Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

العدد الصفر ليس من العدم والفراغ وليس من المادة

تضارب مفهومه بشدة مع تصوّر الكون الذي وضعه فلاسفة الإغريق الكبار أمثال أرسطو وبطليموس وفيثاغورس

لم يعد الصفر مجرد عدد يؤدي وظيفة مكانية داخل الأعداد بل بات له تأثير في تحقيق المعادلات في سائر العلوم (unsplash)

ملخص

رسّخ العرب الصفر كرقم حسابي وشرحوا مفهومه إبان عصر الأنوار الإسلامي بعدما نقلوه من العلوم الهندية القديمة

لا ينزل المرء إلى السوق ليشتري صفراً من اللحم والخضار، ولا يتاجر رجل الأعمال بصفر من الأدوات، ولا يمكن أن نقطع مسافة صفر متر، ولا توجد خزانة طولها صفر سنتيمتر، ومع ذلك، فإن الصفر يرافقنا في حياتنا كما يرافقنا الظلّ في الشمس، لا هو ملموس ولا هو مادة، ولا هو عدم أو لا شيء في الوقت عينه.

كان من المفترض أن يكون الرقم أو العدد صفر مجرد فراغ مكاني في الأعداد، فلو كتبنا رقم 203 مثلاً، فإن الصفر يدل إلى أن هذا الرقم لا يحتوي على العشرات، وفي الرقم 10 يدل الصفر فيه إلى عدم وجود أي عدد في خانة الآحاد، وأن هذه الخانة فارغة، وأن الرقم واحد يدل إلى الرقم 10.

ومع تطور الحضارة البشرية ومعارفها وعلوم الرياضيات والفيزياء والفلك والهندسة والكمبيوتر والمال والأعمال، لم يعد الصفر مجرد عدد يؤدي وظيفة مكانية داخل الأعداد، بل بات له تأثير في تحقيق المعادلات في سائر العلوم، وبات ذا ثقل وقيمة لا تدلل إلى الفراغ العدمي بل إلى فراغ ذي قيمة، وهذا المفهوم للصفر كان موجوداً في الفكر البشري.

وقبل أن يكون الصفر عدداً، فقد ناقش البشر مفهوم اللاشيء أو العدم والفراغ ومعانيها قبل أن يحولوه إلى عدد يبتدئ من الأعداد إلى ما لا نهاية صعوداً، ومنه إلى ما لا نهاية نزولاً إذا افترضنا أن الأعداد السالبة كناقص واحد (-1) وناقص اثنين (-2) تتجه نزولاً.

يقول تشارلز سيف مؤلف كتاب Zero: The Biography of a Dangerous Idea أن الصفر الذي يملأ حيّزاً مكانياً فارغاً داخل الرقم "هذا ليس صفراً كاملاً"، أما "الصفر الكامل فهو رقم قائم بذاته وهو الذي يتوسط -1 و+1"، ويكتب روبرت كابلان مؤلف كتاب "لا شيء هو: تاريخ طبيعي للصفر" (مطبعة جامعة أكسفورد 2000)، "لم يحصل الصفر على الجنسية الكاملة في جمهورية الأرقام إلا بشكل تدريجي، كانت بعض الثقافات بطيئة في قبول فكرة الصفر الذي يحمل بالنسبة للكثيرين دلالات سحرية قاتمة وعلامات ما ورائية غير محددة وتناقضه مع رفض العدم كأساس للوجود".

رحلة الصفر من العدم إلى الوجود

في حضارات بلاد ما بين النهرين، كانوا يتركون فراغاً بين الأعداد للدلالة على فراغ خانة معينة، وهذا ما جعل محاولة ترجمة الأرقام في الألواح الطينية وفي المخطوطات صعبة جداً، ما شوّش علماء الآثار والأركيولوجيا ومترجمي اللغات القديمة الذين حاولوا ترجمة هذه الكتابات في معرفة متى يبدأ الرقم المكتوب ومتى ينتهي بسبب هذا الفراغ.

ولم يعرف الرومان واليونان والإغريق قبلهم الصفر أبداً كعدد ذي مكانة تدل على الفراغ في الأرقام، على رغم أنهم عرفوه كمفهوم أو كفكرة تعني اللاشيء أو الفراغ الكوني والعدم، لذا أدخلوا في حساباتهم بشكل كثيف الكسور والأجزاء، أي تجزئة العدد واحد قدر الإمكان، وهذا ما جعلهم يخوضون العمليات الحسابية المعقدة، واستخدم الرومان آلة الأباكوس، وهي أداة للعد تم تطويرها قبل ظهور الصفر، وسمحت الأباكوس بإجراء العمليات الحسابية مثل الجمع والطرح والضرب والقسمة من خلال تحريك العدادات أو الخرز على الأسلاك، وعلى رغم عدم وجود الصفر، فإن النظام الروماني للأعداد قدم وسيلة للتلاعب بالأرقام وتمثيلها بالأحرف، فالعشرة هي x والمئة V.

