ملخص
ثمة تغيير واضح وإيجابي في نظرة المجتمع لذوي متلازمة داون. قصص تظهر كيف حول هؤلاء اختلافهم إلى مصدر قوة.
كثيراً ما كان ذوو متلازمة داون مهمشاً في مجتمعنا. فما بين نظرة الشفقة التي ترافقه وأهله طوال حياتهم، وعدم قبول المجتمع هذا الاختلاف الذي لديه، يعيش هؤلاء حياة لا طعم لها ولا لون. تلك كانت النظرة السائدة إلى هذه الفئة لو عدنا سنوات إلى الوراء. أما اليوم فمن الواضح أن المجتمع يتجه في المسار الصحيح مع ارتفاع معدلات الوعي وتقبل الاختلاف والدمج، ليصبح ذوو متلازمة داون عضواً فاعلاً له دور تماماً كغيره من الأفراد.
(End Of Stereotype) هو شعار هذا العام لليوم العالمي لمتلازمة داون في مساع جدية إلى التخلص من تلك الأحكام المسبقة التي تطلق على من لديه المتلازمة وأهله، والحرص على احتضانه وقبوله كأي فرد آخر. فقد تبين بالفعل أنه لذوي متلازمة داون قدرات وكفاءات تجعلهم قادرين على المشاركة بفاعلية في المجتمع والقيام بمهام يبرعون فيها بصورة لافتة، وهذا ما أثبتته التجارب. بالنسبة إلى كثير منهم، سرعان ما تحول اختلافهم إلى نقطة قوة تميزهم. يكفي أنهم قادرون على تخطي التحديات بعزم وإصرار لإثبات مهاراتهم التي كان هناك تشكيك بها قبل عقود.
تميز وموهبة
منذ ولادة حسن، تعاملت معه والدته فاطمة كأي طفل آخر مستبعدة الاختلاف الذي لديه من ذهنها. رفضت دائماً فكرة أنه قد لا يعرف أو لا ينجح في ما يفعل وأصرت في كل مرة تكرار المحاولات حتى ينجح، لعلمها بأنه بالتكرار سيصل حتماً إلى نتيجة. أدركت أن المجتمع سيتعامل مع طفلها وفق الأسلوب الذي تتعامل به معه. وبالفعل، رافقته بصبر وإصرار حتى يصل إلى مرحلة يتمتع فيها بالاستقلالية ويعتمد على نفسه من دون حاجة إلى مساعدة. في حديثها، لا تنكر أن هذه المسألة تتطلب كثيراً من الصبر، ما قد لا تملكه كل الأمهات، إذ تكثر التحديات مع ذوي متلازمة داون، لكن في النهاية يمكن التوصل إلى نتيجة بعد توجيهه في مراحل أولى.
وتقول فاطمة "حسن طفل اجتماعي بامتياز. هو يحب الناس ويعشق التواصل مع الآخرين. من ولادته يرافقنا في كل مكان، وقد يكون ذلك مما أسهم في تطوير شخصيته الاجتماعية هذه. هذا ما قد لا يفعله كثر، لأن الأهل قد يشعرون بخجل غير مبرر أحياناً ويميلون إلى إخفاء أطفالهم ذوي متلازمة داون".
حرصت فاطمة أيضاً على التعليم المبكر لحسن لأنها أدركت أنه سيأتي بثماره. قرأت وتابعت حتى حققت ما حققته مع حسن بمساعدة خبراء. حتى إنها خضعت لدورات منهج "مونتيسوري" الذي انطلق أولاً مع أطفال من ذوي الاحتياجات بخاصة قبل أن يعمم على كل الأطفال لفاعليته. أما اليوم، فتلاحظ وعياً متزايداً وقبولاً في المجتمع مع كشف مزيد من الحالات والتشخيص الأفضل. كما يتعاطى الأهل بصورة مختلفة مع أطفالهم، وهو عنصر أساس في مراحل الدمج لأن الحالة لم تعد من المحرمات، وحل القبول محل حال الإنكار التي كانت سائدة.
قبيل عامين شارك حسن في تجربة تمثيل ناجحة في مسلسل "شتي يا بيروت" إلى جانب الممثل السوري عابد فهد. تصف والدته التجربة بكونها إيجابية وفي غاية الأهمية لابنها الذي يعشق التمثيل والتقليد، وقد أسهمت في كشف موهبة حقيقية لديه، وهو يتمنى أن تتكرر التجربة عندما يشاهد المسلسل.
