ملخص
وجوه ورؤوس وقامات تجسد يوميات الخوف والعنف
"بلا عنوان" هو عنوان المعرض الذي تحتضنه غاليري تانيت البيروتية، للفنان السوري فادي يازجي. قرابة 26 عملاً مشغولاً في السنوات الأربع الأخيرة يقدّمها يازجي بأحجام متوسطة وصغيرة وكبيرة. هو التنويع الذي لا يضرّ بالمضمون ولا بالسردية التي تسير عليها الأعمال بكليّتها. المعرض أشبه بدعوة إلى الغوص في اليوميات السوريّة من خلال اللوحة.
الأعمال التي تتراوح فترة اشتغالها بين 2020 و 2023، تشكل تجربة بحد ذاتها. تجربة متماوجة بين المخطّط له واليومي والتجريبي الذي يسعى إلى تدوين ما يشبه السيرة اليومية للفنان وما يجاوره. تعتمد الأعمال على الشخوص والرؤوس، وتمهّد لتكون محاولة لمحو المسافة وتقريب اللوحة إلى المشاهد، حتى لو كانت مبنية على رؤوس مقطوعة ومشوّهة.
مدونة الواقع السوري
يمكن الحديث عن مدونات يومية في أعمال يازجي، مدونات قوامها هذه الأوراق والملصقات التي يوظفها الفنان في عملية تورية القصص وتحويرها، بحيث تتحوّل إلى سردية ثانية. شغل يتخذ من الواقع السوري ملاذه ومنصته للعبور، الوجوه المتواجدة، نص خالد خليفة والنص الذي بني على النص والوجه المرافق المقدّم على طبق يومي. عناصر وخربشات وألوان متداخلة، خربشات بطريقة منظمة، وربّما مدروسة، وتفاصيل سرديّة لونية أخرى ترتبط بالواقع السوري الذي نجده مخيّماً على اللوحات.
الشخصيات الموجودة في الأعمال تمتص من اليوميات السورية مسخيّتها وتشوهاتها لتنقلها. هي ترجمة لأحوال الناس وتبدلاتها المتنقلة. كيف صارت جاهلة ومسعورة؟ كيف تقزّمت الشخوص؟ شخوص تقزّمت وغدت جنينية أو كائنات رحمية، غير مكتملة النمو. يجد المتفرّج الرأس أكبر من الجسد. تصوّرات لأناس طيبين يسيطرعليهم الجهل وتغييب الفكر وأوجاع الغربة وتحطيم بنية الكائن البشري. اشتغال يعوّل على الرمز أكثر من تعويله على الشخص.
تتمظهر الحديّة جليّاً في لوحات بالأسود والأبيض المختزلة والجاذبة للمشاهد العادي بعيداً من القساوة. وكأنه لا يوجد شيء للمتعة، بين وجع الهجرة والألم واللامنطقية، أضحى الشخص المهاجر على متن قارب سجيناً في الألوان والتجريب.
أحلام وخيبات
لا تحيد أعمال يازجي عن دائرة طفولية بشخصياتها وتفاصيلها، طفولية تسيطر على عناصر اللوحات وتظلّلها. هذه الميزة تبقى مقرونة بخيط من النعومة يرافقها منذ اللحظة الأولى للاشتغال. حين ترى الرأس في الصحن الذي يقدّم كوجبة يومية لك، يراه الفنان بدوره كانعكاس للموت الذي صار طبقاً يومياً. الصّحن الذي نزل أصبح مصدر الفن الذي يشتغله فادي يازجي، أو بكلمة أخرى مادة الفن اليومية وقوامها قهر الناس ووجعهم وتأملاتهم، وأحلامهم التي لا تنتهي بالسفر والهجرة.
يجيب يازجي على سؤال "اندبندنت عربية" عن تفاصيل العنوان الملتبس وغياب العنونة من اللوحات قائلاً:" اختياري لهذا العنوان هو اختيار العاجز. مهما وضعتُ من عناوين فلن يكون ذا معنى. كلّ ذلك نتيجة هذا الخواء الحقيقي الذي نعيشه، خواء في المشاعر والشغل والناس. خواء الرأي أيضاً. نحن أمام عجز تام، من هنا وجدتُ أنّ الصّمت أجدى".
أقنعة الكائن البشري
تطالع المفترّج بدايةً، أعمال مشغولة خلال فترة كورونا على أكياس من ورق، تبدو للوهلة الأولى أنها محايدة وتنتحي جانباً من المعرض، كأنّها ألبوم صور لنهاية العام. لأشخاص وثنائيّات تسلّم ذاتها للآخر البعيد. هذه المخلوقات التي تسكن اللوحات نجدها تتكرّر بالألوان والأسود والأبيض مجسّدة مخلوقات تحاكي الماضي والحاضر، وتسأل بدورها عن أمل في المستقبل وعن أفراح باتت غائبة ومتخفية.
إلى جانبها ثلاثة رؤوس لوجه واحد. الوجه في تمظهراته، هو عبارة عن الأقنعة اليومية التي يستخدمها الكائن في حياته. هذه الأقنعة على تطابقها، هي تجسيد لضريبة الاستمرار في الحياة، والقناع اليومي الذي يسائله الكائن يومياً ويعتاد عليه، الروتين اليومي بوجوهه المختلفة. حالات مزاجية متعددة، نهارية وليلية. حالات صاخبة برونزية تتدرج نحو السواد وكأنّها تخفت تبعاً لمشاعر النهار والليل.
المكعبات الخشبية الأخرى في الحائط المقابل، بأوجهها المتنوعة، يرى المتفرج فيها وجوهاً ويوميات. هي اختصار للعمل في مراحله، العمل في مئات المرات والتغييرات. لدى المتفرج الخيار في أن يرى تنويعات شخصيات المكعّب ورؤاه. هذه الرحلة هي هروب من اللوحة والمنحوتة إلى عالم صوري أكثر تأنياً. بحيث يصيرُ المكعب سجلاً لحياة السوريين على الأرض التي نعيشها ونألفها ونعتاد عليها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما المنحوتة على شكل جسر متحرك، فتأخذ مكاناً قصياً في المعرض. الشخوص ذاتها تتناوب بين الداخل والخارج. البرونز يتحول إلى سجن على شكل مربع، يوشك بعد ذلك أن ينفتح ليكون سوراً. شخوص معلقة تماماً تنطلق من فكرة مفادها أنّ العمل يمكن أن يشذ عن قاعدته ونمطيته ليعمل خارجاً في الهواء الطلق.
تحفة المعرض هي لوحة ضخمة موزعة على طبقات، كل طبقة منها هي جيل. نرى أشخاصاً احتلوا النوافذ وسكنوها بحثاً عن وجودهم. هي عبارة عن نسخ لقصص حياة عائدة لشخصيات تُستعاد ضمن إطار عام هو لوحة يازجي ولطخته.
الوجوه الهائمة بلا تعابير باحثة عن لقمة العيش، والنظرات المتوزّعة يمنة ويسرى، الملائكة الموجودة في الخارج والعالم الذي في حالة عراك وقتال يومي... هذه كلّها عنصر لوحة يازجي. عناصر تدعونا إلى رحلة بحث وسؤال دائم، عبر مواد مختلفة، من البرونز إلى الفخار والسيراميك وصولاً إلى مراحل مختلفة من التجريب والمغامرة.