ثماني سنوات مرت منذ أن طافت عربات الدفع الرباعي الحوثية حول مبنى التلفزيون بحي الجراف بصنعاء في 21 سبتمبر (أيلول) 2014، قبل أن تبث من على شاشته "رقصة البرع" الأولى تدشيناً لعهدها الجديد والإعلان عن سيطرتهم على العاصمة السياسية، من مبنى إعلام الدولة الرسمي التي أسقطوها بدعم من الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح عقب أيام من سيطرتهم على محافظة عمران المحاذية، بمزاعم "الشراكة السياسية وإسقاط الجرعة السعرية للبنزين".
كان الناس في دهشة من التحول الدراماتيكي السريع في سماء صنعاء الزرقاء التي توحي أن المواجهة محدودة، فالحوثي يكتشف كل ساعة أن الطريق سالكة للإجهاز على ما بقي من المدن بفضل انسحاب كل القوى العسكرية الموالية للشرعية اليمنية وأهمها قوات الفرقة الأولى مدرعة، التي يقودها الجنرال علي محسن الأحمر نائب الرئيس هادي السابق، لتتسارع مشاهد السقوط السريع وسط غفلة القوى اليمنية التي تاهت في خصومة تقاسم كعكة عهد ما بعد صالح وتبادلت تهم التفريط بالدولة وتسليمها لفتيان صعدة.
وحيداً بلا حيلة
وفي حين يتهيأ مذيعو الحوثي لتلاوة بيان نعي الجمهورية وقيام دولة الإمامة التي يؤمها عبدالملك الحوثي، بعد انسحاب كل القوات الموالية للقيادات التاريخية الشمالية، كان الرئيس التوافقي المنتخب عبدربه منصور هادي يقف وحيداً بلا حيلة وقد زج بالعشرات من حراسته وأقربائه لقتال آلاف العناصر الحوثية في مواجهات استمرت نحو يومين دارت رحاها حول "دار الرئاسة" جنوب المدينة، قتل فيها أبناء شقيقه، وعندما تضاعف الضغط الحوثي القادم من جبال رازح ومران وضحيان بصعدة رضخ الجنرال الجنوبي للقبول بمقترح المبعوث الأممي حينها، جمال بنعمر، للتوقيع على "اتفاق السلم والشراكة" الذي يقضي بإشراك الميليشيات المنقلبة في سلطات الدولة العليا.
الهروب الكبير
لم يدم السلم ولم تتم الشراكة، فعقب أسابيع سيضطر هادي إلى تقديم استقالته بمعية رئيس الوزراء حينها خالد بحاح، ثم سيغادر صنعاء على حين غرة من العيون الحوثية التي تحيط منزله بحي الستين إلى عدن ومن على تلفزيونها يعلن إلغاء استقالته "وكل القرارات المتخذة منذ الانقلاب الحوثي بما في ذلك اتفاق السلم والشراكة".
ومثلما كان الإعلان بمثابة الأمل لاستعادة الدولة كان يعني للحوثيين وصالح فرصة لا تعوض للبدء بهجوم شامل نحو الجنوب اليمني بدأته مقاتلات "السوخوي" العتيقة بإشراف الأخ غير الشقيق للرئيس صالح بقصف قصر معاشيق الرئاسي بعدن بحثاً عن رأس هادي، وهي المرحلة التي مثلت الإعلان عن مرحلة دامية في اليمن لا يعلم لها منتهى وخلفت كارثة إنسانية هي الأسوأ حول العالم.
من السياسي إلى العام
تطاير شرر الانقلاب ليشعل كل المدن اليمنية بعد تنامي موجات الرفض الشعبي وتشكيل ما عرف بـ"المقاومة الشعبية" خصوصاً والانقلاب جاء بدعم وتمويل وتدريب من نظام إيران، لتمتد نيرانه إلى السعودية باستخدام الصواريخ الباليستية والعبوات والألغام البحرية والمسيرات.
كما لم تتوقف آثار الانقلاب الحوثي عند حدوده السياسية، بل طاول تأثيره كل مناحي حياة اليمنيين.