كأي أم، تفكر فاطمة بالمستقبل لكنه ليس هاجساً لها بل تتمنى لحسن أن يجد المكان الذي يكون مرتاحاً فيه وتبرز فيه قدراته سواء كان في التمثيل أو الطهو الذي يحبه أيضاً وهو من المجالات التي يمكن أن يبدع فيها. علماً أنه اليوم في مدرسة دامجة يشارك في صفوف معينة إلى جانب أطفال ليس لديهم "متلازمة داون"، ويحضر صفوفاً مع ذوي الاحتياجات الخاصة. وتؤكد والدته أن له أصدقاء كثراً. فالكل ينجذب إلى شخصيته المحببة ولطفه والضحكة التي لا تفارق ثغره، وتصفه بكونه طفلاً يتمتع بذكاء اجتماعي لافت ويعرف كيفية جذب الآخرين إليه.
تجربة قاسية عنوانها النجاح
أما تجربة عضوة الجمعية اللبنانية لمتلازمة داون إيرين عبدالنور فتبدو مختلفة وتؤكد النقلة النوعية التي حصلت مع من لديهم المتلازمة في العقود الأخيرة. فقد أنجبت طفلاً لديه متلازمة داون قبل 47 عاماً، وكانت مرحلة في غاية الصعوبة لأن نظرة المجتمع كانت مختلفة ويغلب عليها الرفض أو الشفقة. كما لم تتوافر آنذاك المدارس الدامجة لتنمية قدرات الطفل، وكان الوضع صعباً على المستوى الطبي. لذلك، تحسد عبدالنور الأمهات اللواتي أنجبن أطفالاً من ذوي "متلازمة داون" حالياً لأن الوضع أفضل بكثير.
لا تنكر أن الطريق لم تكن معبدة بالورود. فكلمة معوق المرفوضة اليوم، كانت معتمدة بكثرة، كما كانت نظرة الشفقة غالبة، ولم تكن تنمية قدرات الطفل سهلة قبل عقود. وعلى رغم كل التحديات، حرصت على تنمية قدرات "غسان" وتوجيهه نحو أنشطة مختلفة تبرز إمكاناته سواء في لبنان أو في الخارج، حتى أصبح بطلاً في السباحة وفي الركض ويمارس أنشطة كالرسم والرقص والتمثيل، وإن كان يواجه صعوبات على مستوى التعلم. كما يعمل حالياً في أحد المقاهي في بيروت، ويتمتع بالاستقلالية كما تمنت كأم.
في اختلافها كل الجمال
من جهتها، لا تخفي مارتين زغيب أن اكتشاف معاناة طفلتها صوفي من متلازمة داون شكل صدمة لها أولاً، لكن سرعان ما استطاعت الطفلة الجميلة أن تعلم من حولها الحب، وتتحول إلى مصدر طاقة وفرح وإيجابية في منزلها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
منذ الأشهر الأولى، حرصت الأم على تحضير صوفي نفسياً وجسدياً لحياة مستقلة لا تعتمد فيها على أحد، بدءاً من زجاجة الحليب التي كانت تتركها لها حتى تمسكها بنفسها. وفيما تخضع صوفي إلى علاجات مكثفة متنوعة من علاج النطق والمشي والعلاج الفيزيائي وغيرها، إلا أن ذلك جزء من المسار الطبيعي لها حتى تكون أكثر استعداداً لمواجهة الحياة بتحدياتها والانخراط بمزيد من الفاعلية في المجتمع. وتؤكد زغيب "نحن حريصون على تحفيز صوفي في المنزل باستمرار. وعلى رغم تأخر المشي لديها بسبب إصابتها بـ(الروماتيزم)، فلا نعتبر هذا عائقاً أمام بلوغها مرحلة الاستقلالية. فثمة من يجلسون على كرسي مدولب ويتمتعون بالاستقلالية، والعكس صحيح. همنا الأساس أن نعمل على شخصية صوفي وحالتها النفسية لتكون أكثر استقلالية في يوم من الأيام. نضع أهدافاً ونحرص على إنجازها حتى في المهام اليومية التي يمكن أن تحدث فارقاً. ندعها تأكل وحدها بغض النظر عن الأسلوب الذي تأكل به لتتعلم الاهتمام بنفسها. حتى إنها تسرح شعرها وتختار الملابس التي سترتديها يومياً".
