ملخص
على رغم أن الأرمن المصريين يشكلون مجتمعاً خاصاً له عادات وطقوس لكنهم ذائبون تماماً في الهوية المصرية وإسهاماتهم في تاريخ البلاد متنوعة سياسياً وفنياً واقتصادياً.
لا يمكن التعامل مع منجز المصريين الأرمن في شتى المجالات، من فن وسياسة وتجارة وصناعة، على أنه مجرد "مساهمة" بل هم ضلع أساسي في النهضة والحضارة التي تراكمت عصراً بعد آخر في البلاد.
وعلى خلاف ما يعتقد البعض أن حكاية الأرمن المصريين بدأت مع نزوحهم إبان ما عرف بـ"مذابح الأرمن" التي ارتكبها الأتراك ما بين عامي 1915 و1917، فإن جذورهم في البلاد تأصلت قبل هذه الفترة بقرون، فلم يكونوا يوماً "كمالة عدد"، بل إن بصمتهم الإبداعية كانت واضحة على جميع مناحي الحياة، فهم شركاء رئيسون يستمر عطاؤهم حتى اليوم.
ومن جيل إلى آخر تستمر عطاءات الأرمن المصريين، لا سيما في الحقل الإبداعي، إذ شهدت الساحة الفنية عشرات الأسماء من مشاهير الفن جاءوا من أصول أرمينية، لكنهم لم يفضلوا الغوص في تفاصيل أصولهم العائلية، إلا أن المخرجة ديسيل مختيجيان قررت أن تدشن مشوارها بعمل يحكي عن رحلتها لاكتشاف هويتها من خلال الفيلم القصير "من عمل الشيطان" الذي يتناول قصة فتاة أرمينية تستعرض في رحلتها لتنظيم معرض فني يبرز التشابك بين التراثين الأرميني والمصري، وعلى رغم وجود مدرسة أرمينية وناد أرميني وكنيسة أرمينية، لكن من يترددون على تلك المؤسسات منصهرون تماماً في المجتمع المصري، وكثير منهم يتحدث بفخر شديد عن فترات أدائهم الخدمة الوطنية في الجيش المصري.
طائفة وليست جالية
من بين الأرمن المصريين الأكاديمي جورج نوبار سيمونيان عميد كلية التصميم والفنون الإبداعية بجامعة "الأهرام الكندية"، حيث يزين حسابه على تطبيق المحادثات "واتساب" بصورته وهو بزي البحرية المصرية، فالصورة الباسمة التي تعود لنحو 40 سنة مضت تبدو بالنسبة له مصدراً للسعادة والبهجة وعلامة على أصالة وطنيته، مشيراً إلى أن أبناء الجالية البالغ عددهم حالياً تقريباً 10 آلاف شخص ينتمون في المقام الأول إلى مصر ويخدمون جيشها بكل حب.
ولفت إلى أن عدداً كبيراً منهم لا يحمل جواز السفر الأرميني من الأساس، ضارباً المثل بحالته، حيث سافر إلى أرمينيا التي تقع في قارة آسيا جنوب القوقاز ويحدها بحرا قزوين والأسود، كما تجاور إيران وتركيا، ويقترب عدد سكانها من الثلاثة ملايين، سوى خمس مرات تقريباً ولم يتجاوز مجموع الأيام التي قضاها بها الـ60 يوماً متفرقة.
وقال سيمونيان، إن نحو 200 طالب أي ما يقرب من 60 أو 70 في المئة من أبناء المصريين الأرمن يتعلمون بالمدرسة الأرمينية اللغة وتاريخ الدولة، إضافة إلى مناهج وزارة التعليم المصرية الأساسية، والنسبة الباقية يلتحقون بمدارس عادية، لكن الجميع في النهاية يذهب إلى الجامعات المصرية، سواء حكومية أو خاصة، فيما هو كان قد حصل على درجة البكالوريوس في الفنون التطبيقية من جامعة حلوان ثم درجة الدكتوراه، ويشدد جورج نوبار على نقطة مهمة وهي أنه يفضل أن يسمى الأرمن المصريون "طائفة" وليس جالية لأن التعبير الأول يصف بدقة وضعهم الحقيقي كأبناء للبلد وليس مجرد تجمع دخيل.
