ملخص
تحولت خيرسون إلى ميدان تدريب يومي للمسيرات الروسية، حيث يعيش المدنيون تحت تهديد دائم، مما دفع الأوكرانيين إلى بناء مستشفيات تحت الأرض لحماية الأرواح، فيما يبقى وقف إطلاق النار مجرد أمل بعيد المنال.
شعر أولكسندر سينسكي بطنين إلكتروني حاد يخترق سماء المدينة فوق رأسه، ليكون بمثابة إنذار بأن القناصين الروس بدأوا "رحلة صيدهم" اليومية، وأنه أصبح فريسة بشرية لهم. قفز أولكسندر من على دراجته الهوائية تاركاً عجلاتها تدور بمفردها، واندفع مسرعاً نحو ثغرة في السياج المجاور، محاولاً الاحتماء.
واجتاحته موجة من الذعر عندما أدرك أنه لا يزال مكشوفاً في العراء، فارتمى على السياج محاولاً التماهي مع محيطه والاختفاء عن أعين المراقبة الإلكترونية التي تطارده. ولكن الطائرة المسيرة غيرت مسارها بشكل جانبي، وحلقت فوقه مباشرة قبل أن تلقي قنبلتها.
دوي انفجار كبير تسبب في بتر جزء من ساق أولكسندر.
وروى أولكسندر سينسكي من داخل مستشفى خيرسون على سرير العلاج "كانت تحلق فوقي مباشرة. شعرت وكأن مشغلها يلهو بلعبة فيديو، يلقي القنابل على المدنيين المسالمين".
بينما كان يبحث في حقيبته الطبية التي يحملها كمتطوع في الصليب الأحمر، كان يدرك تماماً أنه ما زال هدفاً للمسيرة التي تتربص به من وراء ضفة نهر دنيبرو، على مسافة لا تتجاوز الميل الواحد.
وهو يتخبط في التراب محاولاً تثبيت ضمادة على ساقه، راودته فكرة قاتمة أن مشغلي تلك الطائرات ربما كانوا يتبادلون عبارات التهنئة أو يسخرون منه وهو يصارع الألم.
منذ تحريرها من القبضة الروسية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022، تحولت خيرسون إلى هدف يومي لسيل لا ينقطع من قذائف الهاون والصواريخ والقنابل، حتى باتت المدينة أشبه بساحة تدريب حية لمشغلي الطائرات المسيرة الروس، الذين يتباهون بنشر مقاطع فيديو لـ"رحلات صيدهم البشرية" على منصة "تيليغرام".
لقد نقل استخدام هذه التقنية المميتة عملية استهداف المدنيين في هذه المدينة الأوكرانية الجنوبية من مجرد قصف عشوائي إلى حملة قتل شخصية ومظلمة. إذا كانت هناك مدينة في أمس الحاجة إلى وقف إطلاق النار، فهي خيرسون بلا منازع. غير أن الواقع المرير يتجلى في عيون سكانها الذين لا يعتقد أي منهم أن هذا الاحتمال ممكن على الإطلاق.
تسيطر القوات الروسية على الضفة الشرقية لنهر دنيبرو، الذي لا يتجاوز عرضه 500 متر في قلب المدينة، ومن تلك المسافة القريبة، يستطيع القناصة والمدفعية رصد الأهداف بالعين المجردة. أما مشغلو الطائرات المسيرة، فبإمكانهم مشاهدة عبر البث المباشر نظرات الرعب في عيون ضحاياهم الذين يفرون ويتساقطون بينما القناصة يتابعون لحظاتهم الأخيرة قبل أن ينهوا حياتهم. ويقوم القناصة إما بإسقاط القنابل من علو، أو الانقضاض المباشر بطائرات مسيرة تعطي بثاً مباشراً من منظور الشخص الأول الذي يتحكم بها وتتمتع بقدرة على التخفي بعيداً من الأنظار، لتنقض فجأة وتقتل.
على مدى ثلاثة أعوام، تحولت خيرسون إلى مدينة رعب. اليوم، يختبئ سكانها خلف الأبواب الموصدة والستائر المسدلة، بينما تطارد الطائرات المسيرة القاتلة كل ما يتحرك سواء كان حافلات، وعربات، وسيارات، وحتى المتسوقين. الخروج إلى الشارع في خيرسون يعني المخاطرة بالوقوع تحت أنظار صيادي البشر.
فوق الأرض، تنتهي الأرواح بلا رحمة. أما تحت الأرض، فيمكن للحياة أن تستمر بقدر من الأمان.
اتخذت أوكرانيا خطوة غير مسبوقة بافتتاح أول مستشفى للأمومة مضاد للقنابل، متخلية عن المنشآت السطحية لمصلحة الطوابق السفلية المحصنة. كما دشنت المدينة مستشفى جراحياً تحت الأرض، مع خطط طموحة لإنشاء سبعة مستشفيات أخرى بالطريقة نفسها. ببساطة، تقوم خيرسون بقلب منظومتها الصحية رأساً على عقب، محولة هذه المنشآت إلى ملاذات للشفاء هرباً من "ألعاب القتل" الروسية.
