Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أكتوبر "الحائر"... من يكتب رواية النصر؟

إنها الحرب التي هزم فيها الجميع وانتصروا على هزيمتهم وانهزامهم وعوقبوا على القوة كما على الضعف والنسيان

مثلت هذه الحرب بالنسبة إلى ملايين المصريين نصراً معنوياً كانوا في أشد الحاجة إليه على رغم مآلاتها اللاحقة (أ ف ب)

ملخص

تلك هي رواية الحرب التي تتبدل فصولها باستمرار رأساً على عقب

في 14 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973، اعتلى الرئيس المصري أنور السادات منبر مجلس الأمة ليتلو خطاب النصر الذي تاق إليه الجميع على مدار ست سنوات هي عمر النكسة العربية التي التهمت سيناء والجولان والضفة وأهانت كبرياء العرب.

إنه يوم الشرعية الحقيقية للرئيس الذي طالما تملص من المواجهة وأرجأ القتال إلى حين بمبررات لم يصدقها أحد، ثم أطلق ما سماه "عام الحسم" (1971) لكن العام مر من دون حسم، واستشاط الطلبة غضباً وأعلنوا العصيان فاعتقل النظام عشرات الشبان المطالبين بتحرير الأرض المحتلة، وأصدر المثقفون بيانهم الشهير لإنهاء حال "اللاسلم واللاحرب" فاعتقل السادات جميع الموقعين على البيان، وهكذا باتت شرعية الرئيس من دون قتال وانتصار في حكم الملغاة.

ولم يكن هناك من مفر سوى الحرب التي قرر السادات أن يخوضها، ولكن برزانة العاقلين، فهو بلا شك كان أكثر من سلفه جمال عبد الناصر تقديراً لقوة الخصم، ويعرف مقدار ما خسر الزعيم الراحل من الإفراط في الدعاية واختراع الأوهام ومغازلة الكوارث.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ثم خاض السادات الحرب أخيراً بدهاء وشجاعة نادرين في الحقيقة، لكنه كان يعرف أنه لن يكمل الطريق حتى النهاية، بل إنه سيتوقف هناك على الضفة الأخرى من قناة السويس ليلتقط الثمار التي ستتساقط من الخارج، وها هو الآن يعلن انتصاره الحاسم وينتظر المكافأة من الرعاة الكبار.

"إن التاريخ العسكري سوف يتوقف طويلاً بالفحص والدرس أمام عملية يوم السادس من أكتوبر سنة 73، حين تمكنت القوات المسلحة المصرية من اقتحام مانع قناة السويس الصعب، واجتياح خط بارليف المنيع، وإقامة رؤوس جسور لها على الضفة الشرقية من القناة بعد أن أفقدت العدو توازنه في ست ساعات".

كان الرئيس، الذي ارتدى بزته العسكرية ذات النياشين، يشدد على كل كلمة يقولها، على كل حرف من كلماته كي لا يضيع في التصفيق والصخب، ممثل محترف يؤدي دوره بإتقان على مسرح التاريخ. ولم لا وهو الذي حلم في لحظة ما من حياته أن يصير نجماً سينمائياً، ولكنه فشل في اختبار النجومية الأول. وها هو الآن نجم الشاشات الأوحد في كل العالم العربي، بل والعالم بأسره بينما يتلو خطاب الانتصار الذي غير الخريطة السياسية للشرق الأوسط.

لكنه لم ينس، هو القائد المنتصر، أن يبدي انفتاحاً سياسياً غير مسبوق في تاريخ الصراع، ويدعو الولايات المتحدة بوضوح إلى الإشراف على صنع السلام.

"إنني أوجه من هنا إلى الرئيس نيكسون رسالة مفتوحة، رسالة لا يمليها القول، ولكن تمليها الثقة، رسالة لا تصدر عن ضعف ولكن تصدر عن رغبة حقيقية في صون السلام ودعم الوفاق. أريد أن أقول بوضوح إن مطلبنا في الحرب معروف لا حاجة بنا لإعادة شرحه، وإذا كنتم تريدون معرفة مطلبنا في السلام فإليكم مشروعنا للسلام".

"دون كيشوت" المصري

لكن المعركة حتى هذه اللحظات لم تكن وضعت أوزارها بعد، لم يكن هناك منتصر أو مهزوم، حين وجد السادات أن لا ثمار هناك في الجهة المقابلة، وحين أغراه انتصاره المبدئي "عسكرياً" وهزيمته المبدئية "سياسياً" ليطور الهجوم مرة أخرى في عمق سيناء من أجل إجبار واشنطن على أن تعطيه بالسياسة ما يستطيع هو أن يأخذه بالقوة.

كان السادات في هذه اللحظة مثل دون كيشوت حقيقي لا يستمع لنصيحة الأتباع، وهو كأي دون كيشوت قادر على مقارعة الطواحين التي ستقضي عليه حتماً، ولكنه سيكسب المجد والتاريخ في النهاية. من هنا بدأ المجازفة التي قلبت معادلة الحرب.

في ذلك اليوم كانت قواته تشن هجوماً فاشلاً في سيناء خسرت 250 دبابة بعد ساعتين فقط من بدايته، وهي بحسب وزير الحربية السابق أمين هويدي (الفرص الضائعة) أكثر من مجموع الخسائر التي تكبدتها مصر منذ بداية القتال وحتى اللحظة التي قرر فيها السادات تحريك القوات شرقاً خارج مدى حائط الصواريخ الدفاعي لتسقط في كمائن العدو المتربصة منذ حين.

