ما فعلته حكومة بنيامين نتنياهو الإسرائيلية في الشهر الأول من توليها السلطة في إسرائيل، لم تفعله حكومة سلفه يائير لابيد. فالعملية العسكرية باستخدام طائرات مسيرة واستهداف أكبر مجمعات التصنيع العسكري الحربي والنووي في مدينة أصفهان وسط إيران، لا يمكن أن تخرج عن سياق الرد الإسرائيلي على التصعيد الذي تشهده مدينة القدس والضفة الغربية في العمليات التي تستهدف المستوطنين، وإن كان العنوان الأول لهذه العمليات هو الثأر لمقتل نحو ثمانية فلسطينيين في مخيم جنين نتيجة الاقتحام الإسرائيلي له.
نتيناهو والقيادات الأمنية والعسكرية إضافة إلى القيادات السياسية بحكومة لابيد، يدركون أن ما تشهده الضفة الغربية من تنامي المظاهر المسلحة والمواجهات العسكرية التي تحدث بين قواتها والفصائل الفلسطينية، يرتبط بمراكز توجيه خارج فلسطين لا علاقة للسلطة الفلسطينية بها، وأن قوة القدس في الحرس الثوري الإيراني والنظام في طهران يقفان وراء تنامي هذه الظاهرة والانتقال من مرحلة السكون إلى مرحلة العمل المباشر والصريح، من خلال الفصائل المتحالفه أو المدعومة منه، وتحديداً حركة "الجهاد الإسلامي" ومعها حركة "حماس"، بفارق أن حركة "الجهاد" تعد بمثابة الجناح الإيراني في الداخل والخارج الفلسطيني، في حين أن العلاقة مع حركة "حماس" خاضعة لخصوصيات الأخيرة ومصالحها وطموحاتها لتكريس مواقعها وحصتها في السلطة على أساس المشاركة مع حركة "فتح" و"منظمة التحرير" الفلطسينية، إلى جانب ترك قنوات التواصل بينها وبين عمقها العربي والإسلامي غير الإيراني مفتوحة.
يمكن القول بتعبير يقارب الدقة، إن الساحة الفلسطينية على جغرافية الضفة الغربية، قد تحولت إلى منطقة صراع بين الخصمين الأساسيين في هذه اللعبة، أي إيران وإسرائيل، كواحدة من ضمن ساحات الصراع على مساحة الشرق الأوسط، وقد لا يكون مستغرباً أو بعيداً من الفهم، أن التصعيد الذي بدأت تشهده مدن الضفة الغربية، تزامن بشكل كبير مع بداية الحراك الشعبي داخل إيران، وعلى وجه الخصوص الجزء المتعلق بتحرك الفصائل الكردية الإيرانية المعارضة التي ترفع مطلب الانفصال، انطلاقاً من أراضي إقليم كردستان العراق، الذي تتهمه إيران بأنه تحول إلى قاعدة ومكان لأنشطة وعمليات جهاز الاستخبارات الإسرائيلية "الموساد"، ومنه انطلق عديد من العمليات الأمنية التي استهدفت مواقع استراتيجية للنظام، بخاصة قاعدة الطائرات المسيرة في كردستان الإيرانية.
