تأتي الحروب والصراعات المسلحة محملةً بآثار مميتة ومقيتة، فهناك قتلى وجرحى وخراب ونزوح ولجوء. لكن هذه الآثار تتضاعف وتتفاقم حين يتعلق الأمر بأطفال في أماكن صراع لم يكونوا في أفضل حال قبل بدء الحرب، ولم يحظوا بحياة طبيعية في ظل أسرة وبيت ومدرسة، بل كانوا أصلاً يعانون الأمرّين: مرارة اليتم ومرارة العوز، ومنهم مَن تُضاف إلى حمولته مرارة الإعاقة.
القصة الحزينة
القصة الحزينة الأحدث للأيتام في الحروب والصراعات تدور رحاها في أوكرانيا حالياً. تعداد الأطفال الأيتام في أوكرانيا لا يقل عن مئة ألف طفل، بحسب تقديرات منظمات إغاثة ومصادر أوكرانية رسمية. هؤلاء كانوا يقيمون في دور أيتام ومدارس داخلية ودور رعاية ذوي الاحتياجات الخاصة. وبحسب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فهذا هو الرقم الأكبر في أوروبا. وبلغة الأرقام، فإن 1.3 في المئة من أطفال أوكرانيا مودَعون في دور رعاية، هؤلاء ليسوا فئات أضعف، هم فئات بالغة الضعف.
وحذرت منظمة "أنقذوا الأطفال" (تُعنى بحقوق الأطفال) قبل أيام، من أن العدد الأكبر من الأطفال المودَعين في دور أيتام ورعاية في أوكرانيا، معرضون لخطر البقاء وحدهم بعد نزوح المسؤولين عن رعايتهم أو من تبقّى من أفراد أسَرهم. وعلى الرغم من أن عدد الأطفال الذين نزحوا من أوكرانيا منذ بدء الحرب يُقدَّر بنحو مليوني طفل بحسب أرقام "يونيسف"، فإن أطفال دور الأيتام ما زالوا معرضين يومياً على مدار الساعة لأهوال الحرب، وأحياناً من دون رعاية.
أطفال في حالات خطيرة
رعاية الأطفال الأيتام أو المصنَّفين "في حالات خطيرة" في أوكرانيا كانت ضمن المشكلات التي تواجهها البلاد قبل اندلاع الحرب. فعدد الأطفال الذين فقدوا ذويهم، أو اضطُر ذووهم إلى إيداعهم دور رعاية لعدم قدرتهم على تربيتهم والإنفاق عليهم بسبب إدمان المخدرات أو الكحول أو الفقر أو المرض أو الاختلال العقلي، وهم من يُسمّون بـ"أيتام لأسباب اجتماعية"، أو بسبب إعاقة الصغار، هو العدد الأكبر في أوروبا. وفي الأعوام الماضية، تواترت القصص عن تعرض كثرٍ من أولئك الصغار لاعتداءات جنسية وبدنية من دون رقابة أو حساب.
وتشير منظمة "تشايلد آيد" (تُعنى بالأطفال) إلى أن هؤلاء الأطفال كانوا يواجهون مأساة أخرى عند بلوغهم عمر 16 سنة، وخروجهم من دور الرعاية، إذ يتجهون بغالبيتهم إلى الشارع بلا مأوى أو مال وبمستوى تعليم متواضع. وتفيد الإحصاءات بأن بين 10 إلى 15 في المئة من هؤلاء الأطفال ينتحرون قبل بلوغ الـ18 سنة. وبين 60 إلى 70 في المئة منهم ينخرطون في أعمال الاتّجار بالجنس وأشكال مختلفة من الجريمة المنظمة.
من جهة أخرى، فإن طفلاً يتيماً معوّقاً يموت كل 3 أشهر، بسبب عدم توافر الرعاية الصحية. وظلت أكبر مشكلات هؤلاء الصغار، ضعف نظام الرعاية الاجتماعية والمعيشية الرسمية المتوافرة لهم مع تزايد أعدادهم، وعدم وجود نظام صارم لمراقبة أوضاعهم ومتابعتهم وتقييم الرعاية المقدمة لهم في الدور المختلفة.
قبل الحرب
كان هذا قبل حرب روسيا في أوكرانيا. بعد الحرب، لا يمكن وصف أوضاع هؤلاء الأطفال إلا بالمأساوية والفوضوية. جانب من دور الرعاية تعرّض للقصف أثناء الأسابيع الأولى للحرب، ما دفع أطفالاً كثراً إلى الفرار. وبات بعض هؤلاء الأطفال في عداد المفقودين وذلك تحت وطأة الفوضى والدمار واختلال منظومة الرقابة على دور الرعاية من الأصل.