لقد كانت لحظة إعلان النصر هي بداية الاختناق على الجبهة، الذي سيمتد بعد ساعات من ذلك إلى الضفة الغربية من قناة السويس ليطوق الجيش الثالث الميداني ومدينة السويس، وهو ما تسجله رئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مائير في مذكراتها قائلة، "في 16 أكتوبر 1973 خطبت في (الكنيست) وأمكنني أخيراً أن أخبر الأعضاء بأن قواتنا تقوم الآن بعملياتها في الضفة الغربية للقناة، وقدمت شكري علناً للرئيس الأميركي وشعبه".

ما الذي حدث؟

تلكما روايتان متناقضتان تماماً للحرب التي لم تحسم نتائجها حتى ذلك الحين، فالكلمة الأخيرة يفرضها الميدان لا المنصات العالية، لكن خلف هاتين الروايتين المتناقضتين تكمن الحقائق على الأرض. ولم يكن السادات، الذي ظل مأخوذاً بملحمة العبور، وبالمجد الذي هبط عليه من حيث لا يتوقع، يريد أن يعترف بهذه الحقائق على الملأ، بل إنه لم يستطع هو نفسه ولم يكن بوسعه حقاً، أن يصدقها على أي نحو.

وبما أن الرئيس قرر خوض معركة محدودة فقط من أجل تحريك القضية سياسياً على الساحة الدولية، فلم تكن خطة العبور "المآذن العالية" تتضمن أي شيء عن تطوير الهجوم نحو منطقة المضايق الاستراتيجية وسط سيناء، ومن ثم كان يجب أن تتخذ وضعاً دفاعياً بعد نجاحها في العبور واقتحام خط بارليف، وهو ما حدث بالفعل في الساعات الأولى من المعركة بصورة أذهلت الرئيس الذي أمضى ليلته مزهواً بما تحقق، لكنه لم ينس في اليوم التالي مباشرة أن ينقل مستقبل المعركة لمعسكر الأعداء.

في السابع من أكتوبر، يتلقى مستشار الأمن القومي الأميركي هينري كسينجر أول اتصال مباشر له مع القاهرة بعد الحرب، حين يبلغه نظيره المصري حافظ إسماعيل عبر قناة سرية مع البيت الأبيض بأن مصر "لا تريد توسيع الاشتباكات أو تعميق المواجهة"، وهو ما عنى بالنسبة إلى كسينجر أن مصر "غير راغبة في متابعة العمليات العسكرية ضد إسرائيل بعد الأراضي التي كسبتها".

 

 

والحال أن السادات حشد كل هذه القوات على طول جبهة القناة وصنع "معجزة حقيقية على أي مقياس عسكري" من أجل أن يقول للولايات المتحدة، التي تملك بحسبه كل أوراق اللعبة، إنني فعلت أقصى ما أستطيع أن أفعله من أجل تحريك الموقف والآن لقد جاء دورك.

لقد كان الانتصار المصري ساحقاً في السادس من أكتوبر بصورة لا تتناسب مع النتائج والتطورات التي حدثت بعد ذلك، وهو ما تنبه إليه كسينجر حين قال "إذا تعمقنا جيداً في ما يهدف إليه السادات من خوضه هذه الحرب يتبين لنا فارقاً كبيراً جداً بين الإجراءات العسكرية التي اتخذها المصريون وأهدافهم السياسية يؤدي عاجلاً أو آجلاً إلى مفاوضات سياسية. إن مذكرة إسماعيل أعطت الدليل على إمكانية إجراء محادثات مع بلاد هاجمت حليفنا، وربما لن يكتب لها النصر بسبب الأسلحة الأميركية، ولم يمض يوم طوال مدة الحرب لم نتلق فيه مذكرة من القاهرة، أو من دون إرسال مذكرة إليها، وعلى رغم إقامتنا جسراً جوياً لإيصال السلاح المطلوب إلى إسرائيل، وميلان الحرب لغير صالح مصر، لم نشعر بأية حفيظة أو ضغينة في مصر ضد أميركا، حتى لا تستميلنا إلى جانب إسرائيل في الأدوار الدبلوماسية المقبلة".

إلى هذا الحد كانت الحرب في عقل الرئيس السادات مقامرة سياسية لا ينبغي لها أن تفشل، وعندما لم يقدم كسينجر في المقابل سوى مطالبة الأمم المتحدة بأن "يتخلى عن تلك الأراضي التي يدعي ملكيتها والتي احتلتها جيوشه"، أقدم على مغامرة الـ14 من أكتوبر، حين قرر سحب الفرقة المدرعة 21 (الاحتياطي الاستراتيجي لقواته) من خلف القناة والتقدم بها في عمق سيناء، وهو خطأ استراتيجي فادح يرفضه العلم العسكري بلا هوادة.

لقد كانت مهمة الفرقة تأمين مؤخرة الجيوش التي عبرت، والتصدي لأية ثغرة محتملة يمكن لإسرائيل النفاذ منها إلى الجانب الآخر من القناة لتحقق عبوراً مضاداً، وبانسحابها إلى الضفة الأخرى ستكون مواقعها متاحة لأي اختراق من هذا النوع، وهو ما حدث بالفعل ليلة الـ15 من أكتوبر، حين تسللت بضعة دبابات من فرقة العميد إرييل شارون إلى الضفة الغربية من القناة في ما عرف بخطة "الغزالة"، وكان ذلك هو بداية تدفق القوات الإسرائيلية لضرب بطاريات الصواريخ المصرية وفتح ثغرة في الحائط الدفاعي الذي أخرج الطيران الإسرائيلي تماماً من المعركة حتى ذلك الحين، وحصار الجيش الثالث المصري من الخلف وقطع الإمدادات عنه ليقف على مشارف الإبادة لولا التهديد الروسي بالتدخل والإنذار النووي الأميركي بالحق في الرد، وهكذا وضعت الحرب أوزارها وأقيمت خيمة التفاوض عند الكيلو 101 من طريق القاهرة - السويس.