الباحث الرياضي غوتفريد لايينتس يكتب حول الصفر لدى الحضارات القديمة، فيقول إن مفهوم الصفر تضارب بشدة مع تصوّر الكون الذي وضعه فلاسفة الإغريق الكبار أمثال أرسطو وبطليموس وفيثاغورس، والذي لا مكان فيه للعدم، وورثت الحضارة الغربية هذا الرفض لقرون طويلة ودفعت الثمن غالياً جداً، إذ تم تقبل تصور للعالم تعايشت معه أوروبا على مضض إلى أن جاء العرب.

ومع تحول أوروبا للمسيحية خلال القرن الرابع الميلادي بقي ألكثير من رواسب الفلسفات القديمة، وتم تطبيق الفهم الرياضياتي القديم، غير المتصالح مع الصفر، لتفسير النصوص المقدسة ولدراسة الظواهر الطبيعية، هنا صار الصفر رديفاً للشيطان، كمضاد للقيمة "واحد" التي رُمز بها للحقيقة المطلقة، وظل عصياً على التفسير "المنطقي" تاركة أثره العبثي في عمليات الجمع والطرح، وأثره التخريبي في عمليات الضرب والقسمة.

لكن هذه النظرة الأرسطوية الرافضة للصفر، وما يمثله من عدمية تتنافى مع جوهر المادة لم تلبث أن اصطدمت بفكر الكنيسة، فإذا لم يكن هناك عدم، فما الذي سبق الوجود؟ لا شيء. لكن نفي وجود اللاشيء والقول بوجود الكون دوماً ومنذ الأزل هو اعتراف ضمني بمفهوم آخر لا يقل شيطانية في الفكر الأوروبي آنذاك ألا وهو مفهوم "اللانهائية"، "لا نهائية" بداية الزمن وهو ما يسمى "الأزل".

هذه العلاقة الترابطية بين اللاشيء واللانهائية شكّلت تحدياً سافراً للفكر القديم وكرّست لحتمية اعتماد الصفر والاعتراف به في أوروبا.

هجر العرب المنظور الأرسطوي للعالم باكراً وقبِلوا بوجود اللاشيء والفراغ، ومع الفراغ قبلوا بتكوّن المادة من ذرات متناهية في الصغر وقبلوا مفهوم اللانهائية، وكان لذلك كله أثر بالغ في تطور الفكر العربي الإسلامي مقابل الفكر الغربي الذي اضطر أخيراً لمواجهة فلسفات أرسطو مدفوعاً بتقليده للعرب إبان أوج حضارات بغداد وقرطبة، فقد رسّخ العرب الصفر كرقم حسابي وشرحوا مفهومه إبان عصر الأنوار الإسلامي، بعدما نقلوه من العلوم الهندية القديمة ودرسوه وتفحصوه جيداً ثم أشاعوه في سائر العلوم وعلى رأسها علم الجبر الذي كان جابر بن حيان أحد أهم رموز تطويره وتكريسه علماً رياضياً مستقلاً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لكن تاريخ الصفر كمفهوم ورقم يمتد أعمق بكثير في التاريخ، بحيث لو أردنا أن نكون واقعيين ومنطقيين فإنه من الصعب تحديد مصدره الأول الذي حوّله من مفهوم غير ملموس يقارب العدم إلى رقم دخل في تفاصيل الحياة البشرية سواء الحسابية والرياضية والفيزيائية منها، أو المالية والاقتصادية، أو الدينية والروحانية والفلسفية، ولقد احتل الصفر الذي هو تعبير مكتوب عن الفراغ أو اللاشيء مكانة أساسية في الحياة البشرية منذ اكتشافه قبل آلاف السنين حتى اليوم.

والصفر هو صنو العدم في الفلسفة أو في الأديان أو في الأساطير والميتافيزيقا وفي الفيزياء وعلوم الفضاء، والصفر الهندسي يختلف عن الصفر الميكانيكي والمالي والفيزيائي، والصفر عن يمين الرقم غيره عن يساره، والصفر بعد الفاصلة غيره قبل الفاصلة.

والصفر الذي إذا جمعناه بأي رقم أو نقّصناه من أي رقم يبقى الرقم هو نفسه، بينما إذا ضربناه بأي رقم فإن النتيجة ستكون صفراً، وإذا قسمنا أي عدد على صفر فلن نحصل على نتيجة معينة، إذ توافق علماء الرياضيات والفيزياء حول العالم بأن تعريف نتيجة القسمة على الصفر بقيمة محددة مثل اللانهاية سيؤدي إلى نتائج متعارضة وغير متسقة وستعود العمليات الحسابية بنتائج متناقضة، وبدلاً من ذلك، يترك الرياضيون القسمة على الصفر غير محددة، معترفين بأنها ليست ذات معنى ضمن إطار الحسابات التقليدية.