بروز دور حركة "الجهاد الإسلامي" في الداخل وفي مناطق نفوذ وسيطرة السلطة الفلسطينية وأجهزتها، وإن كانت له عوامل داخلية وضرورات فلسطينية لهذه الحركة بعد العملية العسكرية التي قام بها الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة واغتيال قادة ميدانيين من الصف الأول لحركة "الجهاد"، وعملية ضرب الداخل الإسرائيلي في عملية أطلقت عليها هذه الفصائل اسم "سيف القدس" التي هدفت لتكريس قواعد اشتباك جديدة، إلا أن عوامل أخرى أيضاً فرضت هذا الدخول الصارخ لحركة "الجهاد" وأخذ دورها في الصفوف الأولى بين الفصائل المقاومة للاحتلال، بعد أن كانت دائماً تفضل البقاء خلف الكواليس مفسحة المجال أمام حركة "حماس" لتلعب الدور القيادة سياسياً وعسكرياً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يبدو أن النظام الإيراني وقوة القدس، قد قررا نزع القفازات التي طالما استخدماها في تعاملهما مع الساحة الفلسطينية في الضفة الغربية، بالتالي يبدو أن الوقت قد حان للكشف عن الاستثمار العسكري الذي بدأ بشكل متسارع بعد عام 2006، في خطة استراتيجية تقوم على تسليح الفصائل في الضفة بانتظار اللحظة المناسبة التي تخدم مصالح المحور الذي يقوده النظام، ويطمح ليكون بنتيجته لاعباً ومقرراً في المعادلات الإقليمية والشرق أوسطية.
وإذا ما شكلت الساحة السورية ما بعد 2015 محطة لتبادل الرسائل بين طهران وتل أبيب، على خلفية الطموحات الإيرانية بتكريس معادلة استراتيجية توفر لها وجوداً عسكرياً على الشريط الحدودي الممتد من الجنوب السوري حتى الجنوب اللبناني، والمخاوف الإسرائيلية من هذا التهديد الذي يستهدف أمنها واستقرارها وطموحاتها التوسعية داخل المنطقة العربية، والسعي لإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي بما ينسجم مع استراتيجيتها ورؤيتها للحل، فإن الساحة العراقية تحولت إلى ساحة صراع مفتوح على النفوذ والتقاسم بشكل واضح بين الطرفين، لا سيما بعد الاتهام الإيراني لتل أبيب بالوقوف ودعم التوجهات الكردية العراقية بالانفصال، الذي ترجمته القيادة الكردية في الإقليم بالاستفتاء عام 2017، ما دفع إيران بقيادة سليماني لاستنفار واستخدام جميع الوسائل السياسية والعسكرية والأمنية لإفشال هذا الاستفتاء وتمييع مخرجاته ونتائجه، باعتباره تهديداً لأمنها القومي ومصدر تهديد لوحدة أراضيها، بما يشكله من أرضية تسمح للجماعة الكردية وأحزابها في إيران بالمطالبة بالانفصال وتشكيل نواة دولة كرستان الكبرى، وإمكان أن تعمل واشنطن التي تملك نفوذاً وتأثيراً كبيراً في أكراد سوريا والإدارة التي أقاموها في مناطق نفوذهم تحت رعاية أميركية.
رسائل التصعيد، سواء في الأحداث التي شهدتها الضفة الغربية، أو العملية العسكرية ضد المنشآت الإيرانية في أصفهان، يبدو أنها وصلت إلى دوائر القرار المعنية بمنع أي تصعيد في منطقة الشرق الأوسط، فإيران أرادت من تل أبيب البقاء في دائرة الخطوط المرسومة لقواعد الاشتباك بينهما في الإقليم، وعدم نقلها إلى الداخل الإيراني والتدخل فيه، وتل أبيب أرادت أن تعلم طهران بأنها تلقت الرسالة في الضفة، وأنها أيضاً لن تسمح بكسر هذه القواعد، بحيث تكون في مواجهة جبهة مشتعلة تستهدف أمنها واستقرارها، في حين وبالتزامن مع هذين التصعيدين، شهدت عواصم المنطقة حراكاً سريعاً توج بالزيارة غير المعلنة لوزير خارجية قطر الشيخ محمد بن عبدالرحمن آل ثاني إلى طهران، حاملاً رسالة أميركية دولية تتعلق بإعادة تفعيل المفاوضات النووية والتطورات التي يشهدها الإقليم على أمل أن تكون الأطراف المعنية تعيد قراءة هذه الرسائل وتعمل لقطع الطريق على أي تصعيد قد يجر المنطقة إلى المجهول الذي لن يكون في صالح أي من الأطراف.