اختبار النار

لقد أعطى السادات بتثبيته الجبهة المصرية في الأيام الأولى للمعركة، جيش الدفاع الإسرائيلي فرصته الثمينة لمحو التقدم السوري في الجولان، بل واحتلال أراض جديدة على تخوم العاصمة دمشق، وبعدها كان لدى جيش إسرائيل الوقت للتسلح عبر الجسر الجوي الهائل الذي دشنه كسينجر، وإعادة الحشد باتجاه الجنوب، ثم المغامرة بهجوم مضاد على الجبهة المصرية واختراقها نحو الضفة الغربية، وهكذا وضع السادات كل أوراقه في جيب اللاعب الأبرز على الساحة الدولية، وعندما قرر المغامرة في منتصف الطريق على طريقته الخاصة لم ينج من العقاب.

فهل كان السادات محقاً حين ادعى النصر؟ نعم. وهل كانت إسرائيل محقة حين ادعته أيضاً؟ نعم. تلك هي الحرب التي ادعاها الجميع، وهزم فيها الجميع وانتصروا على هزيمتهم وانهزامهم، وعوقبوا على القوة والغطرسة كما على الضعف والإهمال والنسيان.

يقول المحلل العسكري الأميركي تريفور دوبوي (النصر المحير) "إذا كانت الحرب بمثابة قوة عسكرية تساندها أهداف سياسية، فإنه ليس ثمة شك في أنه بالمفهوم الاستراتيجي والسياسي قد كسبت الدول العربية، لا سيما مصر تلك الحرب، حتى ولو كانت النتيجة العسكرية قد أسفرت عن حال جمود أتاحت لكلا الجانبين ادعاء تحقيق انتصار عسكري".

من جانب آخر، يضيف دوبوي، حتى على رغم أن النتيجة العسكرية أسفرت عن نجاح عسكري لإسرائيل، فإن الحرب كانت بمثابة صدمة نفسية قاسية بالنسبة إلى شعبها، فالحرب جعلت الإسرائيليين يدركون أن قواتهم ليست هي القوة التي لا تقهر، ولا يمكن تقدير الصدمة النفسية لمقتل ما يناهز 30000 فرد وإصابة ما يربو على 11000 في غضون 19 يوماً من الحرب، وفي ضوء عدد السكان الكلي، فإن معدل خسائر الإسرائيليين يفوق الخسائر المصرية بمعدل خمسة أضعاف.

 

 

لقد كان أداء السادات في هذه الحرب مدهشاً بالنسبة إلى مستشار الأمن القومي الأميركي هنري كسينجر، الذي كان سابقاً ينعته بـ"المهرج" و"الشخصية المنتزعة من أوبرا عايدة"، ولكنه بات حكيماً في نظره حين آثر السلام على الطريقة الأميركية لا على طريقة حلفائه من السوفيات أو رفاق المعركة السوريين أو العرب جميعهم، بل إننا نستطيع القول إنه خدعهم باتصالاته السرية مع البيت الأبيض في أوج القتال، وهو ما كان يقدره كسينجر بشدة، وإن لم يمنعه ذلك من مواصلة دعم إسرائيل في المعركة لتحقق انتصاراً يمكن انتزاعه منها في الوقت المناسب للحيلولة دون تركيع مصر، وذلك من أجل الوصول إلى هدفه الأخير بإرساء نظام جديد في المنطقة تقوده بلاده على حساب موسكو.

لذا يقطع السفير السوفياتي لدى القاهرة في ذلك الزمن فلاديمير فينوغرادوف (مصر من ناصر إلى حرب أكتوبر)، بأنه "لم يتم الإعداد لحرب 1973 باعتبارها خطوة نحو تحرير الأراضي المحتلة وإقامة السلام العادل في الشرق الأوسط، وإنما وسيلة لنفاذ الولايات المتحدة مرة أخرى إلى المنطقة، وتحت قناع صناع السلام ووسطاء الخير. لقد مثلت النوعية الجيدة من الأسلحة والتجهيز العالي للقوات المسلحة المصرية وروحها المعنوية المرتفعة مفاجأة حتى للسادات نفسه، وكادت هذه القوات أن تنزل بإسرائيل هزيمة حقيقية، وهو ما كان مخططاً له، في جميع الأحوال، من قبل، كانت السيطرة على هزيمة الإسرائيليين ضرورية للأميركيين حتى يظهروا في صورة المنقذين لإسرائيل، كما كان من الضروري بالنسبة إليهم أيضاً أن تقع مصر في وضع حرج حتى يقوم الأميركيون بدور مماثل معها. وقد حقق تسلل القوات الإسرائيلية عبر قناة السويس إلى الجانب الأفريقي من مصر لتقف على بعد 100 كيلو متر من القاهرة هذا الهدف المزدوج، لقد كانت الثغرة التي أحدثها الإسرائيليون بمثابة عقاب لمصر للحماس المفرط لقواتها المسلحة، التي قامت على نحو واضح بـ(تجاوز تنفيذ)، إذا جاز القول، مهمتها".

هكذا كانت الحرب جزءاً من الصراع الدولي، بالتالي لم يسمح لأي طرف فيها بإحراز انتصار عسكري ساحق على حساب الطرف الآخر، وقد أدت تدخلات الدولتين العظميين الواحدة تلو الأخرى، بحسب المؤرخ الفرنسي هنري لورنس (مسألة فلسطين – الكتاب الثامن)، إلى استحالة تحقيق انتصار عربي، ثم إلى استحالة تحقيق انتصار إسرائيلي على الأرض، وفي جميع الأحوال فإن أي تقدم إسرائيلي على الأرض ما كان بإمكانه أن يجد ترجمة له في مكسب سياسي، وهذا هو ما يسمى عجز القوة عندما تعجز عن التحول إلى حق، ومن فكر التفكير الأفضل في هذا الوضع هو السادات، الذي تمكن من اللعب على الدولتين الأعظم وتمكن من دفعهما إلى نجدته حين أصبح موقفه صعباً.

