ملخص
"الحرب الخفية" تفضح خروج العلم التجريبي عن الضوابط الأخلاقية وتكشف توظيف الدين لمآرب خاصة
تشغل الأوبئة الناس، وتحصد الملايين منهم، منذ أزمنة غابرة، وتكشف عجزهم البشري في مواجهة الموت. وتشغل الأدباء فيتّخذون منها موضوعاً لأدبهم بأنواعه المختلفة، وفي طليعتها الرواية. ولعل هذا ما يفسّر كثرة الروايات التي تتناول الأوبئة، حول العالم. وحسبنا أن نشير، على سبيل المثال لا الحصر، إلى: "موت في البندقية" للألماني توماس مان، "حصان شاحب فارس شاحب" للأميركية كاترين آن بورتر، "الطاعون" للفرنسي ألبير كامو، "الموقف" للأميركي ستيفن كينغ، "الحب في زمن الكوليرا" للكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، "العمى" للبرتغالي جوزيه ساراماغو، "عام الطوفان" للكندية مارغريت آتوود، و"الحرب الخفية" للفرنسي جان مارك مورا، وفيها يتناول الإنفلونزا الإسبانية التي أودت بعشرات الملايين حول العالم، في الربع الأول من القرن العشرين. صدرت الرواية، بتعريب الكاتبة ماري طوق، عن مشروع "كلمة" للترجمة في مركز أبو ظبي للغة العربية، ضمن سلسلة يشرف عليها الشاعر والأكاديمي كاظم جهاد.
لا بدّ من الإشارة، قبل الخوض في الرواية التي فازت بجائزة غونكور الفرنسية الراقية، إلى أن مورا، المولود في مونتري سوبوا الفرنسية عام 1956، هو أكاديمي وروائي، غزير في بحوثه الأدبية التي يُفرد فيها حيّزاً مهماًّ للآخر في الأدب الفرنسي والأوروبي، ومُقِلُّ في رواياته التي لا تتعدّى الأربع، واستطاعت، على قلّتها، أن تلفت أنظار النقّاد والقرّاء إليه. وبذلك، تكون "الحرب الخفية" روايته الرابعة، بعد "أسطورة بانكوك"، و"غندارا"، و"موسيقى الأوهام".
حرب الجراثيم
تجري أحداث الرواية في فرنسا، خلال الحرب العالمية الأولى، وتُشكّل هذه الحرب المعلنة حيّزاً مهماًّ في الرواية، غير أنّ حرباً أخرى خفية، تتفرّع منها وتتزامن معها، تشغل الحيّز الأكبر منها، هي الحرب ضدّ الجراثيم التي تودي بعددٍ يتراوح بين أربعين وخمسين مليون نسمة، حول العالم، بينما لا يتعدّى عدد الذين أودت بهم الحرب الأولى ثمانية عشر مليون نسمة. وهكذا، "تُعَدّ الحرب حادثة بسيطة يصنعها غباء الإنسان على هامش المعركة الأكثر فتكاً التي يخوضها منذ الأزل ضد الجراثيم"، على حدّ تعبير الراوي (ص 365).
تنخرط في أحداث الرواية مجموعة شخوص من مشارب مختلفة، فنقع بينها على عالم الأحياء والطبيب النفسي والكاهن والراهبة والضابط ورجل الإستخبارات ومفوّض الشرطة وصائد الأرانب والممرّضة والمتسوّل وجامعة الفطر وبائعة الدجاج ومربّي الحيوانات والمرضعة وغيرهم. وهذه الشخوص تتعالق في ما بينها، في الفضاء الروائي، بحكم الضرورة أو الاختيار. وتشترك في الأحداث، من موقع الفاعل فيها أو المنفعل بها. غير أن الشخصيتين المحوريّتين بينها هما: عالم الأحياء الدكتور تيو أودويرتس ومساعدته الممرّضة ليلي روسو. والرواية هي هذا التعالق بين الشخوص المختلفة فيها، الرئيسية والثانوية.
