بين العروض الفنية التي تستضيفها غاليريهات القاهرة هذه الأيام تطالعنا تجارب نحتية ملهمة، يبرزعرضان مهمان للفنانين أحمد عسقلاني وآحمد مجدي. في معرض الفنان أحمد عسقلاني الذي يستضيفه غاليري بيكاسو نرى تجربة مختلفة عن مسار أعماله التي كان يُشكلها عادة من أعواد سعف النخيل، وهي خامة تستعمل في صناعة السلال في مصر منذ القدم. في هذا المعرض الذي يحمل عنوان "أبراج" يستبدل عسقلاني هذه الخامة بالبرونز ليقدم من خلالها تصوراته الشخصية حول صور الأبراج التقليدية التي نعرفها، وما نعتقده من تأثير لها على سماتنا الشخصية.
يؤمن البعض بهذا الارتباط بين بروج السماء والأرض، وأن مصائر البشر قد تتحدد وفقاً لهذا الارتباط. لا يعنينا هنا الحديث عما إذا كان ذلك حقيقة أم خرافة، فما يهمنا هو تلك المُخيلة البشرية المهولة التي صاغت هذا النسق البصري الذي نعرفه جميعاً ويعنّ لنا ربطه بطبائعنا. ففي سعيهم للجمع بين حوادث السماء والأرض، تأمل البشر تجمعات النجوم، فتهيأت لهم هذه الصور، والتي بدت كظلال للعناصر والأشكال المعروفة لهم. هذا النسق البصري نفسه هو الذي أشعل مخيلة الفنان أحمد عسقلاني. واستناداً إلى هذه الصور القديمة والمُتخيلة لأبراج السماء، صاغ عسقلاني أعماله في هذا المعرض، ومن وحي السمات المعروفة لكل برج من هذه الأبراج تشكلت هذه الأعمال النحتية.
هي الأشكال نفسها التي تخيلها القدماء لتجمعات النجوم، فهنا الحمل أو الأسد، وهناك السرطان، والعذراء أو القوس، إلى أن تكتمل مجموعة الأبراج الإثني عشر. فما هو برجك من بين هذه الأبراج؟ وهل هو برج ناري أم مائي أو ترابي؟ فبناءً على خصائص كل برج قد تتحدد طباعك أو سماتك الشخصية أو علاقتك بالآخرين، أو يتحدد حتى مصيرك.
إن هذه الصياغات النحتية التي يقدمها أحمد عسقلاني في هذا المعرض، تحمل جانباً ساخراً أو مرحاً في بعض الأحيان. وعلى الرغم من الطبيعة الساخرة أو المرحة لهذه التجربة، إلا أنها تلامس بلا شك، الجانب البدائي داخل كل منا، كما تنبش في دهاليز الذاكرة البشرية والميثولوجيا وتجليات الخرافة وتأثيرها في حياتنا المعاصرة.
لن نبتعد كثيراً عن أجواء السماء إذا ما طالعنا أعمال الفنان أحمد مجدي في غاليري آزاد، والذي يحمل عنوان "أحوال". في هذه الأعمال تسعى معظم الأشكال للإفلات من أسر الكتلة أو الجاذبية، بالتحليق أو محاولة التخفف من ثقل الخامة. في أعمال الفنان أحمد مجدي بشكل عام يكاد فعل التحليق أن يمثل عاملاً مشتركاً بين تجاربه المختلفة. ولأن فعل التحليق يستدعي تجاوز الجاذبية ومغالبة الريح، نجد أن معظم أعماله تتشكل ملامحها وفقاً لهذا الصراع الخفي بين كتلة الخامة المستقرة بطبيعتها، وهاتين القوتين المتخيلتين أو إحداهما. هنا أجساد تشدها الجاذبية من ناحية، كما تعصف بها الريح من ناحية أخرى، فتتشكل منحنياتها ويتحدد الفراغ المحيط بها.
يشتبك فعل التحليق في أعمال مجدي بالعديد من الأساطير والسرديات، فالتحليق رمز للخفة والروحانية والتسامي، كما يرتبط بالقدرة المعرفية والحرية والانتصار. من بين هذه الأساطير والسرديات، تبدو أسطورة إيكاروس من أكثر هذه السرديات التي تستدعيها أعمال مجدي، فبطل الأسطورة الساعي إلى التحرر من الأسر يسقط صريعاً في مياه البحر، ليظل حلم التحليق رغبة بشرية بعيدة المنال.
من أجل هذا ارتبطت الأجنحة بالحلم وكانت لصيقة بالكائنات المتخيلة. كانت الأجنحة حكراً على آلهة الحماية عند قدماء المصريين، واقتصر فعل التحليق في الميثولوجيا اليونانية على أنصاف الآلهة كي يتيسر لهم الحركة والانتقال بسهولة ما بين السماء والأرض، كوسطاء بين البشر ومجتمع الأرباب. وقد اقتنصت الملائكة والشياطين في العصور الوسطى هذه القدرة وارتبطت الأجنحة بعالم الروحانيات ومشاهد الجنة أو الجحيم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يختلف الأمر في أعمال أحمد مجدي، فالساعون إلى التحليق هنا هم بشر مثلنا، حالمون بالحرية وتواقون للانعتاق من الأسر كبطل الأسطورة اليونانية. يبقى أن التحليق في أعمال أحمد مجدي دائماً غير مكتمل، فالحركة هنا ما هي إلا تهيئة له في أغلب الأحيان، كأن الفنان يتعمد رصد لحظات انتقال شخوصه من حال إلى حال. أحوال عدة يعبر عنها الفنان أحمد مجدي في معرضه هذا، كحال المتصوف وحال العاشق والمتحدي، وغيرها من الأحوال التي تستدعي فعل التحليق.
في هذه الأعمال التي يقدمها الفنان أحمد مجدي ثمة رغبة في معاندة الجاذبية، وسعي للتحرر واستدعاء العديد من المعاني، كتجاوز الأطر والسفر والتحليق. هذه الخفة المتخيلة التي تتمتع بها الأجساد البشرية في أعمال الفنان تحكمها بلا شك، الرغبة في تجاوز ثقل الخامة، وهي رغبة تكاد تكون مشتركة عند معظم النحاتين، وتبدو الأجنحة هنا حجة بصرية مناسبة لهذه الرغبة.