ويضيف لورنس "ميزة وضع كهذا هي أنه لا يبدو هناك مهزومون، فمصر وسوريا قد حققتا الحد الأدنى من أهدافهما باستعادة كرامتهما العسكرية، ومن ثم بتأكيد شرعية نظاميهما، وهما في وضع أفضل يمكنهما من قبول التفاوض. أما إسرائيل فقد أنقذت أمنها وسمعتها العسكرية، وقد تفادى الاتحاد السوفياتي هزيمة عربية كان يخشاها كل الخشية، وأثبت قيمة عتاده العسكري، بينما بينت الولايات المتحدة أنه لا يمكن عمل شيء من دونها".

لا انتصار ولا هزيمة

إذاً فلقد كانت الأدوار كلها تجري صناعتها في الخارج من أجل أهداف لا تخدم بالضرورة الطرفين المتحاربين بقدر ما تنشئ وضعاً جديداً من نوعه ومعادلة غريبة على الشرق الأوسط هي معادلة "اللانصر" و"اللاهزيمة" بدلاً من معادلة "اللاحرب" و"اللاسلم". ومعنى ذلك، بحسب أستاذ العلوم السياسية بالجامعة اللبنانية مجدي حماد (السادات وإسرائيل.. صراع الأساطير والأوهام)، "أن إسرائيل لم تعد منتصرة لكن لم تنزل بها هزيمة ساحقة، كما أن العرب لم يعودوا منهزمين لكنهم لم يحققوا نصراً كاملاً، ولا شك أن هذه "المعادلة الجديدة" أو "التوازن الجديد" هي ما كان يسعى إليه كسينجر لكي يتدخل في الصراع، بحثاً عن حل، في الوقت الذي سيجد فيه كل من الطرفين ما يقوله لشعبه في شأن الانتصار الذي حققه على الطرف الآخر".

لقد كان سيد الدبلوماسية الأميركية هنري كسنجر، كما يقول الصحافي بجريدة "لوموند" إريك رولو (في كواليس الشرق الأوسط)، نتاجاً للحرب الباردة التي حددت رؤيته للشؤون الدولية، فقد كان مقصده الأساسي هو التصدي للنفوذ السوفياتي في الشرق الأدنى، وقد كتب أنه منذ بداية حرب أكتوبر انشغل في مناورات بمجلس الأمن لكي يمنع إسرائيل من إحراز نصر كامل "من شأنه إثارة غضبة العالم العربي وتهيئة مزيد من التدخلات السوفياتية". وقد عمل على أن يحرز الجيشان المصري والسوري نجاحاً محدوداً، راجياً بذلك كسب ود العرب، بمن فيهم الأكثر "راديكالية" الذين كان يأمل أن يبتعدوا عن موسكو، وقد وصل إلى غاياته بسهولة مع مصر التي كانت تتحين الفرصة للتحول إلى المعسكر الأميركي.

 

 

ولم تكن الثغرة عملية عسكرية فقط، كما يقول وزير إعلام الحرب مراد غالب (مع عبد الناصر والسادات)، "بل كانت ثغرة سياسية نفذت منها أميركا لبدء سيطرتها على مقدرات الصراع، بل ومقدرات المنطقة". وهو بذلك يفسر لماذا لم يوافق السادات على ضرب مطار العريش لوقف الإمدادات العسكرية الأميركية بأطقمها، "لأنه لا يريد استفزاز الولايات المتحدة والمواجهة معها، وكان معنى ذلك أنه أعطى لإسرائيل الفرصة لكي تحدث أكبر الخسائر بالقوات المسلحة المصرية، وتقوم بتطويق الجيش الثالث والوجود غرب القناة من جنوب الإسماعيلية إلى السويس، وتحويل الانتصار إلى موقف في غاية التعقيد، وخلق علاقات قوى جديدة حول قناة السويس تسهل للولايات المتحدة أن تكون هي القوة المسيطرة والحاسمة في الموقف، وتصبح أوراق اللعبة في يدها كما كان يردد".

أما النتيجة، كما أوردها أمين هويدي (الفرص الضائعة)، فهي أنه "لم تكن هناك انتصارات عسكرية يمكنها حسم الموقف السياسي لصالحنا، بل كان الموقف العسكري حرجاً، ولم يكن من المنتظر إصلاحه قبل وقت ليس بالقصير، ولا يعلم أحد ما يمكن أن يتم حتى يتحقق ذلك".

في كتابه (السادات) يكتب الصحافي في جريدة "لوموند" روبير سوليه، "ظهرت في عدد السادس من نوفمبر (تشرين الثاني) 1973 من جريدة "لوفيغارو" الفرنسية مقالة لريمون آرون بعنوان (هزيمة المنتصر) وكان المشهد الذي رسمته المقالة عبارة عن لوحة على درجة من الغرابة. كانت أرقام الخسائر في غير مصلحة المصريين، فقد سقط لهم 6000 قتيل و12000 جريح، أي ثلاثة أضعاف ما تكبده الإسرائيليون على الجبهة الجنوبية، كما خسرت مصر 1100 دبابة و450 مدرعة أي ما يوازي ضعفي خسائر عدوتها، وما يقارب أربعة أضعاف خسائر الإسرائيليين من الطائرات (223). أما مساحة الأرض التي استعيدت على الضفة الشرقية لقناة السويس فكانت أقل من مساحة الأرض التي فقدت على ضفتها الغربية، ووصل العدو إلى مسافة 100 كيلو متر من القاهرة".