وعلى الرغم من أن ذوي بعضهم توجهوا إلى دور الرعاية التي يقيم فيها الصغار في بداية الحرب لتسلّمهم، فإن الغالبية لم تفعل، ما يضع مئة ألف صغير يتيم وبينهم معوّقون في خانة الخطر، فالتعرض للتشرد والموت والوقوع في براثن عصابات الاتّجار بالبشر، وربما كذلك فوضى التبني.
يتفرقون في ربوع الأرض
قد لا يبدو وصول 52 طفلاً وطفلة تتراوح أعمارهم بين سنة و16 سنة إلى اسكتلندا قبل أسابيع قليلة، آتين من دار رعاية أيتام في دنيبرو في أوكرانيا عبر بولندا فوضوياً. فالمهمة الخيرية لإجلاء الصغار تكللت بالنجاح ويُعمل على ترتيب أوضاع معيشتهم في إدنبره.
مهمة شبيهة تكللت بالنجاح أيضاً حين وصلت طائرة "العال" الإسرائيلية إلى مطار بن غوريون وعلى متنها مئة طفل أوكراني يتيم، ضمن عملية إجلاء 300 طفل يتيم أوكراني يهودي إلى إسرائيل.
وكادت تنجح مهمة ثالثة، لنقل طفل أوكراني يتيم إلى زوجَين أميركيين كانا قد بدآ إجراءات تبنّيه لكن الحرب حالت دون إتمام الإجراءات. لكن هذه المهمة كانت أقرب ما تكون إلى أفلام الإثارة الهوليوودية، بحسب شبكة أخبار "سي أن أن" الأميركية، إذ إن "البطل الأميركي الخارق" يهرع لتخليص أحدهم في دولة أخرى من دون نظر إلى قوانين أو أخطار أو حدود أو عوائق. فقد طلب الزوج وهو جندي أميركي سابق خاض حرب العراق عام 2003، مساعدة صديق من رفاقه المحاربين القدامى، وسافرا بالفعل إلى بولندا لوضع الخطة بعدما قررا "إنقاذ" الصبي ومجموعة أخرى من الأيتام الأوكرانيين. لكن المهمة فشلت وعاد الزوجان والصديق إلى أميركا من دون الصغار وخضعوا لتحقيق يتهمهم بالشروع في الاتّجار بالبشر. وجرى نقل أطفال آخرين إلى تركيا ورومانيا ومولدوفا، لكن هذا لا يعني أنهم باتوا في مأمن.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
شبح الاتّجار بالبشر
فالمؤكد أن شبح الاتّجار بالبشر، سواء بغرض عرض الصغار للتبني بمقابل مادي أو بيع الأعضاء أو الاتّجار بالجنس أو العمالة أو غيرها، يلوح في أفق هؤلاء الصغار. منظمات حقوقية عدة تحذر منذ بدء الحرب مما يمكن أن يتعرّض له اللاجئون والنازحون من مخاطر الاتّجار بالبشر، لا سيما النساء والأطفال النازحين من دون ذويهم. منظمة "أمل وبيوت لأطفال أوكرانيا" (منظمة حقوقية تعمل لصالح الأطفال الأيتام) قالت في بيان إن "هؤلاء الأطفال يعيشون في بيئات منعزلة مع غياب نظام رقابة منتظم، ما يجعل أوضاعهم في ظل الحرب بالغة الخطورة، وتتفاقم الخطورة بالنسبة إلى المعوّقين منهم".
الجهود التي تُبذل من أجل هؤلاء ما زالت مبعثرة، وتعتمد بشكل كبير على عامل الحظ وقدرة الجهة المنقذة على ترتيب إجراءات دخول أوكرانيا والوصول إلى هؤلاء الأطفال مع إنهاء خطوات إجلائهم من دون التعرض لشبهة الاتّجار بالبشر.
من جهتها، أعلنت وزارة الخارجية النمساوية قبل أيام أنها استقبلت عدداً من الأطفال الأيتام الأوكرانيين من المعوّقين ومرضى السرطان وذوي الاحتياجات الخاصة.
بعض أطفال دور الرعاية في شرق أوكرانيا وشمال شرقها، الذين لم يتم اصطحابهم إلى خارج البلاد نزحوا مع من تبقّى من المتخصصين الاجتماعيين إلى أماكن أكثر أمناً في غرب أوكرانيا. وفي ضوء هروب عدد كبير من المتخصصين مع أسرهم وتركهم الأطفال، يبقى جانب كبير من إجلاء الصغار الموجودين في دور الرعاية في المناطق المعرضة للقصف، رهن مبادرات فردية من العاملين أو العاملات، ومنهم من يتكفل برعاية أكثر من 10 أطفال وحده. أطفال آخرون نزحوا وحدهم بمساعدة غرباء.