نوادي الأرمن
طائفة الأرمن في مصر لديها جذور ثقافية مشتركة وعادات مجتمعية متعلقة باحتفالات معينة، بخاصة طقوس الزواج على سبيل المثال، وكذلك الأعياد، كما يحاولون الحفاظ على موروثاتهم من طريق التجمع في النوادي الاجتماعية والثقافية وبنيها نادي الشرق الأدنى بشبرا الذي يحتفي بمبدعي أرمينيا ويقيم ندوات ثقافية تتسع للجميع، بخلاف نحو ثلاثة نواد اجتماعية رياضية في الإسكندرية وخمسة بالقاهرة، حيث تكون اللغة الأرمينية البالغ عدد أحرفها 36 حرفاً هي السائدة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن خلال فيلمها "من عمل الشيطان" الذي عرض للمرة الأولى عالمياً بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي العام الماضي وشارك قبل أيام قليلة بفعاليات النسخة الـ20 من مهرجان اليريفان السينمائي الدولي بأرمينيا، تحاول المخرجة ديسيل مختيجيان التقرب أكثر من المزيج الذي يشكل أصولها، وهي تقول عن هذا: "نشأنا مع الثقافة الأرمينية في منازلنا، كما أن النوادي تمثل رافداً مهماً للمجتمع الأرميني وتستحوذ على مساحة كبيرة من طفولتي، وفي الوقت نفسه زرعت عائلاتنا فينا ثقافة أخرى غنية جداً هي الثقافة المصرية، وهي أساسية كذلك في هويتنا، فأصبح لدينا طبيعة ثرية للغاية، فنحن ننتمي لمجتمع صغير محدد وفي الوقت نفسه ننتمي إلى الكل".
وحول عرض العمل لأول مرة في وطنها الأم تقول، "صنعت هذا الفيلم بينما أبحث عن جذوري، وعرضه في موطن عائلتي يغمرني بكثير من المشاعر ويسعدني أن أعود فعلياً إلى بلدي الأم للمرة الأولى".
رجال سياسة وصناع تاريخ
على جانب آخر، لا يمكن الحديث عن الحياة السياسية في مصر من دون ذكر دور الأرمن بها، وهنا يقفز على الفور اسم نوبار باشا "نوبار نوباريان" باعتباره أول رئيس وزراء مصري، حيث تولى الوزارة "النظارة" ثلاث مرات بدءاً من عام 1878، وكان آخر عهده بها عام 1895، مروراً بتوليه حقائب وزارات مهمة مثل الداخلية والخارجية والعدل، لكن قبل ذلك بقرون طويلة كان للأرمن يد عليا في التاريخ المصري، سواء في العصر العباسي والفاطمي والمملوكي، ومن أبرزهم الوزير بدر الدين الجمالي الذي علا شأنه في نهاية القرن الـ11 إبان الحكم الفاطمي بعد أن قام بتجديد أبواب القاهرة التاريخية الشهيرة وبينها باب زويلة.
لكن العصر الذهبي لهجرة الأرمن إلى مصر كان في عهد محمد علي، أي مطلع القرن الـ19، حيث استعان بهم الحاكم الطموح الذي يتمتع باستقلالية نسبية عن الباب العالي العثماني حينها في نهضة البلاد وأعطاهم فرصاً كبيرة للمشاركة في مجالات الصناعة والتجارة والصرافة والطب والتجارة وإدارة الأوقاف والثروات لكبار رجال الدولة، ولم يتجاهل أبداً الجانب الروحي الديني وشهد عصره بناء كنيستين، واحدة للأرمن الكاثوليك والثانية للأرمن الأرثوذكس، وذلك بحسب ما يذكر المؤلف محمد رفعت الإمام في كتابه "تاريخ الجالية الأرمينية في مصر"، حيث كانت السماحة هي السمة المسيطرة في التعامل معهم ليذوبوا في المجتمع ويصبحوا عنصراً رئيساً من نسيجه ويشاركوا بكل قوتهم في تطويره.