ويستدرك سوليه، "لكن هذا لا يمنع أن إسرائيل تعرضت للمرة الأولى لضربة مؤلمة على يد جيش عربي، كانت 1973 رداً على 1967، ولو أن سيناء لم تسترجع في الوقت الراهن. ويقول الصحافي صلاح الدين البيطار إن (إسرائيل خسرت الحرب لأنها لم تحقق انتصاراً واضحاً، كما أن العرب ربحوها لأنهم لم يخسروها). فهل بقيت تلك الحرب مباراة من دون أهداف؟ في الحقيقة لا، فالسادات بلغ أهدافه السياسية، حتى لو أظهر محدودية قدراته كمخطط استراتيجي عسكري".

تلك النتائج المحيرة

لقد كان الانتصار محيراً، والهزيمة كذلك وإن أنكرها الجانبان مطلقاً واحتفلا معاً بالنصر هنا وهناك. "ولما لم يكن هناك أي حسم عسكري واضح في ميدان القتال، فقد راح يجري صنع الأساطير وإدراجها في كتب التاريخ القومي"، بحسب إدغار أوبلانس، وهو ضابط بريطاني وصحافي وباحث ومحاضر أكاديمي متخصص في العلاقات الدولية (العبور والثغرة)، "والآن يحاول الإسرائيليون خلق انطباع بأنهم فوجئوا فحسب، وأنه بمجرد أن استعادوا توازنهم كان كل شيء على ما يرام، ويصرون على أن (الكيف) الإسرائيلي لا يزال متفوقاً على (الكم) العربي، وأن جنرالاتهم الشبان المقتدرين والمفعمين بالطاقة كانوا متفوقين على كبار الضباط العرب، مثلما كان الجندي الإسرائيلي متفوقاً على الجندي العربي. ويفضل الإسرائيليون القول إنهم ردوا العرب على أعقابهم في الجبهتين على حد سواء، وأنهم عبروا قناة السويس وتوغلوا في أفريقيا وحاصروا الجيش الثالث المصري بسهولة، كما يزعمون أن تدخل القوى العظمى وحده هو الذي أنقذ الجيش الثالث من الاستسلام وحال دون تقدم الإسرائيليين داخل الأراضي العربية أكثر من ذلك، حيث كان الطريق إلى القاهرة مفتوحاً أمامهم. ولم تكن الصورة صحيحة على الإطلاق، وتكرار ترديدها وتصويرها على أنها حقيقة إنما يعرض الإسرائيليين للوقوع في أخطاء خداع النفس ذاتها والإفراط في الثقة، وهي الأخطاء التي وقعوا فيها بعد حرب 1967".

 

 

من الناحية الأخرى، يتابع أوبلانس، "فإن المصريين يحاولون أيضاً إقناع أنفسهم والآخرين بأنهم كسبوا الحرب، وهم يشيرون إلى حقيقة أن الإسرائيليين ما عادوا على الضفة الشرقية لقناة السويس، وأن خط بارليف ما عاد موجوداً، وأن قناة السويس أصبحت الآن مفتوحة أمام حركة الملاحة العادية، إلا أنهم عندما يفعلون ذلك فإنهم يتعامون بشكل ضار عن الإنجازات العسكرية الإسرائيلية، وعن حقيقة أنهم لم يتوغلوا في سيناء أكثر من 16 أو 17 ميلاً، بل وحتى سوريا قد أقنعت نفسها بأن دفاعها عن خط ساسا كان انتصاراً، بينما يعتقد العراق والأردن أن وقف إطلاق النار كان سابقاً لأوانه وأنه منعهما من إعادة الإسرائيليين إلى نهر الأردن".

والحقيقة، بحسب "العبور والثغرة"، وهو من أكثر الكتب حيادية عن الحرب، أن معركة أكتوبر كانت من الناحية العسكرية تعادلاً، فعلى رغم أن المصريين قد كسبوا نحو 300 ميل مربع من أراضي سيناء التي يحتلها الإسرائيليون على الضفة الشرقية للقناة، فقد خسر السوريون تقريباً المساحة نفسها من الأرض في الشمال، أما من الناحية السياسية فقد غيرت الحرب بشكل حاد الموقف في الشرق الأوسط من وضع "اللاحرب واللاسلم" إلى وضع "اللامنتصر واللامهزوم". وباختصار فإن كل جانب قد كسب مزايا وإن كان قد تكبد خسائر.

معنى ذلك أننا إذا نظرنا إلى تلك الحرب على أنها صراع إرادات فإن الميزان سيميل بوضوح إلى الجانب العربي الذي لم يكن مثل هذا التغير الحاد في المنطقة سيحدث لولا مبادرتهم وانتصارهم في بداية القتال، ذلك على رغم المآلات القاسية للمعركة، وهو ما يؤكد عليه الصحافيان البريطانيان ديفيد هيرست وإيرين بيسون (السادات)، إذ "يمكن القول إنه على رغم أن حرب أكتوبر كانت أبعد مما يمكن وصفه بالنصر، فإنها مثلت صفعة لإسرائيل بشكل أكبر مما تسببت فيه للعرب، أو بالأحرى كان يجب أن تكون كذلك لو أحسن استغلالها، وعلى رغم العبور المضاد فقد مثلت تغيراً جوهرياً في موازين القوى بالشرق الأوسط على حساب إسرائيل، وللمرة الأولى في تاريخ الصهيونية حاول العرب تحقيق وضع قائم على الأرض بقوة السلاح ونجحوا في ذلك جزئياً، ولم تكن النكسة (الإسرائيلية) عسكرية فحسب، بل (وهذا هو الأهم) فقد أثرت في العناصر النفسية والأيديولوجية والدبلوماسية والاقتصادية التي تصنع قوة الأمة وحيويتها، فتركت شكوكاً عميقة ودائمة في شأن مستقبل الصهيونية والدولة اليهودية برمتها".