الإطار والمحتوى
يتّخذ الكاتب من جلسات تنويم مغناطيسي تخضع لها بطلة الرواية ليلي روسو في مصح سانت آن، في يونيو(حزيران) 1919، إطاراً لروي الأحداث؛ ذلك أن روسّو تتعرّض لأحداث قاسية في حياتها، منذ الولادة حتى تاريخ إدخالها المصح، وتشكّل حادثة الموت المزعوم لابنها الصغير أرمان، القشّة التي تقصم ظهر البعير في هذه الأحداث، فتعيش صدمة نفسية قاسية تودي بها إلى المصح المذكور، حيث تنتابها نوبات من الجنون، وتمتنع على كل كلام، وتنطوي على حصنها الداخلي، ولا يفلح في إخراجها عن صمتها سوى الدكتور أمبرتو، المكلّف من السلطة المحلية إعداد تقرير عن حالتها النفسية لتحديد مدى مسؤوليتها عن أفعالها. وبذلك، تبدأ الرواية، على المستوى النصي، من النهاية، على المستوى الوقائعي، فإدخالها المصح يأتي تتويجاً لسلسة من العذابات التي ترهق كاهل ذاكرتها، وتجعلها ترزح تحت شعور ثقيل بالذنب لتسبُّبها، عن غير قصد، في إصابة الآلاف بالإنفلونزا الإسبانية، مما يجعل غيابها عن الواقع مخرجاً لها، فترزح تحته. لذلك، ترجو الدكتور ألبرتو المعالج، بعد أن تعهد إليه بابنها الصغير، أن يُحرّرها من التنويم المغناطيسي الذي يعيد ربطها بالواقع، ويتركها لجنونها الذي يتيح لها فرصة الهروب منه.
من خلال هذا الإطار، تتمّ استعادة الأحداث التي تشكّل المحتوى الروائي، الذي يترجّح بين حرب معلنة هي الحرب العالمية الأولى، وحرب خفية متفرّعة منها ومتزامنة معها هي الحرب ضد الجراثيم. على أن الشخوص الآنفة الذكر وغيرها، هي ضحايا هاتين الحربين أو إحداهما، على الأقل. وبنتيجة العلاقة الجدلية بين الإطار والمحتوى الروائيين، يمكن القول إن المنظور الروائي إلى الدين والعلم في الرواية هو منظور سلبي بامتياز. ذلك أنه يتمّ استخدام كلٍّ منهما ضدّ مصلحة الإنسان بدلاً من استخدامهما في خدمته. وهو ما كان يقتنع به عالم الأحياء أودويرتس، إحدى الشخصيتين المحوريتين في الرواية، من ضرورة "مصالحة هذين المجالين اللذين كانا يستجيبان كل واحد على طريقته لحاجات أساسية لدى الكائن البشري" (ص 82). غير أن ممارساته تناقض هذه القناعة، وتنحرف بالعلم عن أهدافه الإنسانية، ما يترتّب عليه نتائج وخيمة.
مآرب خاصة
تتمظهر سلبية المنظور، على المستوى الديني، في عدد من ممارسات رجال الدين ونسائه، تعكس سطحية في التديّن وزيفاً في الإيمان، وتستخدم الدين لمآرب خاصة. فالأم الرئيسة المشرفة على "جمعية عمل الشمال" أديل دو لا باسيون فظّة الطباع، تفرض الصيام والعزلة على الراهبات، تقسو على النزيلات، وترتبط بعلاقة محرّمة مع الأب دوفال تتمخّض عن الطفل ألكسندر الذي يذوق على يديها الأمرّين. والأب دوفال، شريكها في الإشراف على عمل الجمعية، يرتبط بعلاقة مشبوهة معها، يثير الرهبة والإعجاب في نفوس الراهبات، تساوره نزعات شيطانية فيقيم القداس الأسود ويمارس الشعوذة ويخضع المصابات بمس شيطاني لجلسات تطهير مزعومة يحاور من خلالها الشيطان، وينتحل صفة طبيب، يبتزّ الكاهن ألكسي كافيل للتخلّص من ملاحظاته، يقدّم خدمات ترفيهية للعجوز الغني المتصابي تيودور لوفران، راعي الجمعية بهدف وراثة أمواله... وينتهي به المطاف محطّماً بعد أن تقوم الأخت ماري أوفرازي التي حطّمها في جلسات التطهير برميه عبر زجاج الغرفة مما يؤدي إلى وفاته. والأخت ماري أوفرازي تعاقب النزيلات بالسوط، تدعك وجوههن بملاءة مبلّلة ببولهن، وتتخلّص من دوفال بدفعه باتجاه زجاج الغرفة. أمّا الكاهن ألكسي كافيل فيتطلّع إلى مرتبة الأسقفية، وهو في سبيل تحقيق هدفه، لا يتورّع عن التستّر على ممارسات دوفال المنحرفة، ويتذلّل للسلطة الدينية الأعلى، ويتعاون مع المحتل الألماني. غير أن الحظ يخدمه حين يعتقله الألمان بتهمة التعاون مع المقاومة الفرنسية، حتى إذا ما تم الإفراج