وكانت للأرمن إسهامات في إنشاء السكك الحديدية والبنوك وغيرها من مظاهر الحضارة، وهو الأمر الذي ظل مصاحباً لنزوحهم إلى مصر في عهود كثيرة. ويعلق أستاذ الفنون وعميد كلية الفنون الدكتور جورج سيمونيان بالقول، "هناك خصوصية تميز حياة المصريين الأرمن منذ قرون عدة، فالشعب المصري مرحب ومضياف ولا يفرق في معاملته لمختلف العرقيات، ومنذ وفود الأرمن الأوائل إلى مصر وحتى قبل الاضطرابات السياسية كانوا محل ترحيب ويمارسون طقوسهم في دور عبادتهم بحرية".
يضيف، "على رغم أن هناك بعض الأوقات التي قرر فيها عدد من أبناء الطائفة من الأجيال التالية العودة إلى أرمينيا بسبب التوترات السياسية في الستينيات، ثم في فترة الحراك السياسي 2011 وما بعدها، لكن السمة الغالبة كانت هي تقدير العلاقة الخاصة التي تجمعهم بمصر كوطن"، وضرب سيمونيان مثالاً على حسن التعامل المتبادل وذلك من خلال وفود المراكب التي وصلت بورسعيد وضمت أكثر من أربعة آلاف أرميني هرباً من المذابح في العقد الثاني من القرن الـ20، حيث بقوا في المدينة التي عرفت كوسيط تجاري في البلاد، لمدة 10 سنوات تقريباً وعاشوا في تجمعات وكانوا يستقبلون زواراً يمثلون صفوة المجتمع الذين كانوا يقدمون لهم التبرعات وبينهم الزعيم الوطني سعد زغلول.
زعماء بعدسة مبدعي الأرمن
وفي حين اشتهر الأرمن المصريون بمهن معينة مثل الصاغة والصرافة والطب والصناعات بأنواعها، مما جعل وزارة الهجرة وشؤون المصريين بالخارج تدشن عام 2018 فعاليات مميزة حملت عنوان "إحنا المصريين الأرمن" للتعريف بتاريخهم، حيث شكلوا فصلاً مهماً في العملية الإبداعية، وكان لديهم عشرات المطبوعات الصحافية وبعض منها مستمر حتى اليوم، كما كان هناك عدد من كتاب المسرح الذين قدموا عروضاً جادة حققت جماهيرية، وأيضاً كان منهم مصورون ومنتجون أسهموا في مجموعة من الأعمال السينمائية البارزة، إضافة إلى نجوم الغناء والتمثيل المصريين ذوي الأصل الأرميني الذين حققوا شعبية واسعة وبينهم لبلبة ونيللي وفيروز وأنوشكا، فأغلبهنّ اخترن أسماء شهرة بعيدة عن أسماء عائلاتهنّ الأرمينية التي عادة ما تنتهي بحروف "الياء والألف والنون لتشكل كلمة "يان" التي تعني آل.
أما المخرجة المصرية الأرمينية التي تمثل الجيل الجديد ديسيل مختيجيان فتحتفظ باسمها الأصلي، وتقول إن هناك الكثير الذي يجمعها مع مشاهير الفن الأرمن وتتابع "لدينا الخلفية نفسها، نتشارك اللغة وفخورون بجذورنا ومصريتنا فنحن مميزون لأننا أرمن وننتمي لواحدة من أعظم دول العالم، مصر".