عرض أوكراني وطلب أميركي
وعلى الرغم من أن أيتام أوكرانيا يلبّون نسبة كبيرة من حاجات التبني من قبل عائلات أميركية، فوقت الانتظار في أوكرانيا يُعتبر ضمن الأقصر، إضافة إلى كثرة أعداد الأطفال في ظروف خطيرة، إلا أنه جرى تعليق إجراءات التبني منذ بدء الحرب. ووصل الأمر إلى درجة أن مصدراً في الخارجية الأميركية قال لمراسل شبكة "إيه بي سي" الأميركية إن الوزارة تراقب الوضع "بالنسبة إلى خدمات تبني أطفال أوكرانيين في أميركا عن كثب، ومستمرة في التواصل مع مقدمي الخدمات".
يُشار إلى أن العائلات الأميركية الراغبة بالتبني الدولي (أي من خارج أميركا) يتوجب عليها التعامل مع وكالة للتبني يكون مقرها في أميركا لترتيب عملية التبني، أو وكالة أخرى يكون مقرها بلد ميلاد الطفل.
وقال المصدر إن وزارة الخارجية الأميركية تتفهم مدى صعوبة الوضع للعائلات الساعية للتبني من أوكرانيا، لكنها في الوقت ذاته تحثهم على عدم السفر إلى هناك في هذا التوقيت الحرج، وأن على العائلات الأميركية في أوكرانيا، التي لم ترحل بعد، أن تفعل ذلك فوراً مع البقاء على اتصال دائم بمزوّدي خدمة التبني.
أرحام للإيجار
بُعد إضافي لمأساة الصغار الأيتام والمعوّقين الأيتام في أوكرانيا التي تفاقمت في ظل الحرب، يتمثل في الآلاف من أبناء وبنات الأمهات البديلات في أوكرانيا والمنسيين تماماً في خضم فوضى الحرب وفوضى الأيتام وفوضى النزوح.
تأجير الأرحام في أوكرانيا تجارة رائجة، والأهم من ذلك أنها رسمية. تكلفة تأجير رحم سيدة بهدف إنجاب طفل لمن تعذر عليه إنجابه بنفسه، زهيدة مقارنةً بأماكن أخرى. وفي الوقت ذاته، فإن المبالغ "الزهيدة" تصنع فرقاً كبيراً في حياة النساء اللواتي يؤجّرن أرحامهن وأسرهن. وفي كل عام، يولد بين ألفين وثلاثة آلاف طفل من أمهات بديلات قبلن تأجير أرحامهن لصالح "عملاء" أجانب، لا سيما من أميركا والصين ودول عدة في الاتحاد الأوروبي. معضلة المواليد هي مأساة حقيقية في ظل الحرب. فالأمهات البديلات الأوكرانيات يوافقن على تأجير أرحامهن ليستفدن من قيمة التأجير على أن يتم تسليم المولود إلى أسرته عقب الولادة. أما أن ينتهي بهن الحال بطفل لا يتمكّن "العميل" من استلامه بسبب الحرب، فهذا حمل مضاعف.
ويوجد عدد من أولئك المواليد في عيادات متفرقة، حيث ترعاهم ممرضات اخترن البقاء من أجل الاعتناء بهم، أملاً في تمكّن الآباء الأجانب من السفر إلى أوكرانيا وتسلّمهم في أقرب وقت ممكن.
الأكثر تضرراً في زمن الحروب
الأطفال الأيتام والمودعون في دور الرعاية لأسباب مختلفة هم الأكثر تضرراً في أزمنة الحروب والصراعات في كل مكان. فإذا كان الطفل الذي يعيش في كنف أسرته يهرب معها أو يلقى المصير ذاته الذي تلقاه أسرته، فإن أطفال دور الرعاية يجدون أنفسهم بين شقَّي رحى اليتم والعزلة والوحدة من جهة وآثار الحرب وما قد ينتج منها من إغلاق أو هدم دار الرعاية ونزوح القائمين عليها ليكونوا مع أسرهم وترك الصغار لمصير مجهول من جهة أخرى.
المصير المجهول يحوم حول كل دار رعاية يؤوي أطفالاً أيتاماً أو في ظروف حرجة أو معوّقين في دول تضربها الصراعات والحروب. فالحروب تخلّف أيتاماً يُقتل ذووهم في الصراع ويسمّون بـ"أيتام الحروب"، لكن من يعاصرون الحرب وهم أيتاماً بالفعل يجدون أنفسهم وقد سددوا فواتير اليتم مرتين. وهناك من الأطفال من يخرج إلى نور الحياة بفعل ظلام الحرب، وهي فاتورة أخرى قلما يتحدث عنها أحد.
