ملخص
ترافق تصريح الرئيس التونسي مع مخاوف من تراجع حرية التعبير والصحافة في البلد الذي لطالما اعتبر تجربة تحتذى
مازال لقاء الرئيس التونسي، قيس سعيد، بمديرة التلفزيون العمومي، عواطف الدالي، يثير ردود فعل منددة تثير مخاوف من تضييق محتمل على حرية الصحافة والتعبير، خصوصاً أن سعيد لم يتردد في توجيه وابل من الانتقادات الحادة لقسمي البرمجة والأخبار في التلفزيون.
وقال الرئيس سعيد، الذي قاد منذ سنتين مساراً انتقالياً مثيراً للجدل والانقسام السياسي، إن "ترتيب الأخبار في التلفزيون العمومي ليس بريئاً بالمرة، ناهيك عن إعادات مستمرة لبرامج قديمة"، وهو ما أثار ردود فعل غاضبة لا سيما من نقابة الصحافيين وجمعيات أخرى، في حين دافعت فئة مجتمعية عن آراء الرئيس باعتبار أن الهدف منها ضبط الإعلام وتوجيهه بما يخدم المتلقي.
وتسود مخاوف منذ انفراد الرئيس سعيد بمعظم الصلاحيات منذ 25 يوليو (تموز) 2021، من ارتداد محتمل على حرية الصحافة والتعبير، وهي مكسب نادر من مكاسب انتفاضة 14 يناير (كانون الثاني) 2011 التي أطاحت نظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي الذي استمر حكمه لـ 23 عاماً.
"تدجين للإعلام"
وفيما اكتفت مديرة التلفزيون العمومي بالصمت أمام سعيد، بحسب ما أظهر مقطع فيديو نشرته صفحة الرئاسة التونسية على "فيسبوك"، فإن الرئيس قال، إنه شاهد "جزءاً من برنامج الزمن الجميل الذي تبثه الوطنية الأولى (القناة الرسمية للتلفزيون العمومي التونسي)، وما هو بالزمن الجميل، ولو كان جميلاً لما كان الوضع على هذا النحو".
وتابع سعيد أن "بعض الأشخاص كانوا مختبئين قبل 2011، وكان منهم من هو مطلوب للعدالة، وأصبحوا الآن أبطالاً ويتحدثون عن الزمن الجميل، هذا ليس خطأً تحريرياً، بل خط القوى المضادة للحرية والتحرير الوطني".
وأثار هذا اللقاء الذي تم في قصر قرطاج الرئاسي، ردود فعل غاضبة واسعة النطاق خصوصاً أنه يشير بالحديث عن الزمن الجميل إلى حقبة الرئيس الحبيب بورقيبة الذي لا يزال يحظى بشعبية كبيرة لدى التونسيين، وأيضاً لأنه يتزامن مع مخاوف من تراجع حرية التعبير والصحافة في البلد الذي لطالما اعتبر تجربة يحتذى بها في البلدان التي عرفت انتفاضات.
وحذر عديد من النقابات والجمعيات منها نقابة الصحافيين والمرصد الوطني للدفاع عن مدنية الدولة، من توظيف التلفزيون العمومي والإعلام، وتعززت مخاوف هؤلاء من المرسوم 54 الذي أصدره الرئيس سعيد بهدف مكافحة الأخبار الزائفة، لكنه بدا في عين منتقديه يرمي إلى تقييد عمل الصحافيين.
ترتيب الأخبار
وقالت عضو المكتب التنفيذي لنقابة الصحافيين، أميرة محمد، "لا يفوت فرصة لاستغلالها في التهجم على الصحافيين وعلى الإعلام والصحافة، ولا يكتفي بإخضاع عدد من وسائل الإعلام... ولم يكتف بتحويل التلفزيون العمومي ووكالة تونس أفريقيا للأنباء إلى بوق دعاية بالوجوه نفسها التي ثار ضدها الشعب التونسي، وإنما يتجرأ اليوم من جديد ويسمح لنفسه بالتدخل في ترتيب الأخبار وطرح المواضيع والمضامين وعناوين البرامج، وهذه فضيحة حقيقية لتونس بعد الانتفاضة".
وأضافت محمد "أرجو من أبناء مؤسسة التلفزيون العمومي الذي ناضل فيه كثيرون طيلة سنوات، عدم مواصلة الصمت عما يحدث داخل مؤسستهم، وننتظر موقف الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري من تصريح رئيس الجمهورية باعتبارها هيئة تعديلية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتابعت المتحدثة أنه "لم يتبق أمام رئيس الجمهورية سوى تولي مهمة التسيير ورئاسة التحرير ووضع كل الصحافيين والصحافيات في السجن وتغييرهم بالمفسرين والمنخرطين من بعض أبناء المهنة".