ويشرف الدكتور بيترو مارينكوفسكي على قسم التوليد الجديد في مستشفى خيرسون للأمومة. انتقل عمله الطبي الآن إلى عمق طابقين تحت الأرض، محولاً ما كان مجرد مرافق تحت الأرض إلى معقل للحياة. تفضي الممرات النظيفة المضاءة جيداً إلى غرف ولادة عصرية مضيئة، وغرفة عمليات، ووحدة عناية مركزة. جميع المرافق التي هجرت فوق سطح الأرض باتت الآن محمية بأبواب مقاومة للانفجار تشبه في تصميمها تلك المستخدمة في الغواصات.
في اليوم السابق لزيارة "اندبندنت"، تعرضت خيرسون لهجوم عنيف بتسع قنابل ألقتها طائرات روسية، أسفرت عن مقتل شخصين. كذلك أصيب خمسة آخرون في هجمات منفصلة بطائرات مسيرة. وفي ظل استمرار القتل اليومي، تزداد أهمية كل ولادة جديدة، لتصبح فعلاً من أفعال المقاومة والتحدي.
يقول الدكتور مارينكوفسكي "في ظل الوضع الديموغرافي الحرج الذي تعيشه بلادنا، نحن نقاتل من أجل كل مولود جديد - من أجل كل امرأة يجب أن تلد هنا في خيرسون". فبعدما كان المستشفى يستقبل ما بين 1500 و2000 ولادة سنوياً، انخفض العدد إلى نحو 120 ولادة سنوياً فقط.
سجل الأطباء زيادة ملحوظة في نسبة النساء اللاتي يحتجن إلى عمليات قيصرية، مع ارتفاع في حالات ضغط الدم المرتفع ومضاعفات الولادة.
من جهتها، تقول الدكتورة أوكسانا إيفانيفنا "كل طفل يولد هنا الآن هو محظوظ جداً".
وبينما تكمل حديثها، يتردد صوت مكتوم في الأرجاء. انفجار آخر يهز سطح الأرض. أرواح أخرى أزهقت؟ مزيد من الإصابات والتشوهات؟ لكن في أروقة مستشفى الولادة تحت الأرض، لا أحد يظهر أي رد فعل.
دمر منزل الدكتورة إيفانيفنا بالكامل قبل أشهر قليلة. كذلك تعرض المستشفى للقصف بالصواريخ مرتين خلال عام 2023، ومرة أخرى في العام الماضي. تحول المستشفى إلى مسكن دائم لمعظم الأطباء الذين يعملون فيه، إذ يعيشون داخل جدرانه منذ ما يقارب عامين. في مدينة خيرسون، لم يعد الارتجاف لسماع دوي الانفجارات إلا علامة على أنك غريب عن المكان.
وترقد أولها فينر على سرير في جناح ما قبل الولادة بالمستشفى المقام في القبو، وتخضع للمراقبة المستمرة بسبب ارتفاع خطر في ضغط الدم، ويحذر الأطباء، قبل شهر من موعد ولادتها المتوقع، من أن جنينها يواجه خطراً محدقاً.
تبتسم أولغا بسخرية قائلة "أعتقد أن جميع سكان خيرسون مصابون بارتفاع ضغط الدم".
بينما تشق الحياة الجديدة طريقها إلى النور، أظهر كبار السن في خيرسون إصراراً وثباتاً قوياً. المدينة التي كانت تعج ذات يوم بنحو 250 ألف نسمة، صمدت في وجه الاحتلال الروسي ثمانية أشهر، ثم عاشت تحريراً دامياً. واليوم، تحولت إلى ما يشبه حقل رماية غني بالأهداف البشرية للقوات الروسية التي تسعى إلى اصطياد المدنيين. وعلى رغم ذلك، ما زال 83 ألف شخص يتشبثون بالحياة فيها، بينهم 5 آلاف طفل.
لدى إيرينا فوسكوفا تسعة أحفاد ومنحت نفسها لقباً جديداً يعكس واقعها، فجزء من جمجمتها استبدلت به صفيحة تيتانيوم، بينما استقرت شظية معدنية في دماغها.
وتقول بابتسامة "أحمل تذكاراً معي إلى الأبد... الشظية مستقرة في رأسي ولا يمكن إزالتها. هنا وضعوا صفيحة بلاتينية لتغطية الفجوة في جمجمتي. أنا السيدة الحديدية الآن".
