ملخص
باحث بريطاني يرصد قواسم مشتركة جمعت بينهما على درب التطور الحضري
يتناول كتاب "مدن تثير العاطفة: أفكار حول التغير الحضري في برلين والقاهرة 1860 – 1910" (المركز القومي للترجمة)، تأليف جوزيف بن بريستيل، ترجمة ريهام أبو دنيا، قواسم مشتركة بين العاصمة الألمانية والعاصمة المصرية في حقبة زمنية محدَّدة في العنوان، توارتْ في التصورات الحالية عن المدينتين. الكتاب الذي صدرت طبعته الإنجليزية عام 2017 عن دار جامعة أوكسفورد للنشر، يبرز مؤلفه في هذا السياق - على سبيل المثال - أن العاصمة الواقعة على ضفاف النيل، والتي تأسست قبل برلين ببضعة قرون، تتوسع وتتمدد يوماً بعد يوم بسكانها الذين يتراوحون بين 15 و25 مليون نسمة، وفاقت مساحتها مساحة برلين التي لا يتجاوز عدد سكانها ثلاثة ملايين ونصف مليون نسمة (التعداد هنا وهناك يخص سنة صدور الكتاب في طبعته الأصلية).
ينطلق المؤلف من أن القاهرة، عقب تولي محمد علي حكم مصر في 1805، شهدت عملية "تغريب"؛ لنقل الإنجازات الحضرية في أوروبا، "ما أخرجها من مسار التاريخ الإسلامي"، الذي ميَّز حقباً سابقة أعقبت الفتح العربي لمصر، وخصوصاً في أعقاب تأسيس الفاطميين لهذه المدينة التي تختلف بالطبع عما هي عليه الآن، وعما كانت عليه الحقبة التي يدرسها الكتاب. في تلك الحقبة؛ فيما كان كتَّاب برلين يؤكدون على خطورة فقد الحس الأخلاقي المشترك، رسم الصحافيون والموظفون في القاهرة صورة أكثر تفاؤلاً، بحسب ما لاحظه المؤلف في ختام دراسته التي تطلبت الرجوع إلى مصادر في مكتبات محفوظة في مكتبات عدة في مصر وألمانيا والولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا والنمسا. وكما يؤكد المؤلف فإن الكتَّاب من أبناء العاصمة المصرية ألقوا الضوء على النتائج الإيجابية لعملية التحديث، المستندة إلى أفكار غربية.
لكن تصوير الكُتاب المعاصرين للتغير الحضري في المدينتين أخذ منحى "أكثر كآبة" في الفترة بين سبعينيات القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. وهكذا أخذ الجدل حول التحول الذي خاضته المدينتان مساراً متوازياً. ويقول المؤلف: "من المؤكد أن قضية التزامن لا تخلو من مشكلات"، مشيراً في هذا الصدد إلى أن بعض الكُتَّاب أشاروا إلى تزامنٍ بين كل من برلين والقاهرة في كتب السفر والرحلات التي صدرت عام 1900 تقريباً، فقد تضمَّن بعضها مقارنة بين ضاحية حلوان ومدينة بوتسدام في ألمانيا. وشهد كُتَّاب آخرون، بينهم كارل زيه؛ أحد التبشيريين الألمان، أنشطة متشابهة في وسط المدينتين. ومع هذا فقد كانت الأعمال التي صوَّرت برلين والقاهرة كمدينتين تجمعهما العديد من القواسم المشتركة، استثناءً، إذ أكد الأوروبيون في كتاباتهم على الاختلاف الزمني بين المدينتين. وهذا التصور الذي يضع القاهرة في منزلة أدنى من حيث التحضر، ارتبط كما يقول المؤلف بمشاريع استعمارية. فالحديث عن التخلف الزمني للشعوب غير الأوروبية ومدنها؛ جاء ليبرر الاستعمار، كـ "مشروع ينشر التقدم في ربوع العالم".