كل هذه الخطوات رسمت شخصية صوفي وتعتبر أساسية لأي طفل حتى يتمتع بالاستقلالية. قد تزيد التحديات بالنسبة إلى طفل من ذوي متلازمة داون، في مراحل أولى لكنها تجربة لا بد من أن يعيشها الأهل والطفل وصولاً إلى مرحلة الاستقلالية.
أنشأت مارتين زغيب حساباً على "إنستغرام" لنشر الوعي حول متلازمة داون والسعي إلى إلغاء نظرة الشفقة لدى البعض، وإن كانت قد خفت في أيامنا هذه وحصل تطور مهم في هذا المجال. هي تصف ابنتها بمصدر الفخر والفرح لها ولكل من يعرفها. وانطلاقاً من تجربتها الخاصة، تؤكد أن المعاناة من "متلازمة داون" ليست ضعفاً ومن يعانيها لا يكسر أهله بل هو مصدر قوة لهم، خصوصاً أنه يواجه مزيداً من التحديات حتى ينجح في أي مهمة يقوم بها في حياته.
ولا تنكر أن المجتمع اللبناني لا يزال بحاجة إلى كثير حتى يحصل الدمج الفعلي لذوي متلازمة داون. ومن الخطوات التي ثمة حاجة إلى التغيير فيها تغطية شركات التأمين الأطفال ذوي المتلازمة. فهم مستثنون منها وهي "كارثة حقيقية وجريمة في حقهم"، كما تصفها.
في الوقت نفسه، هناك تطور لافت في هذا المجال وقبول من لديهم متلازمة داون بالمجتمع. وقد يكون السبب في المساعي إلى تنمية قدراته واكتشاف إمكاناته الحقيقية والقوة اللافتة التي يتمتع بها. هذا، إضافة إلى التخلي عن الأحكام المسبقة التي تضع كل طفل مختلف في خانة معينة. لكن، تبقى المشكلة في الأهل وفي أسلوب تعاطيهم مع أطفالهم بشفقة، مما ينعكس على نظرة المجتمع إليهم. أما في العائلة فيعتبر الكل وجود صوفي نعمة في الحياة، مما انعكس بصورة واضحة على نظرة الناس إليها فباتوا يحبونها بدورهم، بما أن الناس يرون الطفل بعيون أهله.
تطور على رغم التحديات
هناك درجات في متلازمة داون تراوح ما بين خفيفة ومتوسطة وحادة وفق ما تؤكده مديرة مؤسسة "سيسوبيل" التي تعنى بذوي الاحتياجات الخاصة، فاديا صافي. وتؤكد "إذا خضع ذو متلازمة داون للمتابعة مع تنمية طاقاته وتوجيهه نحو المدرسة والتعليم، ينمو بصورة طبيعية ويندمج في المجتمع. لكن تزيد الصعوبات مع الحالات المتوسطة والحادة لاعتبارها تترافق مع مشكلات أخرى مما يتطلب عناية مختلفة لمعالجة الاضطرابات الأخرى".
لا تنكر صافي أنه ثمة وعي متزايد، وتشير إلى خطة التنمية التي وضعتها وزارة التربية والتعليم في مجال الدمج في المدارس مع دراسة للمدارس الرسمية، مما يعتبر تطوراً لافتاً. علماً أنه في لبنان حصل الدمج للمرة الأولى في مدرسة رسمية في عام 2006، لكن الأمور تتخذ مساراً متسارعاً في السنوات الأخيرة باتجاه الأهداف التي من المفترض تحقيقها في مجال الدمج والتي هناك دفاع عالمي عنها.