عنه يتحوّل إلى بطل ويُمنح رتبة الأسقفية. ويبلغ من الزيف حد الاعتراف بأن ما تفوّه به طيلة حياته لمواساة المحتاجين هو مجرّد أكاذيب. وبذلك، تعكس السلوكيات الآنفة، زيف إيمان أصحابها وسطحية تديّنهم واستغلال الدين لمآرب خاصة، مما يتمخّض عن منظور روائي سلبي للدين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تتمظهر سلبية المنظور، على المستوى العلمي، في علاقة التعاون بين الشخصيتين المحوريتين في الرواية، عالم الأحياء تيو أودويرتس ومساعدته ليلي روسو، اللذين تمكّنا من إعادة إنتاج الفيروس في جسم حي، مما أدى إلى نتائج وخيمة، على المستوى العام، تمثّلت في إصابة الآلاف به، وعلى المستوى الخاص، تمثّلت في هرب أودويرتس إلى اليابان ووضع روسو في المصح. مع العلم أنّ كان لكل منهما، خلال التعاون، هدفه المختلف عن الآخر، وهو ما لم يتحقّق لكليهما. فتيو أودويرتس شغوف بالمعرفة والاستدلال، مهووس بالعلم إلى حد تجريده من الاعتبارات الإنسانية، ويرى أن الحب هو "تبادل السوائل والجراثيم بين شخصين" (ص 82)، وأن "الإنسان مارد بقدمين من صلصال..." (ص 104)، وأن الطفل "كائن صغير يدخل جسدك ويطلب العيش ممتصاًّ طاقتك. يشوّه قوامك ويستنزف مخزونك ثم يمزّق أسفل بطنك ليستطيع الخروج" (ص 152). وهكذا، تكون المخلوقات، من وجهة نظره، مجرّد كائنات علمية. ويجري تجاربه على الفئران والجرذان والأرانب لاكتشاف طبيعة الفيروس والقيام بعزله. وهو، إذ يشتبه بأن الألمان قاموا بتخليق فيروس معين واستخدامه في الحرب بدليل سقوط كثيرين به، يوظف معرفته وخبرته لاكتشاف سلاح بيولوجي، بعد موافقة القيادة العسكرية، فينتقل بين المدن، ويعاين المصابين، ويجري التجارب، لعلّه يشبع هوسه العلمي ويخترع السلاح الذي يمكّن بلاده من ربح الحرب. وهكذا، يتحلّل من الاعتبارات الإنسانية ويغلّب عليها الاعتبار العلمي دون سواه، غير عابئ بما يمكن أن يترتب على ذلك من نتائج. وبذلك، نكون إزاء شخصية مغامرة، مهووسة بالعلم، مجرّدة من المشاعر الإنسانية.
أمّا ليلي روسو التي تشغلها الأشياء الصغيرة والدقيقة، وترى الميكروبات والفيروسات في الأشياء، وتملك خبرة عملية في الصيد بالنموس، وتمارس التمريض، ويقلقها انتشار الوباء بين الحيوانات والناس، فتلبي دعوة أودويرتس إلى مساعدته في تجاربه رغم ما يمكن أن تتعرّض له من مخاطر. غير أنها تفعل ذلك لهدف مختلف يتمثّل في اكتشاف لقاح ضد الفيروس المنتشر وإنقاذ البشرية منه، وتقدّم مساعدة جلّى له فيتمكن من إعادة إنتاج الفيروس في جسم حي، مما يؤدي إلى سقوط المزيد من الضحايا. وهذا ما لم تُرده ليلي، فترزح تحت شعور ثقيل بالذنب، وينتهي بها المطاف في المصح. وهكذا، نحن إزاء شخصية معطوبة بالتجارب التي عاشتها والخطيئة التي ارتكبتها، من حيث لا تقصد، فذهبت ضحية الثقة بالآخرين، ودفعت ثمن الهوس العلمي الذي يحرف العلم عن أهدافه الإنسانية. وحين تحاول يائسةً تصحيح الخطأ بالانتقام من أودويرتس يكون الأوان قد فات. وعليه، تصدر الرواية عن منظور سلبي للعلم وتطبيقاته المتحلّلة من الضوابط.
في "الحرب الخفية" يقرع جان مارك مورا جرس الإنذار منبّهاً إلى خطورة توظيف الدين لمآرب خاصة والسقوط في سطحية التدين وزيف الإيمان، من جهة، ومحذّراً من خروج العلم التجريبي عن الضوابط الأخلاقية وتَحلُّله من الاعتبارات الإنسانية، من جهة ثانية. وهو ما يعيشه عالمنا، في هذه اللحظة التاريخية، فهل من يسمع؟
ولا بد ختاماً من توجيه تحية إلى المترجمة الكاتبة اللبنانية ماري طوق التي بذلت جهداً كبيراً في ترجمة هذه الرواية المعقدة بموضوعاتها وصراعات شخصياتها وأسرارها، وذات المعجم الطبي والعلمي واللاهوتي غير المألوف عربياً. وقد تمكنت فعلاً من نسج ترجمة يمكن إدراجها في مرتبة الإبداع الأدبي.