دموع الجنرالات وحروبهم

وبما أننا إزاء "لا نصر" و"لا هزيمة" فقد كان طبيعياً أن تتراشق الأطراف جميعها بالتهم، ومن ثم تأتي لكل شاهد شهادة لا يراها سواه، وحتى رفاق الجبهة الواحدة يتنازعون في ما بينهم، من كان على صواب ومن كان على خطأ.

في مصر، قدم الفريق سعد الشاذلي رئيس الأركان، الذي تعرض للإقالة في المعركة على رغم دوره المحوري فيها، بلاغاً إلى النائب العام المصري في 21 يوليو (تموز) 1979، يتهم السادات بالإهمال الجسيم جراء قراراته الخاطئة التي دفع الجيش ثمنها غالياً، فضلاً عن تزييف التاريخ، والكذب، والادعاء الباطل، وإساءة استخدام السلطة. وكان الشاذلي مستعداً لمحاكمة علنية يقدم فيها الأدلة القاطعة التي تدين السادات، ولكنه حوكم عسكرياً في ما بعد بسبب مذكراته عن حرب أكتوبر، التي ألصق فيها بالرئيس السادات تهمة الخيانة العظمى، وقد قضت المحكمة العسكرية غيابياً، في زمن الرئيس حسني مبارك الذي كان قائداً لسلاح الطيران أثناء الحرب، بسجنه ثلاث سنوات بتهمة "إفشاء أسرار عسكرية" وليس "نشر أخبار كاذبة".

وكان الشاذلي لا يزال يصر على أن خطة العبور، التي نجحت بجدارة، لم تشمل احتلال المضايق الاستراتيجية ولا التحرير الكامل لسيناء بالضرورة، لذا عارض بشدة فكرة تطوير الهجوم التي أقدم عليها السادات وأتاحت لإسرائيل التسلل عبر القناة، حين وجد أن رئيس هيئة عمليات الحرب عبد الغني الجمسي يهمس إليه في مذكراته بمودة قائلاً له، إن "خطة حرب أكتوبر 1973 قد وضعت بعد أن استغرق العمل فيها وقتاً طويلاً بواسطة هيئة عمليات القوات المسلحة واشتراك الأفرع الرئيسة لهذه القوات، ووافق عليها الفريق الشاذلي وصدق عليها القائد العام الفريق أول أحمد إسماعيل (بتوقيع كل منهما على وثائقها)، وطالما أن الخطة وضعت لتحقيق هدف استراتيجي هو الوصول إلى المضايق، فليس من المستساغ أن يقول رئيس الأركان إنه كان ضد تطوير الهجوم إلى المضايق في مرحلة التخطيط".

كان الجمسي هو ممثل الجبهة المصرية في مفاوضات الكيلو 101 على طريق القاهرة – السويس بعد انتهاء القتال، وقد قبل القيام بهذا الدور على كره منه، إذ لم يكن يتوقع لقاء مباشراً مع إسرائيليين إلا بالسلاح، وعلى رغم أن "مفاوضات الخيمة" كانت ودية إلى حد كبير فإنه لم ينس أبداً أن دموعه تساقطت حين استشعر حجم التضحية الكبيرة للجيش المصري في مفاوضات فك الاشتباك الأول بأسوان، يناير (كانون الثاني) 1974، وحين أنبأه كسينجر بأن السادات وافق على تخفيض حجم القوات على الضفة الشرقية للقناة لتصبح 7000 رجل بدلاً من جيشين، و30 دبابة بدلاً من 300، وعدد محدود من قطع المدفعية.

بعد المعركة أحيل الجمسي للتقاعد "بناء على طلبه" وهو لا يزال على قناعته بأن حرب أكتوبر لن تكون آخر الحروب كما يدعي السادات، فـ"لقد فرضت الحرب الرابعة حتميتها في أكتوبر 1973 بعد أن أصبح لا بديل عنها، وستفرض الحرب الخامسة حتميتها إذا لم يكن هناك مفر منها".

 

 

في إسرائيل، كانت الطعون حاضرة أيضاً بين رفاق المعركة، حيث اندلعت هناك ما أطلق عليها إريك رولو "حرب الجنرالات"، وفيها "انخرط الضباط من ذوي الرتب العليا في حروب كلامية في الصحافة لم ير في عنفها من قبل، ليتقاذفوا في ما بينهم مسؤولية ما اصطلح على تسميته بـ(الزلزال). كان ضغط الرأي العام على قادة البلاد الذين اعتبروا جميعاً مذنبين قد وصل إلى حد لا يحتمل، حتى إن موشيه دايان، الذي كان يعد في الماضي بطل حرب 1967، قد وصف بالقاتل في تظاهرة عاصفة، فيما سرت العرائض المطالبة بإقالته (من وزارة الدفاع)، أما السيدة غولدا مائير التي كانت تُذكر حتى عهد قريب بوصفها (الرجل الوحيد المتصف بصفات الرجولة في الحكومة)، فقد حقرتها الجماهير وهتفت ضدها، وكان ثمة مسرح في تل أبيب تمتلئ قاعته عن آخرها بالمتفرجين كل ليلة، وذلك لتقديمه مسرحية تهزأ من طبقة السياسيين بأسرها".

