ملخص
يشكل كتاب "في العنصرية الثقافية" بحسب الكاتب عبد الكريم بدرخان، باباً للتعرف إلى نوع آخر من العنصريات، هو العنصرية الثقافية. وقد جعل الكاتب كتابه في سبعة فصول، خص الفصلين الأولين بتعريفه مفهوم الثقافة، والجوهرانية، ومفهوم العنصرية الثقافية، في حين عالج في الفصل الثالث والرابع نظريتي السياسة والمؤامرة، وعرج على العنصرية الثقافية في الأدب، ثم خلص إلى محاكمة العنصرية الثقافية وطرح الرؤية البديلة، في الفصلين الأخيرين من الكتاب.
ينطلق كتاب "في العنصرية الثقافية: نظريات ومؤامرات وآداب" للكاتب السوري عبد الكريم بدرخان الصادر حديثاً عن دار المركز العربي لدراسة السياسات، في بيروت، من نقطة مفصلية لا يمكن تجاهلها، في زمننا الحاضر، أواسط العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين، وهي احتشاد ما يُزعم أنها تجمعات عرقية، في أركان هذا العالم المعاصر، وتأهبها لمقاتلة بعضها بعضاً، إعلاءً لعرقها أو عنصرها الغالب، والانقضاض على عدوها المهدد لهويتها (اللغوية، أو الجغرافية، أو الطائفية، أو التاريخية، أو...)، في ما يمكن أن يُعتبر حرباً عالمية ثالثة، تحقيقاً لتوقع هنتنغتون المريب حول صراع الحضارات، ونذيرها الواضح صعود اليمين المتطرف في الغرب، بالتزامن مع حلول أنظمة متطرفة في الشرق، تخلط المصالح بالهوية.
ولنا في ذلك أمثلة الحرب الروسية- الأوكرانية، وحرب إسرائيل الشعواء على الفلسطينيين، والحرب الأهلية في السودان، والحرب التركية ضد الأكراد، وغيرها. وما وقود هذه الحروب إلا مشاعر الغبن والحقد من طرف على آخر، بدعوى استلابه حقوقه الثقافية التي يزعم حصرية امتلاكها، أو دعوى انتهاكه مرتبته الأدنى، أو تجاوزه الحد الممنوح له في عبوديته المقنعة.
يورد الكاتب عبد الكريم بدرخان، في سياق تعريفه للثقافة عديداً من دلالاتها، بدءاً من المعنى الأصلي القديم (ثقِف الشيء، أو حذقه)، بحسب لسان العرب، إلى دلالتها اللاتينية الدامجة بين الزراعة، والتأدب، وصولاً إلى معناها بالإنجليزية الذي يشير إلى مجمل المعارف والفنون والمعتقدات والمواقف التي يشترك فيها قومٌ، من دون آخرين. أما الجوهرانية، فهي المفهوم الذي يتبناه البعض ويزعم في اعتباره "أن ثمة جوهراً تصدر عن ثقافة معينة" (ص32)، ويكون حاسماً في تحديد هوية صاحب الثقافة. وبالطبع، لئن يصح مفهوم الثقافة، بتعدد دلالاته، فإن مفهوم الجوهرانية قاصر بحكم المنطق؛ إذ لا يمكن لبعدٍ واحد، في ثقافة شعب، مثل اللغة أو الاعتقاد الديني، أو العرق، أن يصنف هذا الشعب تصنيفاً نهائياً، تمهيداً لإصدار حكمٍ معياري عليه، على ما يقوله الباحث بدرخان. وبناء على ذلك، رأت الأصوليات الغربية التي تنامت في خلال القرن التاسع عشر، بالتوازي مع تنامي الدراسات الفقهية اللغوية، أن تستند إلى مفهوم الجوهرانية هذا لتقسم الشعوب وفاقاً للغتها، وبعضها بحسب لون بشرتها، وبعضها الآخر بحسب ديانتها، وهكذا دواليك.