محاولات في التعريف

يقول الباحثون في أصل الصفر، عدداً ومفهوماً، إنه في جميع المراجع القديمة هناك دائماً نوع من الافتراض بأن الصفر موجود بالفعل، ولكن الحاجة إلى الصفر، أي إلى تدوين ما يعبر عن شيء غير موجود، هي التي طوّرته وجعلته رقماً مهماً وصعباً، وهذه الحاجة الطبيعية تؤكد أنه ليس اختراعاً بل مفهوم متطور عبر الزمن، ولم ينشأ فجأة.

كانت لدى الحضارات القديمة طرق مختلفة لتمثيل المساحات الفارغة أو غياب الكمية، على سبيل المثال، استخدم المصريون القدماء رمزاً يشبه الدائرة المفرغة للإشارة إلى مفاهيم تشبه الصفر في هيروغليفياتهم.

ومنذ إدراج الصفر كرقم في النظام العددي أحدث ثورة كبرى على مختلف الصعد في حياة الإنسان، وسمح بإجراء الحسابات الدقيقة التي تنطوي على أعداد كبيرة، وراحت تتضخم إلى درجات مهولة مع تطور البشر واكتشافهم المسافات الهائلة من حولهم وتزايد أعدادهم وحاجاتهم وإنتاجهم، فسهل حضور الرقم صفر عمليات الحساب المتقدمة وجعلها أكثر كفاءة وفتح أبواب العلوم على مصراعيها، فبات رقماً أساسياً في نظامنا العددي والرياضي ولا غنى عنه في مجالات مثل الفيزياء وعلوم الكمبيوتر والهندسة والتمويل ما يجعله واحداً من أهم الاكتشافات في تاريخ التقدم الإنساني.

في الفلسفة، يرمز الصفر إلى الفراغ والخلو أو العدم وقد يمثل في ثقافات أخرى التوازن بين القوى الإيجابية والسلبية أو القدرة على الخلق، كما له ارتباطات رمزية بمفاهيم مثل اللانهاية والترابط بين جميع الأشياء، ويتم تمثيل الصفر بالرمز الرقمي "0"، واستخدم علماء الرياضيات الهنود والعرب القدماء النقطة لتمثيل الصفر، وما زالوا، في حين استخدمت حضارة المايا رمزاً على شكل صدفة.

ولعب مفهوم الصفر دوراً حاسماً في تطور المعادلات الجبرية، ومكّن من دراسة العلاقات الرياضية المعقدة بسبب اختصار الأرقام، وسهّل القياسات الدقيقة وحساب حركات الأجرام السماوية وتطوير النظريات العلمية. واستفادت مجالات مثل الفيزياء والفلك والهندسة بشكل كبير من استخدام الصفر في النمذجة والتحليل الرياضي.

ثم ظهرت ثورة الصفر في المعاملات الاقتصادية وأنظمة المحاسبة وكان لاستخدام الصفر في الأنظمة العددية أهمية في قياس الكميات بدقة وتمثيلها من دون أخطاء، ما سهّل التجارة ونقل الأموال على نطاق واسع.

الفراغ المطلق

ويمثل الصفر في بعض المدارس الفلسفية والروحية الفراغ المطلق، بينما يُمثل الرقم واحد المصدر أو الأصل لجميع الأشياء، ويرفض بعض آخر فكرة العدم أو الصفر كمفهوم منفصل، إلا أنه في عصرنا الحالي لو افترضنا سيناريو يتم فيه التوقف عن استخدام الصفر كرقم فإنه سيؤثر بشكل كبير على مجالات مثل الجبر والتفاضل والتكامل والفيزياء والهندسة وستحتاج العديد من المعادلات والنماذج والنظريات الرياضية إلى إعادة التقييم أو التعديل، وستتأثر بغياب الصفر لغات البرمجة والخوارزميات والنظام الثنائي المستخدم في الكمبيوتر، كما ستتأثر الأنظمة المالية والمحاسبة والاقتصاد، ويستخدم الصفر في قياسات مجالات مختلفة مثل درجة الحرارة والزمن والمسافة والكميات، وإنهاء استخدام الصفر سيعقد هذه القياسات، ما يجعل من الصعب تمثيل الصفر المطلق والأرقام السالبة أو الفواصل بين الأعداد.

ويقول برنامج الذكاء الاصطناعي في إجابته على هذا السؤال بأن "إزالة الصفر سيغير جوهرياً الطريقة التي ندرك بها ونتفاعل مع الأرقام، ما سيؤثر على جوانب مختلفة من حياة الإنسان".

في الفضاء، يمكن أن يشير الصفر إلى عدم وجود قوة جاذبية أو كميات فيزيائية أخرى، ويمكن أن يتعلق بمفاهيم مثل الجاذبية الصفرية أو الضغط الصفري، أما العدم في الفضاء فيرتبط بالمناطق الفارغة حيث لا توجد كائنات سماوية أو تراكمات مادية كبيرة.

في علوم الجغرافيا، يعتبر خطا الطول والعرض الأولان مرجعية صفرية للطول والعرض، وفي مجال العمارة، يمكن أن يشير الصفر إلى الفراغ داخل هيكل أو الفراغ الذي يتم تركه بشكل مقصود في التصميم.

اقرأ المزيد

المزيد من علوم