والمخاوف من جر وسائل الإعلام التونسية إلى أن تصبح طرفاً في الأزمة السياسية ليس وليد اللحظة في الواقع، فمنذ بدء الإجراءات الاستثنائية، وجدت هذه الوسائل نفسها تحت ضغوط قوية من الموالين للسلطة كما للمعارضة، إذ يتهم كل طرف هذه الوسائل بدعم الآخر.
لكن الأزمة تبدو أعمق، فمنذ انتفاضة 14 يناير، تواجه وسائل الإعلام التونسية ضغوطاً واتهامات على رغم عديد التشريعات التي تنظم التعيينات على رأس المؤسسات العمومية على غرار التلفزيون العمومي ووكالة الأنباء الرسمية (وكالة تونس أفريقيا للأنباء).
وقال الرئيس سعيد إنه "لا يمكن أن يستمر ما يبث من المؤسسة الوطنية، ويجب أن تكون في خدمة التونسيين لا في خدمة هذه اللوبيات التي تتخفى وراء الستار"، من دون أن يخوض في هوية هذه اللوبيات.
"نريد إعلاماً مستقلاً"
ومن غير الواضح مآلات الوضع الراهن في تونس، إذ من الصعب التكهن ما إذا كانت البلاد تسير نحو التراجع عن حرية الصحافة، لكن جر كثيراً من الصحافيين على غرار منية العرفاوي، ومحمد بوغلاب، وإلياس الغربي، وهيثم المكي، يثير المخاوف.
ومنذ أشهر، اعتقلت السلطات الأمنية عدداً من السياسيين ورجال الأعمال، ومن بينهم مدير إحدى الإذاعات التي تنتقد برامجها باستمرار سياسات الرئيس سعيد، قبل أن تفرج عليه بكفالة مالية مع منعه من السفر، وهو ما يفاقم المخاوف.
واعتبر الباحث السياسي، محمد ذويب، أنه "للأمانة التلفزيون العمومي لم يكن أبداً مستقلاً، فهو تلفزيون كل المنظومات التي تعاقبت على تونس، وهذا ما يريد أن يذهب فيه قيس سعيد، نحن نريد إعلاماً مستقلاً بعيداً من التجاذبات السياسية".
وأردف ذويب في تصريحه "عموماً لا يمكن الحديث عن حرية إعلام وإعلام مستقل في تونس، لا سيما أننا نعرف ارتباط عدد كبير من الإعلاميين في تونس بلوبيات في الداخل والخارج".
وحول الاعتقالات والمحاكمات، قال المتحدث إنه "لا يمكن وضع قضايا جميع الإعلاميين في خانة واحدة، فالقضايا تختلف من شخص إلى آخر، كما أن القضايا المثارة ضدهم تختلف من جهة إلى أخرى، والأهم هو حق هؤلاء الإعلاميين في محاكمة عادلة وفي حق الترافع، كما أن نقابة الصحافيين في حد ذاتها تحوم حولها وحول بعض أعضاء مكتبها التنفيذي شبهات عدة".
ويرى ذويب أنه "عموماً لا يحق لقيس سعيد إخضاع الإعلام، ولكن من واجب الصحافيين الدفاع عن تونس في الخارج، بخاصة في بعض القضايا الإقليمية التي حاول فيها الإعلام الأجنبي تزوير الحقائق كقضية الخلاف التونسي - المغربي الذي نشب منذ سنة، وقضايا العنصرية التي طفت على السطح أخيراً، ولم يقم الإعلام التونسي بالدفاع عن بلده بل التزم الصمت أمام هجمات الإعلام الخارجي".
واستنتج أن "إصلاح الإعلام يأتي من الإعلاميين أنفسهم وليس من السلطة، ولكن يبدو أن أغلب الإعلاميين يريدون الحفاظ على المنظومة نفسها التي توفر لهم مكاسب متعددة ومختلفة وهذا هو السبب".
رد أحزاب موالية
وتنفي أحزاب سياسية وشخصيات موالية للرئيس سعيد سعيه إلى إخضاع الإعلام، أو غيرها من التهم التي يلقيها خصومه.
واعتبر الناطق باسم حزب "التيار الشعبي" الموالي للرئيس سعيد، محسن النابتي، "ألا خوف على حرية التعبير والصحافة في تونس، وهناك نقد في الإذاعات والتلفزيون لمسار 25 يوليو".
واستدرك بالقول في تصريح خاص "لكن ما نريده من الإعلام التونسي هو نقد بناء، وليس تجنياً مثل ما نراه الآن من انتقادات تجاه السلطات".
وشدد النابتي على أنه "لم نطلب يوماً من الإعلام أن يكون بوقاً للسلطة، بل نريد نقداً للخيارات، وللأسف الإعلام في تونس لا يزال خاضعاً لشبكة مصالح لا يخدمها الوضع الراهن".