ما العنصريات؟
ولما كان موضوع الكتاب العنصرية الثقافية، ارتأى الباحث بدرخان أن يتوسع في التعريف بالعنصريات السابقة لهذا النوع؛ فيقول الكاتب، استناداً إلى مراجعه الأجنبية والعربية، إنه كان ثمة أنواع من العنصريات السابقة للعرق، مثل تصنيف "البربري" أي "الشخص الهمجي غير المتمدن"، وقد أطلقه اليونانيون على كل الشعوب من غير اليونان، مثل الفرس والميديين والمصريين والفينيقيين. ولما أنس الرومان من أنفسهم أنهم قومٌ حضاريون، صاروا يطلقون صفة "بربري" على كل من لا ينتمي إلى حضارة اليونان والرومان. ومثلهم فعل الإيطاليون، إبان عصر النهضة، إذ يطلقون هذه الصفة على من ليس مسيحياً، وعلى سكان شمال أفريقيا (البربر). ولئن كان العرب يطلقون صفة "أعجمي" على من يتكلم بلغة غير عربية، فلا نحسب أنها كانت تنطوي على توصيف عنصري، يحط من نوعه، وإنما كان تعريفاً تمييزياً له عن العربي اللسان والإقامة. ومثل ذلك كان ثمة العنصرية القبلية والجغرافية والطبقية التي لم يتوان بعض المفكرين، مثل ابن خلدون ومونتيسكيو وغيرهما عن تبنيها.
النزعة العرقية
ولاحقاً ظهرت نظرياً علمية زائفة، ولا سيما في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، تقول بوجود فوارق عرقية بين البشر، توجب إعادة النظر في مراتبهم، وصولاً إلى نزع صفة البشر عنهم، كما فعل الكاتب الكونت دو بوفون الذي نظر إلى الرجل الأسود على أنه "حيوان كامل مثل القرد" (ص54). في حين توسع الكونت دي غوبينو (1816-1882) بنظريته العنصرية، فجعل الأعراق الكبيرة ثلاثة: الأبيض (القوقازي)، والأسود (الزنجي)، والأصفر (المغولي)، وجعل العرق الأبيض خير الأعراق، لما يحمله من خصائص ومميزات تفوق ما لدى العرقين الأخيرين، على حد زعمه. وعلى هذا النحو، توالى منظرو الأعراق في القرن التاسع عشر، تسويغاً للتوسع الاستعماري في البلدان ذات الأعراق الدنيا، ترفدها دعوات مسموعة (من قبل سولي برودون، وإدوار درومون، وستيوارت شامبرلاين، وغيرهم) إلى تجريد حملات على يهود أوروبا لكونهم مسؤولين عن الأزمات التي عصفت بالقارة، وعن هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، حملات أدرجها النازيون (هتلر) والفاشيون (موسوليني) في برامج حكمهم مطلع الثلاثينيات من القرن العشرين.
الصراع الثقافي
في الفصول اللاحقة من الكتاب، يستعرض الباحث عبد الكريم بدرخان العوامل التي جعلت ظاهرة العنصرية الثقافية فاعلة، بعد سقوط النظريات العرقية واعتراف الأمم بشرعة حقوق الإنسان، وقيام العديد من الدول إثر تحررها من نير الاستعمار، وأهم تلك العوامل حاجة الدول المستعمِرة إلى خطاب جديد تجيره لمصلحة سيطرتها المتجددة على بعض هذا العالم وموارده المادية؛ وهذا الخطاب إن هو إلا العنصرية الثقافية التي من شأنها أن تقسم البشر بناءً على معيار جوهراني (حاسم) هو معيار ثقافي، بالمعنى الشامل (فكري، ديني، حضاري، لغوي، الخ). ومن ثم يعمد الباحث إلى دحض المقولات التي تصدر عن هذه العنصرية الثقافية، بالعودة إلى الوقائع التاريخية والاجتماعية والسياسية التي يمكن تبينها.