إذ دشنت الميليشيات عهدها الجديد بموجة قمع عنيفة لا تزال تنتهجها حتى اليوم طالت كل من تشك في رفضه مشروعها الإيراني ثم نهب كل موارد الدولة ومن أهمها الاحتياطي العام المقدر بأربعة مليارات دولار، وفقاً لبيان حكومي، وهو ما انعكس على حياة اليمنيين والأوضاع الاقتصادية والإنسانية التي شهدت انهياراً تاريخياً غير مسبوق، فيما تستأثر الجماعة وسلالتها بنصيب الأسد من الثروة والسلطة المطلقة، وفقاً لتقارير فريق الخبراء الأمميين.
الحجة والنتيجة
مهدت الميليشيات لانقلابها بحملة إعلامية شرسة عززتها بتظاهرات ادعت من خلالها أن ثورتها تحتج على زيادة الأسعار في البلاد، بعد أن قررت حكومة محمد سالم باسندوة زيادة سعرية طفيفة في أسعار البنزين والمشتقات النفطية، ولكن عقب سيطرتها لم تسارع بإلغاء الجرعة السعرية، بل عملت على الضد تماماً عندما اتخذت تالياً زيادة سعرية عالية على أسعار البنزين والمشتقات النفطية الأخرى بلغت نحو 300 في المئة، كما سارعت بقطع مرتبات موظفي الدولة والاستئثار بإيرادات الدولة لتمويل حربها التي اتخذت في التوسع نحو باقي المحافظات الأخرى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفيما كانت تفرض هذه الإجراءات بقوة السلاح، كانت بالتوازي تنشر مخبريها ومشرفيها لقمع كل من يعبر عن احتجاجه للحال التي أوصلوا إليها البلد.
كان سعر الدولار الواحد حينها لا يتجاوز 215 ريالاً (0.86 سنت أميركي)، وبعد تثبيت أركان انقلابها تجاوز سعره حاجز الألف ريال يمني (أربعة دولارات أميركية).
موت وانهيار متلاحق
تسببت حرب الجماعة التي ترفع شعار "الموت لأميركا... الموت لإسرائيل" بقتل أكثر من 300 ألف يمني، في حين لم يمت أميركي أو إسرائيلي واحد، وجعلت نحو 18 مليون نسمة تحت خط الفقر. وشردت ما يزيد على ثمانية ملايين نازح مشتتين في مخيمات لا تقدم لهم المأوى المناسب، وحرمت الموظفين من مرتباتهم ونسبة الفقر تجاوزت 80 في المئة، وانتشرت الأمراض المختلفة وتدهور الوضع الصحي للأسوأ، وفقاً للأرقام والإحصاءات الرسمية الصادرة عن الأمم المتحدة في عام 2020.
كما دفعت نحو 2.9 مليون طفل يعانون سوء التغذية من أصل 5.4 مليون طفل، بنسبة تصل إلى 55 في المئة، بينهم نحو 400 ألف طفل مصاب بسوء التغذية الحاد الوخيم.
إضافة إلى ذلك أنشأت الميليشيات ما لا يقل عن 500 سجن ومعتقل سري اختطفت إليها طوال الثماني سنوات الماضية أكثر من 15 ألف مختطف، بينهم 3862 أخفوا قسراً، لا يزال منهم 236 مخفياً لا أحد يعلم عنهم شيئاً.
وأدت الحرب إلى تدمير البنية التحتية وانهيار الاقتصاد وخسارة اليمن 126 مليار دولار أميركي من النمو الاقتصادي المحتمل، وسط عجز دولي عن وقف آلة الحرب على رغم المساعي الدبلوماسية المستمرة.
اليوم المشؤوم
الحكومة اليمنية وهي تستذكر قصة الانقلاب عليها لم تجد وصفاً للمناسبة سوى وصفها بـ"اليوم المشؤوم".
وأشارت الحكومة على لسان وزير الإعلام والثقافة والسياحة معمر الإرياني إلى أن ميليشيات الحوثي سيطرت في يوم النكبة على مؤسسات الدولة وحاصرت الرئيس اليمني عبدربه منصور هادي ووزراء الحكومة.
وقال الإرياني في سلسلة تغريدات عبر موقع "تويتر"، إنه "في هذا اليوم المشؤوم تعرض اليمن لأكبر انتكاسة في تاريخه منذ انطلاق شرارته وانتصاره على الحكم الإمامي الكهنوتي البائد في 26 سبتمبر (أيلول) 1962".
