور، أمور تساعد الإنسانية على تحقيق غايتها، لكن عندما يصبح قلبك متعلقاً بها فهي تدمرك".
باكراً جداً تجلت تباشير "المصلح العظيم" في الفاتيكان؛ فقد ألغى البابا أموراً بروتوكولية ومجاملات درج السابقون عليها: لا معاملة خاصة للأشخاص والشركات المانحة، وفي المقابل لا معاملة خاصة للكنيسة في مباشراتها الاقتصادية مع البنوك، لا عشاءات عمل مع المانحين؛ فهذا ليس من شأن البابا؛ وبذلك كان فرنسيس يبعث برسالة خاصة وواضحة لجميع الكرادلة الذين وصلت بهم الأمور إلى جعل هذا النوع من اللقاءات "بيزنس" خاصاً بهم؛ والأهم على الإطلاق لا قداديس خاصة لأولئك المانحين؛ فهذا البروتوكول أصبح من الماضي.