وتضيف "ما يلاحظ حالياً أن الأطفال ذوي متلازمة داون قد دخلوا بمعدلات أكبر في سوق العمل. لكن لا تزال التحديات كبرى بالنسبة إلى الحالات المتوسطة أو الحادة لأنهم بحاجة إلى مزيد من المتابعة". وتطرح الأسئلة هنا حول ما إذا كان الأفضل لهم المتابعة في مركز متخصص أو نقل الخدمات إلى مدارس دامجة. وهنا، يبرز تحد جديد هو تأمين الموارد الكثيرة التي يحتاج إليها الطفل. يحق لأي طفل أن يوجد في مدرسة عادية مع غيره من الأطفال لتنمو قدراته بصورة طبيعية ولتعزيز إمكاناته. ومن الضروري العمل على تعزيز هذه الفكرة وتوجيه الجهود في هذا الاتجاه. ومن المهم أن يزيد الوعي أكثر فأكثر لدى الأهل ليتقبلوا أطفالهم ويدركوا أن كل الأطفال متساوون على رغم اختلافهم. أما في المدارس الخاصة، فثمة مبادرات كثيرة لكنها تتفاوت في إمكاناتها ومستوياتها في مواكبة لحاجات الأطفال. فهناك حاجة إلى برامج تأهيل وتقويم جدي لتكون المتابعة على أساسه لتجنب أي مشكلات إضافية يمكن أن يتعرض لها الطفل على كل المستويات. هناك تفاصيل عديدة يجب أن تدرس حينها من أكل الطفل والنطق والتعلم والتنفس وكيفية استخدام القلم والطبق، حتى يكتسب الاستقلالية".
وعلى رغم التقدم الحاصل فقد زادت التحديات منذ انتشار جائحة كورونا والأزمة في لبنان، لأن متابعة هؤلاء الأطفال صعبة عن بعد، وهي من المشكلات التي تواجهها مؤسسة "سيسوبيل". في حرصها على تنمية قدرات الأطفال اليوم، تكثر من ورش العمل في الخرز والفندقية والرسم، والطهو لإعداد الأطفال حتى يندمجوا في المجتمع، وتتعزز إمكاناتهم، وتتوافر لهم فرص عمل. فهناك تشديد متزايد على هذا الاتجاه لأن المهارات تتحول إلى سلاح بيد الطفل ليدخل إلى سوق العمل لاحقاً.
سوق العمل
قد يكون مشروع المقهى الذي أطلقه وسيم الحج خير دليل على الدور المهم الذي يلعبه ذوو الاحتياجات الخاصة في المجتمع. إذ قرر منذ سنوات افتتاح مقهى يوظف من هم من ذوي الاحتياجات الخاصة ليكون المشروع الأول من نوعه. ويشير في حديثه مع "اندبندنت عربية" إلى أنه متخصص في العلاج الفيزيائي وتعامل طوال سنوات مع ذوي الاحتياجات الخاصة، وتبين له أنهم يتمتعون بقدرات فائقة يستخف بها كثر. لذلك شعر بوجوب دمجهم في المجتمع حتى تبرز قدراتهم ويتمتعوا بالاستقلالية. وعندما التقى صبية لديها متلازمة داون تبيع أغراضاً تحضرها بنفسها في محل صغير لها، أكدت أنها مع هذه الفكرة وافتتح المقهى بفرعه الأول في عام 2018. ويؤكد الحج "أصبح المجتمع أكثر قبولاً وهناك مزيد من الدعم والتعاطف والدمج، بعد أن كان هؤلاء الأطفال مخفيين في المنازل".
يوظف المقهى شباباً من ذوي الاحتياجات الخاصة على أنواعها، لكن يشكل ذوو متلازمة داون النسبة الكبرى منهم وتصل إلى 60 في المئة، خصوصاً أنهم أكثر جهوزية لمثل هذا العمل. ويحصل التوظيف على أثر تقويم وبعد التأكد من إمكان التواصل، لا من خلال الكلام حكماً بل على أساس قدرة معينة من الاستيعاب لتأدية العمل. ويؤكد الحج أنه ليس ضرورياً أن يقرأ ويكتب حتى، لأنه أعد لائحة طعام خاصة لهذه الغاية. أما من يقصد المقهى فحكماً من الناس الذين يتقبلون هؤلاء الشباب بصورة مثلى ويتعاملون معهم بلطف وقبول.
أصبح للمقهى فرعان، ويجري العمل على التوسع في تحضير حلويات تباع فيه وفي أماكن أخرى. إضافة إلى إعداد ورش عمل للتدريب والتوظيف في أماكن أخرى.
من خلال ما يقوم به، يهدف الحج إلى رؤية مزيد من هؤلاء الشباب في مؤسسات أخرى. ويشجع على الاستفادة من قدراتهم، خصوصاً أنهم أكفاء وفي تطور دائم، ولن يتركوا عملهم في المدى البعيد. لذلك، تبرز أهمية الاستفادة منهم ومن نقاط القوة التي لديهم عبر توظيف أكبر عدد ممكن منهم ما داموا مستعدين منذ الطفولة للانخراط في المجتمع باستقلالية ومسؤولية.