ولفت إلى أن ميليشيات الحوثي تحاول إعادة حكم اليمن وفرض وصايتها على الشعب اليمني من جديد وتسعى لرهن البلد لأجندة النظام الإيراني.
وعدد المسؤول اليمني جرائم الحوثي بما فيها اختطاف مئات الآلاف وإخفاؤهم قسرياً وتعذيبهم، ولم تسلم حتى النساء اللاتي اختطفن من منازلهن وجرى اقتيادهن لسجون خاصة، ومارست الميليشيات في حقهن صنوف التعذيب النفسي والجسدي والتحرش والاعتداء الجنسي.
كما "نهبت الميليشيات الخزانة العامة والاحتياطي النقدي، وصادرت الأموال العامة والخاصة، وأوقفت رواتب الموظفين في القطاع الحكومي، ودمرت الاقتصاد الوطني وعطلت القطاع الخاص وحرمت مئات الآلاف من وظائفهم وحولتهم إلى رصيف الفقر والبطالة، وسرقت المساعدات من أفواه الجوعى"، على حد قول الإرياني.
مقاتلات الحلويات
ولأول مرة وفي استغلال للهدنة الأممية الجارية احتفلت جماعة الحوثي بذكرى الانقلاب بعرض عسكري هو الأضخم في ميدان السبعين بصنعاء، تخللته العبارات الطائفية الدخيلة التي لم يعهدها اليمنيون والمستوحاة من النظام الإيراني وحزب الله اللبناني مزودة بصور زعماء الميليشيات.
واللافت أن العرض شهد تحليقاً للطائرات المروحية التي راح بعضها يلقي بالقليل من الحلويات على رؤوس ملايين الجياع في صنعاء الذين سارع كثيرون منهم للتعليق عبر وسائل التواصل الاجتماعي ساخرين من الهدية الحوثية المتواضعة. مبدين خشيتهم من أن تباشر الميليشيات في اليوم التالي بتوزيع كروت تبرع على كل منزل لطلب قيمة هذه الحلويات كما هو دأبها لتمويل فعالياتها الطائفية.
وكالة "سبأ" التي تديرها الميليشيا قالت إن صنعاء "شهدت عرضاً شبابياً وعسكرياً هو الأكبر في تاريخ المنطقة".
وكما جرت العادة تزعم الميليشيات امتلاكها ما تصفه أسلحة "جديدة واستراتيجية" لم يكشف عنها سابقاً. وبهذه المناسبة، قال رئيس "المجلس السياسي الأعلى" التابع للحوثيين مهدي المشاط، في خطاب، إن جماعته حريصة على "السلام والانفتاح على كل الجهود والمساعي الخيرة".
ووجه المشاط دعوته إلى من سماهم "الأطراف الأخرى" إلى الانتقال من مرحلة التخطيط للحرب إلى العمل من أجل تحقيق السلام.
نكبة 21
وبالتزامن مع تحشيد الحوثيين قال عضو مجلس القيادة الرئاسي طارق صالح "أسقطت ثورة 26 سبتمبر الخراب المادي والمعنوي الذي راكمته معارك الإمامة وهي تحاول إخضاع اليمن واليمنيين".
وأضاف "ركام من فتاوى وسلطات وكتب وأفكار وتعبئة وتقسيم للمجتمع وإشعال حروب في كل عام وكل مكان... أسقطتها سبتمبر بيد الشعب وقدرته".
ودعا اليمنيين إلى التمسك بمبادئ ثورتهم والإيمان المطلق بديمومتها وحيويتها، حيث "لن يكون الحوثي أقوى من كل ذلك الخراب الذي أسقطته ثورة 26 سبتمبر، آمنوا بثورتكم".
وبعد سنوات ثمان من انقلاب الحوثيين بلباس "ثورة إسقاط جرعة البنزين"، يتساءل اليمنيون عن مصير بلدهم المنكوب بشيء من السخرية من الثورة التي جاءت لتلغي تلك الزيادة فأشعلت البلد بنار حرب ضروس لا يعرفون متى ينطفئ سعيرها الرهيب.