بعدها بأشهر عدة أوصت لجنة التحقيق الحكومية برئاسة رئيس المحكمة العليا الإسرائيلية شمعون أجرانات بنقل رئيس هيئة الأركان الفريق ديفيد إليعازر، وقائد المنطقة الجنوبية اللواء شموئيل جونين، ورئيس شعبة الاستخبارات العسكرية اللواء إيلى زعيرا، ومساعد رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية للبحوث العميد آرييه شاليف من مناصبهم. وبرأت تلك اللجنة ساحة كبار القيادة السياسية، رئيسة الوزراء غولدا مائير، ووزير الدفاع موشيه ديان، لكن الضغط الجماهيري أجبر كلاً من مائير وديان على الاستقالة.

بعد 20 عاماً من الحرب، هي المدة المتاحة لرئيس الاستخبارت قبل أن يصير من حقه التكلم، اتهم إيلي زعيرا "لجنة أجرانات" بالبعد من النزاهة، لأنها لو كانت كذلك لأمرت بإقالة مائير وديان، فهما اللذان يتحملان المسؤولية السياسية عن الحرب. واعترف زعيرا في مذكراته "حرب يوم الغفران.. الواقع يحطم الأسطورة" بأن الاستخبارات المصرية دست معلومات مضللة على غولدا مائير من دون تحليل من الاستخبارات على أساس أنها موثوق بها، وكانت هذه المعلومات هي السبب الأساسي وراء التقديرات الخاطئة التي اتخذتها الحكومة الإسرائيلية في شأن توقع الحرب.

والحقيقة، كما يقطع إريك رولو، أن زعيرا كان يمتلك ضمن ملفاته مخططات تفصيلية للمشروعات الحربية الخاصة بمصر وسوريا، لكنها لم تكن تثير اهتمامه قط، كما كانت بحوزته أيضاً صور فوتوغرافية ملتقطة من الجو لتكتلات القوات المصرية على الحدود، التي لم يكن يرى فيها سوى "مناورات روتينية"، وقبل الحرب بيومين فسر طرد أسر الخبراء السوفيات من البلدين العربيين، البالغ عددهم سبعة آلاف من النساء والأطفال، على أنه ثمرة أزمة علاقات بين روسيا وحلفائها، وتمت إساءة التقدير مرة ثانية في شأن رحيل جميع السفن السوفياتية الراسية في الموانئ المصرية والسورية في اليوم نفسه، وفي 25 سبتمبر (أيلول) أي قبل الحرب بأسبوعين، ذهب الملك حسين ورئيس وزرائه إلى إسرائيل لتحذير غولدا مائير من أن الهجوم المصري السوري بات وشيكاً، وكانت بحوزتهما معلومات موثقة قدمها عملاؤهما في القاهرة ودمشق، لكن إيلي زعيرا وديفيد إليعازر رئيس أركان الجيش رأيا أنها معلومات "غير صحيحة".

 

 

وحده شارون الذي "كانت إسرائيل تحتفي به بوصفه (البطل) الأوحد في هذه الحرب، وقد حظي في الواقع بالاهتمام الأكبر في الإعلام. يقول رولو إنه بادره منتشياً بالقول "يعود الفضل إليّ في تغيير مسار المواجهة لصالحنا على نحو حاسم. فعمليتي هي الأروع والأبدع على مستوى الحرب كلها". وألقى شارون بتبعية الهزيمة على الجيش الذي وقع ضحية "تسييس مفرط" على حد قوله، ودأب على السخرية من كل ضابط من الضباط غير الأكفاء، مؤكداً أن تعيينهم قد تم بناء على ولائهم لحزب العمل الحاكم، وإذ لم يلتزم واجب الحديث بتحفظ عن المسائل العسكرية وقعت عليه هيئة أركان الجيش عقوبة "التأنيب"، مما حدا به إلى قطع اتصالاته بصديقه ومرشده موشيه ديان وتقديم استقالته من الجيش، في ما كانت شعبيته قد بلغت أوجها. وأشاد معجبوه الكثر بما يتمتع به من عبقرية، ولقبته حشود المتظاهرين بـ"ملك إسرائيل"، وبعد خروجه من الجيش لم تكن مسيرته السياسية أقل دموية مما فعله في القتال.

معنى "جيل الغفران"

ما زالت اتفاقية فك الاشتباك في الجولان فاعلة إلى اليوم، وحدود الجولان هي الأهدأ على الإطلاق من كل الحدود الأخرى لإسرائيل، أما السلام مع مصر فلا يحتاج إلى شواهد جديدة، وعلى رغم سنوات السلام الطويلة لم تتبدل الرواية الإسرائيلية عن "حرب الغفران" حتى يومنا هذا، بل إنه يجري استدعاؤها كل عام لتأكيد عناصر القوة والتفوق والامتياز، وكأن إسرائيل على رغم اتفاقيات التطبيع العربية المتتابعة لا تزال تشعر بأنها في محيط معاد يريد سحقها في اللحظة المواتية، وهكذا يمكن تفسير تغريدات بنيامين نتنياهو قبل أربعة أعوام في ذكرى الحرب، حين قال إن "جيش الدفاع مستعد لمواجهة أي تهديد، سواء من خلال الدفاع أو الهجوم، ويملك قوة ساحقة وترسانة هائلة من الأسلحة". وهو إذ يلوح لإيران بهذه التهديدات فإنه يستلهم ذلك من "الروح القتالية لجيل حرب الغفران".

في أكتوبر 2020 يعلق رئيس الوزراء الإسرائيلي قائلاً، إنه "على رغم الموقف الضعيف في بداية الحرب، قلبنا الموازين رأساً على عقب وحققنا النصر في غضون ثلاثة أسابيع بعد الهجوم المفاجئ الذي شنه الأعداء، والذي كان من الأصعب في التاريخ العسكري، ووقف مقاتلونا على أبواب القاهرة ودمشق".