مقولات عنصرية
ومن المقولات التي يعمد الكاتب بدرخان إلى دحضها، زعم بعض الفلاسفة، أمثال مونيسكيو، بأن الملَكية هي أكثر ملاءمة للدول الأوروبية، فيما "الاستبداد الشرقي" هو قدَر دول الشرق وشعوبها. وادعى البعض بأن البروتستانتية هي أكثر الفرق الدينية تحفيزاً للديمقراطية، في مقابل رضا الشعوب الشرقية بما رسمه الدين. ههنا يرد الباحث على هذه المزاعم بالإحالة على الوقائع السياسية في العالمين الغربي، والشرقي، وما انتجته الرأسمالية الحديثة من وسائل حكم تلائم مصالحها، وتتماشى مع القيَم والمفاهيم السياسية المصاحبة لقيام الدول، غربية كانت أم شرقية. ولكن هذا لا يعفي الغرب الرأسمالي بالضرورة من تحفيزه النزعات الهوياتية، على ما بينه فرانسيس فوكوياما، وجعله الشعوب، في الديمقراطيات الغربية تنقسم انقسامات عمودية، أي بناء على الجندر، والهوية القومية، والدين، واللغة، تبديداً لقوة العمال وإضعافاً لبنيتها النقابية التي تكفل تحقيق مطالبهم المشروعة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبين الباحث، كذلك، أن كل ما أُلصق من صفات جوهرانية على الأديان، ولا سيما الإسلام (في أنه داعٍ إلى العنف، أو التمييز) في مسعى إلى تحقيق الصراع المزعوم بينه وبين المسيحية، ذات الانتماء الغربي، إنما هي صفات لطالما كانت لصيقة بكل سلطة سياسية، بدءاً من تولي قسطنطين الملك الحكم في القرن الرابع ميلادياً، وحتى نابليون في القرن التاسع عشر، كانت تجهد في تكريس اتجاهها العقيدي والإيماني بقوة سلطانها. وللمزيد من التبيين أورد أمثلة على عيش النصارى، في بلاد الشام، واستقبالهم رسل الدعوة الإسلامية، ومشاركتهم تالياً في الحكم (مثاله بنو تغلب، وغيرهم) إبان الدولة الأموية ومن بعدها العباسية، ثم مساهمة نخبهم من العلماء العارفين والمتكلمين لغات (اليونانية، والسريانية، والعربية) عصرهم في ترجمة الدواوين إلى العربية ونقل علوم الإغريق (الفلسفة، والطب، وعلم الفلك، والحساب، وغيرها) والهند إلى لغة الضاد، توفيراً لأجواء النهضة الحضارية الأولى.
خرافة المؤامرة
ومن أحدث الحملات الشعواء، على ما يقول الباحث بدرخان، والتي بات يشنها اليمين المتطرف، في أوروبا، ضد العرب والمسلمين، وغيرهم من شعوب العالم الثالث التي فاضت بلدانها بأكثر المشكلات حدةً وعتواً، عنينا بها نهب الغرب لثروات هذه الشعوب، وتجريدها من عوامل القوة والمنعة الداخلية. ويورد الباحث أمثلة من النظريات التي تدعي تدبير العرب والمسلمين مؤامرات على أوروبا تمهيداً لأسلمتها واحتلالها، منها نظريات رينو كامو وإيريك زِمور الفرنسيين، والإيطالية أوريانا فالاتشي عبر كتابيها الغضب والكبرياء، وقوة المنطق، وفيها يفند الكاتب تلك النظريات، ويخلص إلى أنها ترقى إلى الأوهام، والخرافات والمسلمات التي لا منطق فيها سوى تغطية المسبب الأول لقيام الثورة الفلسطينية، والحركات الرديفة، وهو الاحتلال الإسرائيلي، وصنوه الاستعمار الأجنبي لبعض البلدان العربية.
وأياً يكن، فإن الكتاب "في العنصرية الثقافية" يقدم للقارئ العربي ثبتاً لا غنى عنه في نقاش مسألة راهنة وضاغطة، وهي العلاقة المضطربة والصراعية مع الغرب، في زمن الالتباس الأكبر.