البوسنة ورومانيا
فمثلاً، وبعد مرور ما يزيد على ربع قرن من الحرب التي قُتل فيها ما لا يقل عن مئة ألف بوسني، قلما يتحدث أحد عن الأطفال، أو الذين كانوا أطفالاً، ممن وُلدوا نتيجة اغتصاب الأمهات أثناء الحرب. منظمات غير حكومية تقدّر أعداد أولئك بين 25 و50 ألف طفل صاروا شباباً، منهم من ولد نتيجة اغتصاب الأم من قبل جنود كروات أو صرب، أو من أحد جنود قوات حفظ السلام. وما زال أولئك يعيشون وهم يحملون مغبة ما لم يقترفوه، مع وصمة العار على الرغم من محاولات إخفاء أصولهم.
محاولات إخفاء آلاف الأطفال الرومانيين الذين تخلى عنهم ذووهم بسبب الفقر أو عدم الرغبة بإنجابهم أو إعاقتهم لم تفلح على الرغم من مرور أعوام طويلة وهم يعيشون تحت الأرض. رئيس رومانيا السابق نيكولاي تشاوشيسكو، الذي قتلته وزوجته، الشرطة العسكرية بعد محاكمة عسكرية لم تدُم أكثر من ساعتين استجابةً لتظاهرات شعبية عارمة عام 1989، لم يحاسَب على إحدى أكبر مآسي التاريخ الحديث.
فقد قرر تشاوشيسكو وقت تسلّمه سلطة البلاد عام 1966 تبني سياسة زيادة المواليد قصراً، وذلك لتعجيل دخول رومانيا مجال التصنيع والحاجة إلى الأيدي العاملة غير المتوافرة بسبب معدل المواليد المنخفض. وأصدر قرارات بمنع الإجهاض لأي سيدة عمرها أقل من 40 سنة، أو لمن لديهن أقل من أربعة أطفال. واعتبر أن الجنين ملك المجتمع. كما فرض تشاوشيسكو سياسات قمعية لمراقبة النساء في سن الحمل ومعاقبة كل من يثبت تورطه في عدم حدوث الحمل أو في الإجهاض. وأدى ذلك إلى زيادة عدد المواليد، وكذلك زيادة الفقر واضطرار كثرٍ من الأسر إلى التخلي عن صغارهم وإيداعهم دور الرعاية، لا سيما الأطفال المعوّقين. ووصل عدد الأطفال المودَعين في دور رعاية تابعة للدولة في رومانيا عام 1989، إلى نحو مئة ألف طفل. لكن الأفدح كان اكتشاف دور رعاية يقيم فيها أطفال معوّقون في أوضاع مريعة، بعضها تحت الأرض.
رُوِّع العالم بتواتر صور فوتوغرافية لأطفال في دور رعاية وقد التصق جلدهم بعظامهم، وآخرين مربوطين في أرجل الأسرّة أو محبوسين خلف قضبان حديدية ناهيك عن سوء التغذية والمرض وبعضهم أوشك على الموت ليلحقوا بأقرانهم ممن عُثر على جثامينهم مكدّسة في طوابق تحت الأرض. وعلى الرغم من أن التحقيقات لم تصل إلى أشخاص بأعينهم يمكن اتهامهم بالتسبب في هذه الكارثة الإنسانية، إلا أن عمليات جمع المعلومات أشارت إلى أنه بين عامي 1966 و1989، قُدِّر عدد وفيات الأطفال التي كان يمكن منعها في دور الرعاية الرومانية، بين 15 و20 ألف وفاة، غالبيتها لأطفال معوّقين أيتام أو تخلّى عنهم ذووهم.
رفاهية القصف في حضن الأم
فواتير عدة يسددها الأطفال في زمن الحروب. ومن نكد الدنيا على سكان الكوكب أن يكون نزوح الأطفال مع ذويهم أو تعرّضهم للقصف بينما يقبعون في أحضان أمهاتهم نوعاً من الرفاهية أو حسن الطالع. ولم لا، وغيرهم ينزح وحده من دون قريب أو رفيق، أو يخوض تجربة القصف وهو قابع في قبو بارد ويكون محظوظاً لو رافقه متخصص اجتماعي لم يضطر إلى النزوح مع أسرته، أو خرج إلى الدنيا نتاج تلقيح اصطناعي في رحم أم بديلة سلّمته بناءً على تعاقد رسمي للشركة ليصل إلى "العميل"، لكن حالت الحرب دون حدوث ذلك.