تعود إصاباتها البالغة إلى لحظة تعرضها لقذيفة هاون، أطلقت من الضفة المقابلة للنهر، باتجاه ضاحية أنتونيفكا في خيرسون عام 2023. جاءت هذه الضربة بعد تدمير منزل ابنها بقنبلة روسية، وقبل دخول الطائرات المسيرة لتكمل مسلسل الدمار في صيف العام الماضي.
وتضيف "كانت الطائرات المسيرة تجوب سماءنا باستمرار في تلك الفترة. حاول الناس الاختباء تحت ظلال الأشجار أو داخل المنازل. لكن ليس بمقدور أحد الاختباء في الوقت المناسب دائماً. الطائرات المسيرة تصطاد الناس والمركبات والحافلات من دون تمييز. أصيب ابني بينما كان يسير عائداً إلى المنزل من محطة الحافلات. المسيرات تتعقب الحافلات باستمرار".
وتتابع "أعتقد أن جميع الحافلات في أنتونيفكا قد تعرضت للضرر بفعل عشرات الهجمات التي استهدفت شبكة النقل العام ومحطات الانتظار".
فلاديمير، ابن إيرينا البالغ 48 سنة، أصيب بجروح في البطن، وتضرر كبده بشدة واضطر الأطباء إلى استئصال مرارته، لكنه نجا من موت محقق.
لكن المنزل الذي كانوا يتشاركون العيش فيه لم يحالفه الحظ نفسه.
تقول إيرينا "أسقطت طائرة مسيرة ذخائر حارقة على منزلنا في الثاني من أكتوبر (تشرين الأول) 2024. اتصل بي جيراني ليخبروني أن منزلنا يلتهمه اللهب. احترق المنزل المكون من طابقين بالكامل حتى انهار. لم يتبق منه سوى جدران الطابق الأرضي المتفحمة".
مثلها مثل معظم سكان خيرسون الصامدين، تنظر إيرينا بعين الشك العميق إلى كل حديث عن وقف محتمل لإطلاق النار.
وتوضح "لا يمكن الوثوق ببوتين أبداً. إنه ينكث بوعوده باستمرار، ويكذب من دون توقف. لذلك يصعب علينا تصديق أن وقف إطلاق النار سيتحقق. لكننا نتمنى ذلك بشدة. ونحن ممتنون جداً لكل من يسعى إلى مساعدتنا".
كاد رئيس بلدية خيرسون العسكرية، رومان مروشكو، أن يكون ضحية غارة جوية استهدفت مقره في اليوم السابق. يؤكد مروشكو، استناداً إلى معلومات الاستخبارات العسكرية الأوكرانية، أن مشغلي الطائرات المسيرة الروس يتخذون من سكان مدينته المدنيين حقل تدريب لتطوير مهاراتهم القتالية.
ويقول "لدينا الآن مصطلح جديد في خيرسون - إنها ’رحلة سفاري‘ حقيقية. مطاردة منهجية للمدنيين العزل. ترسل روسيا وحدات جديدة باستمرار إلى منطقتنا. يتدربون على تحليق الطائرات المسيرة، وإسقاط المتفجرات على المدنيين والسيارات والحافلات العامة وحافلات التروللي. هؤلاء الروس يكتسبون خبرة قتالية ويتعلمون، وخلال أشهر قليلة، يرسلون إلى الجبهة الشرقية من أوكرانيا".
ويضيف بإصرار "ثم تأتي وحدات جديدة لتواصل التدريب على مدينتنا والمدنيين".
وإثباتاً لمزاعم قيام الروس بتدريب مشغلي طائراتهم المسيرة الهجومية على المدنيين في خيرسون، يقول "لدينا تسجيلات لمحادثاتهم التي اعترضناها تؤكد ذلك".
ويتابع قائلاً "حتى الآن هذا العام، كان لدينا 391 جريحاً، بينهم 39 طفلاً، و40 قتيلاً، من بينهم أربعة أطفال".
ويكمل "وإذا شاهدتم مقاطع الفيديو التي توثق طريقة إسقاطهم المتفجرات من الطائرات المسيرة - تارة على موقف للحافلات، وأخرى على الحافلات المدنية المتحركة التي تنقل الناس إلى منازلهم، أو إلى مقار عملهم، أو إلى الأسواق... ستدركون أن هذه مناطق لا وجود فيها للجنود على الإطلاق".
وبالعودة إلى مستشفى الولادة تحت الأرض في خيرسون، تحتضن ألينا ستايسوك طفلتها أديلينا التي لم تتجاوز ساعات من عمرها، وتتمتع بكامل صحتها.
عندما سئلت عن مشاعرها تجاه الولادة في مدينة تتعرض باستمرار للقصف الروسي بالطائرات المسيرة والقنابل، قالت: "لا شك أن هناك بعض الخوف، لكنها تجربة تستحق كل لحظة، بكل صدق". مضيفة "إنها السعادة بعينها... الولادة هي السعادة المطلقة، وما تحتضنه بين ذراعيك هي قطعة من السعادة".
© The Independent