لم يعد لدى إسرائيل الآن ما تخبئه عن هذه الحرب أو تدعيه لنفسها، فقبل شهر من إحياء الذكرى الـ50 لهذه المعركة الفارقة في تاريخها وتاريخ المنطقة، نشر أرشيف إسرائيل مجموعة شاملة من آلاف الوثائق والصور والتسجيلات ومقاطع الفيديو تلقي ضوءاً غامراً على "الطريقة التي تم بها التعامل مع الحرب والفشل الاستخباراتي الكبير الذي سبقها" وفق موقع "تايمز أوف إسرائيل". الآن وقد أصبح كل شيء عن الحرب متاحاً للجمهور الإسرائيلي بلا حذف أو إضافة، بات بإمكان كسينجر، الذي بلغ عامه الـ100 قبل أشهر قليلة، أن يقول "منعنا نصراً عربياً في حرب أكتوبر"، من دون أن يدعي "انتصاراً" إسرائيلياً أشرف هو بنفسه على إمداده وتسليحه بدءاً من اليوم السابع للقتال.

 

 

ففي 21 سبتمبر 2023 قال كيسنجر، في مقابلة مع صحيفة "معاريف" الإسرائيلية، "عقدنا العزم منذ اليوم الأول على منع نصر عربي في الحرب، ورأينا في نصر كهذا ضربة للولايات المتحدة نفسها، لأنه كان من الممكن تفسيره على أنه انتصار سوفياتي علينا".

وفي المقابلة يكشف كيسنجر عن المدى الذي كان من الممكن أن يصل إليه العرب في هذه المعركة التي فاجأت الجميع، لولا تحركاته هو في الوقت المناسب دبلوماسياً وعسكرياً لإنقاذ الموقف. يقول "كانت صورة المعركة مختلفة تماماً عن تلك التي رسمها الخبراء الأميركيون في مخيلتهم عندما نشر خبر الهجوم المصري، فقد دارت كل المناقشات حول الحرب على افتراض أن التفوق العسكري كان لصالح إسرائيل. لم نأخذ على محمل الجد أبداً إمكانية اضطرارنا للتعامل مع وضع يتمتع فيه السوفيات بميزة أو تفوق ما، ولكن تبين أن المصريين نجحوا في ضرب خط بارليف والدفع بأكثر من 100 ألف جندي ونحو 400 دبابة ووحدات (كوماندوس) إلى سيناء، وبناء جسور عدة فوق القناة. وفي الأيام الأولى من الحرب فقدت إسرائيل يومياً ما يقرب من 200 مقاتل. وأسر كثير من جنود الخط الأول الإسرائيلي على أيدي الجيش المصري. لم يكن لدى سلاح الجو الإسرائيلي رد حقيقي على أنظمة الصواريخ (6 – SA) سوفياتية الصنع. وانضم الطيارون الذين أصيبوا وتمكنوا من الهروب بواسطة مقاعد النجاة إلى رفاقهم في الأسر".

لقد مثلت هذه الحرب بالنسبة إلى ملايين المصريين نصراً معنوياً كانوا في أشد الحاجة إليه على رغم مآلاتها اللاحقة التي أصابتهم بالذهول وهم يرون ثمارها تتساقط واضحة للعيان، في زيارة القدس الصادمة وما جرى بعدها من عزلة ومقاطعة عربية، وفي "كامب ديفيد" وما أسفر عنه من خروج مصر من الصراع ربما إلى الأبد، وفي الطبقات الطفيلية التي سادت واستشرت في طول البلاد وعرضها كـ"القطط السمان"، وفي الجوع الذي ضرب جماهير "انتفاضة الخبز" عام 1977، وفي انفلات الإسلام السياسي من عقاله ليضرب المجتمع بأسره ويقتل الرئيس شخصياً في يوم مجده بالذات.

فهل انتهت رواية الحرب عند ذلك الحد؟

قضى حسني مبارك، الذي أطاحته ثورة شعبية في 11 فبراير (شباط) 2011، 30 عاماً في سدة الحكم متمتعاً بشرف القتال في حرب أكتوبر، وقد دأب إعلامه ومطربوه على اختزال النصر في الضربة الجوية الأولى والوحيدة التي قادها. وعلى رغم إدانته بعد تنحيه عن السلطة في القضية المعروفة إعلامياً بـ"القصور الرئاسية"، ومواجهته حكماً نهائياً وباتاً من محكمة النقض بالسجن المشدد لمدة ثلاث سنوات، تقدمته نياشينه وأوسمته في جنازة عسكرية مهيبة حضرها الرئيس السيسي، ووضع التلفزيون الرسمي شريطاً أسود اللون على الشاشة تعبيراً عن الحداد، ونعتته الرئاسة المصرية في بيان مقتضب، اقتصر على ذكر دوره العسكري قائداً للقوات الجوية في حرب أكتوبر.

أما المشهد الأسوأ على الإطلاق في ما يتعلق برواية الحرب التي تتبدل فصولها باستمرار رأساً على عقب، فقد كان ظهور قتلة السادات فوق منصة الاحتفال بالذكرى الـ39 على نصر أكتوبر أيام الرئيس الراحل محمد مرسي. لقد صعد الإخوان أخيراً إلى سدة الحكم بعد إطاحة مبارك، وبات من حق الإسلاميين أن يحتفلوا أيضاً بمعركة لا دور لهم فيها إلا استفادتهم من مآلاتها الغريبة، حين أطلقهم السادات من السجون ليواجه بهم الناصريين واليساريين المعارضين لسياسته، وقد تمتعوا بحمايته ودعمه طوال عهده وحتى قتلهم إياه في مثل ذلك اليوم من عام 1981 فوق منصة احتفال كهذه تماماً، ووسط ذلك الجيش.

المزيد من تحقيقات ومطولات