وتتقاطع قصة الفيلم الذي أبدت عائلة ديسيل فخرها به مع الإسهام الهائل للرسامين والمصورين الأرمن في الحياة المصرية، فإضافة إلى رسام الكاريكاتير الشهير ألكسندر صاروخان هناك أيضاً المصور الفوتوغرافي غابرييل ليكيجيان، الذي صور ملوك وأمراء الدولة المصرية، وذلك قبيل وفاته عام 1920، وكذلك مسيو أرمان أرزرون الذي سجلت عدسته صوراً لسياسيين مثل محمد نجيب وأنور السادات وجمال عبدالناصر، والأخير وقف في ليلة زفافه مع زوجته السيدة تحية عبدالناصر أمام كاميرات أرمان في أستوديو "أرماند" بوسط القاهرة.
ويعتبر فان ليو "20 نوفمبر (تشرين الثاني) 1921 - 18 مارس (آذار) 2002" من أهم مصوري الفوتوغرافية الأرمينيين في مصر، والتقط صوراً على قدر كبير من التميز لأشهر نجوم الفن في عصره، مثل رشدي أباظة وعمر الشريف ومريم فخر الدين ومحمد عبدالوهاب وداليدا وزبيدة ثروت وشكري سرحان ومئات غيرهم.
وتتناول حكاية "من عمل الشيطان" قصة فتاة أرمينية مصرية قضت طفولتها في مصر ثم سافرت للإقامة في فرنسا لمدة 10 سنوات وتعود لتقيم معرضاً عن المصورين الأرمن، وتستعرض خلال العمل التراث المصري الذي يسكن بداخلها إضافة إلى ارتباطها بالتقاليد العائلية الأرمينية التي تنبع من ارتباطها الوثيق بجذورها، وفي حين أن ديسيل أيضاً عاشت بباريس ووجدت نفسها منجذبة للإخراج نظراً إلى احتكاكها بثقافات متعددة، فيمكن القول إن الفيلم يحمل شيئاً من الواقع الذي عاشته، وتشرح وجهة نظرها، قائلة إن "الفيلم مزيج من الواقع والخيال، فالخيال يمنحني الحرية في سرد الحكاية كي أجعل الجمهور يتساءل، ولكن بالطبع هناك جانباً وثائقياً دقيقاً في العمل من ناحية البحث، إذ ركزنا على إنجازات المصورين الأرمن في مصر منذ سنوات طويلة ومن ناحية أخرى قصة عائلة الأبطال وكيف أتوا إلى مصر وطريقة اندماجهم في المجتمع".
جيل أكثر انفتاحاً
المدرسة الأرمينية التي تقع بحي مصر الجديدة تأسست قبل نحو 100 عام مع أكثر من مؤسسة تعليمية أخرى بينها مدرسة موازية كانت في منطقة مثلث ماسبيرو بوسط القاهرة ومع تطوير المكان وهدم بنياته تم ضمها لمدرسة مصر الجديدة، لكن المؤسسات الأرمينية على رغم أنها تشكل مجتمعاً له سمات خاصة لكنها لم تكن أبداً عائقاً أمام الانصهار، وعلى عكس ما يشاع من أن الأرمن يتشبثون بالزواج من بني طائفتهم فإن هذا الأمر ليس كما يتصوره البعض حيث يشير الأكاديمي جورج نوبار سيمونيان إلى أنه من المفضل بالطبع مثل أي مجموعة سواء كانوا أقارب أو من بلدة معينة أو لهم ثقافة معينة أن يتزوجوا ممن يشتركون معهم في نفس الخلفية والهوية والجذور، لكن المصريين الأرمن منفتحون بصورة أكبر في ما يتعلق بالزيجات بخاصة مع تقلص أعدادهم إلى بضعة آلاف بعد أن كانوا قد تجاوزا الـ100 ألف، حيث إن هناك نحو 25 في المئة من زيجاتهم أصبحت مختلطة سواء في ما يتعلق بالجنسية أو الديانة.