موضوع العاطفة
خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر اعتمد الكُتَّاب في برلين والقاهرة؛ بشكل متزايد، على الاكتشافات العلمية في مجال العلوم الطبيعية، وبخاصة في مجال الطب وعلم النفس والأمراض العصبية، في معالجتهم لموضوع العاطفة، بحسب ما خلصت إليه الدراسة التي يضمها الكتاب الذي جاء في نحو 400 صفحة من القطع فوق المتوسط. أدخل المعاصرون في كل من برلين والقاهرة تعديلات على نموذج التخطيط العمراني وأنشطة الحياة الليلية والمعرفة العلمية، ومزجوا بينها وبين نماذج وأنشطة أخرى حظيت بأهمية بالغة في تلك الفترة. فلم يكن مفهوم العقل الذي ظهر في القاهرة في مطلع القرن العشرين، مثلاً، يرجع إلى أصل واحد، حيث قدمت كتب الطب وعلم الفسيولوجيا الصادرة بالإنجليزية والفرنسية والألمانية والعربية، تفسيرات جزئية لهذا المفهوم. وفي الوقت نفسه خرج هذا المفهوم – كذلك – من التطورات الجدلية التي أدخلها الكُتَّاب على هذه العناصر المختلفة. وعلى الرغم من أن الجدل المعرفي لا يدخل ضمن إطار التأصيل، فإنه – بحسب المؤلف، وهو مؤرخ متخصص في أوروبا والشرق الأوسط في جامعة برلين، يقدم تفسيراً لمضمون بعض المناقشات. من الوارد أن يكمن تفسير المكانة المشابهة التي حظيت بها العاطفة في المناقشات حول التغير الحضري في الخبرة المشتركة لسكان المدينة. فقد أشار ديفيد هارفي وآخرون إلى ظهور خبرة حضرية مجدِدة، بالتزامن مع صعود "الحداثة" والرأسمالية خلال القرن التاسع عشر. ومن هذا المنطلق تعكس المناقشات المتشابهة عن العاطفة في كل من برلين والقاهرة، أوجه الشبه بين الطرق المختلفة التي خاض بها السكان تجربة الفضاء الحضري.
تبادل مزدهر
اتكأ بريستيل على كتاب للباحث المصري محمد ناصر الأستاذ في جامعة برلين في مطلع القرن العشرين عن علم النفس في القاهرة، واعتبره "شهادة على ازدهار التبادل بين المدينتين، فيما يتعلق بالأوضاع الحضرية في كل منهما خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فلقد ساعدت البواخر وخطوط السكك الحديدية والتلغراف على التواصل الدائم بين العديد من المدن في جميع أنحاء العالم بسهولة وسرعة. فقبل ثلاثينيات القرن التاسع عشر كانت الرحلة من برلين إلى القاهرة تستغرق أكثر من شهر. وبحلول عام 1870 أصبحت تستغرق بين ثمانية أيام وأحد عشر يوماً بالقطار والباخرة. في عام 1906 ظهر ملصق دعائي يحمل عبارة "برلين – الإسكندرية في 100 ساعة"، واحتل رسم لمجلس مدينة برلين الزاوية العليا للملصق، أما الزاوية السفلى فقد احتلها رسمٌ لأهرامات الجيزة، وربطت بين الزاويتين صاعقة باللون الأصفر؛ بما يوحي بالقرب المكاني الجديد بين برلين والقاهرة. ويعكس هذا الملصق – بحسب المؤلف - تصور مَن عاصروا هذه الفترة حيث رأوا أثر التكنولوجيا الحديثة للمواصلات والاتصالات التي قصَّرت المسافات وحوَّلت الكرة الأرضية إلى عالم صغير.
يعقد كتاب جوزيف بن بريستيل مقارنة بين برلين والقاهرة لتتبع الخيوط التي تكشف المقاربات القومية والإقليمية لدراسة تاريخ المدينتين. ويهدف المؤلف من خلاله إلى الإسهام في تقديم تاريخ حضري عالمي على خلفية نظرية ما بعد الاستعمار. وجدير بالذكر أن بعض الباحثين في هذا المجال قد قاموا بانتقاد معظم نظريات التغير الحضري لتمركزها حول أوروبا. فعلى الرغم من أن المؤرخين لا يعقدون مقارنة بين المدينتين بشكل واضح، فإن كثيراً منهم يتبنون المفاهيم التحليلية نفسها في كتاباتهم عن المسار التاريخي لكل منهما، ومن خلال تبنيهم لنماذج مثل التحديث والتغريب فإن دراساتهم توحي بأن تاريخ كل من برلين والقاهرة على نحو مختلف ووُضع كل منهما في قالب هرمي من "الحداثة الحضرية" تحتل فيه القاهرة مرتبة أدنى حيث يرتد ماضي القاهرة إلى "غرفة انتظار التاريخ" بينما تأتي العاصمة الألمانية في مرتبة أعلى.
التغير الحضري
توحي مؤشرات عدة بأن الحِراك الذي يشهده التغير الحضري، تجلى في القاهرة وبرلين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهي تتعلق بالتغيرات الديموغرافية والاقتصادية والاجتماعية. في الفترة ذاتها تضاعفت أعداد السكان في المدينتين اللتين خاضتا عملية إعادة هيكلة اقتصادية أدت إلى انتشار وسائل إنتاجية جديدة مثل مصانع السجائر في حي شبرا في القاهرة، ومصانع بناء القاطرات في ضاحية أورانينبرغر في برلين. ومن ثم ظهرت مهن جديدة في العاصمتين من بينها العمل في مجال التأمين والمحاماة، وتحصيل تذاكر الترام، والصحافة. كما أدى توسع الأجهزة المركزية إلى نمو جماعات مهنية محدّدة عيَّنتها الدولة مثل الموظفين والأطباء. وعلى خلفية هذه التجربة صور المعاصرون القاهرة وبرلين مدينتين متطورتين تشهدان انقساماً تاريخياً وعلاقات اجتماعية متغيرة، ونتيجة لهذا التصوير الاجتماعي ظهرت في المدينتين مفاهيم مختلفة منها مفهوم "المجتمع".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويسعى هذا الكتاب من خلال التركيز على القاهرة وبرلين إلى توجيه الدراسات التي أجريت في هذا المجال إلى اتجاه آخر. وحتى تتضح الآثار النظرية للمقارنة بين العاصمتين في هذا السياق؛ ينبغي أخذ الدراسة التاريخية للتغير الحضري في القرن التاسع عشر في الاعتبار، كما يرى بريستيل. وبحسب المؤلف فإن تركيز هذا الكتاب على "العاطفة"، لا يعني أن فصوله تنظر إليها بوصفها سمة إنسانية ذات بعد مادي. هناك باحثون رأوا أن التركيز على البعد "النفسي" للعاطفة وحده يعكس المعايير الغربية المعاصرة، ولكنه لا يعكس حقيقة عامة، وتقترح كاثرين لوتز وليلى أبو لغد أن الدراسات التي تناولت الأوضاع غير الغربية عليها أن تتخذ زاوية تحليلية محدودة وأن تأخذ الخطاب "الثقافي" عن العاطفة في الاعتبار. ويطرح جوزيف بن بريستيل تصوراً للعاطفة على أنها "ممارسة اجتماعية"، ويرى أنه؛ على النقيض من أنواع الممارسات الأخرى، فإن العاطفة تمد جسوراً بين الجوانب الاجتماعية والجسدية والعقلية. لا يتساءل كتاب بريستيل عن معنى العاطفة، وإنما عن الأنشطة التي تقيم الصلة بين السياق الاجتماعي والجسد والعقل، وتعد "ممارسة الدعارة" – بحسب المؤلف الحاصل على زمالة الجامعة الأميركية في القاهرة، مثالاً لهذه الأنشطة.
تحليل المشاعر
ويقدم المؤلف تحليلاً للمشاعر المقترنة بالتغيير الحضري في برلين والقاهرة في تلك الفترة. فمع زحف الثقافة الفرنسية على برلين والاستعمار البريطاني لمصر ضاعت "رابطة الأخلاق" في ألمانيا والقاهرة. ومع هذا التغير الذي شهدته المدينتان ظهرت حاجة ملحة إلى تغيير إيجابي يريح الأعصاب التي أعياها ضجيج المدينة ويثير مشاعر إيجابية فقدها سكان الحضر. فظهرت فكرة الضواحي الجديدة ومدن الحدائق و"الثقافة البدنية" في المدينتين. ومع المسافات الجغرافية والثقافة التي تبعد بين القاهرة وبرلين، يكشف المؤلف، كما لاحظ عاطف معتمد الباحث في قضايا الجغرافي السياسية والثقافية، والذي تولى مراجعة الترجمة وقدم لها، عن أن النصف الثاني من القرن التاسع عشر، شهد جدلاً واسعاً في المدينتين عن التغير الحضري وأثره على السكان. وهو جدل يثير تساؤلات عن مدى صحة التباين بين تاريخ مدن أوروبا والشرق الأوسط في خلال هذه الفترة. يروي هذا الكتاب قصة مدينتين تفصلهما آلاف الأميال وتجمع بينهما مشاعر يثيرها التغير الحضري والانفتاح على ثقافات جديدة؛ فتتأرجح مشاعر السكان بين "الهدوء" و"التوتر العصبي"، "الشرف"، و"العار"، "الاحتياج إلى الحب" والتمسك بـ "الأخلاق".