ملخص
تدعو فعاليات مختلفة في تونس إلى تخفيف القيود أمام التملك الأجنبي للعقارات بغرض دفع عجلة الاستثمار والتنمية في البلاد، ولكن معوقات قانونية ودينية عديدة ما زالت تحد من فعالية الخطط في هذا المجال. يضاف إليها تلك التحديات المرتبطة بواقع الاقتصاد الوطني الراهن، والعوامل الدولية المؤثرة في سعر العملة المحلية، والقدرة الشرائية للتونسيين والأجانب على السواء.
حرصت السياسة الاستعمارية الفرنسية لتونس مع مطلع ثمانينيات القرن الـ19 على حماية الفرنسيين والأجانب عموماً، عبر تمكينهم من أخصب الأراضي الزراعية، وتسجيلها كأملاك لهم بواسطة المجلس المختلط (Tribunal mixte). وبعد الاستقلال حاول المشرع التونسي تنظيم ملكية العقارات وبدء استرجاع ما استحوذ عليه الأجانب في زمن الاحتلال، ثم قام بتصفية وضعيتها القانونية تمهيداً لدمجها في الدورة الاقتصادية مجدداً.
وواجه المشرع التونسي صعوبات كبيرة لاستكمال عملية تصفية أملاك الأجانب على رغم كثرة القوانين المختصة، على غرار "قانون التأميم" أو ما يعرف بـ"الجلاء الزراعي"، الصادر في الـ12 من مايو (أيار) 1964، الذي استرجعت بموجبه الدولة التونسية كل العقارات الفلاحية التي تملكها الأجانب من دون وجه حق، سعياً منها إلى صون الأمن الغذائي للتونسيين، والحفاظ على السيادة الوطنية واستقلال البلاد.
بعيداً من الحقبة الاستعمارية، ينص الدستور التونسي في فصله الـ29 على أن "حق الملكية مضمون ولا يمكن الحد منه إلا في الحالات وبالضمانات التي يضبطها القانون". كذلك يحفظ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان "حق كل شخص في ملكية عقار بأية دولة، مهما كان جنسه أو دينه أو لونه". وهذا يعني نظرياً أن بإمكان أي تونسي تملك عقار في فرنسا أو هولندا أو ألمانيا، كما يمكن للأجانب امتلاك العقارات في تونس.
على أرض الواقع تتعارض سياسة المشرع التونسي في شأن امتلاك الأجانب للعقارات في الدولة مع المواثيق الدولية التي تضع حق الملكية بين أهم حقوق الإنسان عالمياً، كما أن القيود التي فرضتها تونس في هذا المجال أسهمت بهرب المستثمرين الأجانب إلى دول شقيقة مثل مصر والمغرب. وخسرت البلاد معهم فرص مشاريع اقتصادية وتنموية كثيرة. فما أبرز الصعوبات التي تواجه الأجانب الراغبين في امتلاك العقارات في تونس؟ وكيف يضبط القانون ملكية الأجنبي لعقار تونسي؟
الحد الأدنى للتملك
محمد علي العجيلي، مواطن ليبي من طرابلس، أراد اقتناء منزل في العاصمة تونس لأنه يتردد إليها كثيراً مع أفراد عائلته للسياحة أو العلاج، فخاض رحلة طويلة من الإجراءات والتراخيص المعقدة، ولكن إصراره وتعاونه مع محاميه أوصله إلى هدفه في النهاية.
يدعو العجيلي الليبيين إلى الاستثمار وتملك العقارات في تونس عبر الاستفادة من امتيازات اتفاق ثنائية أبرمت بين البلدين، مع الالتزام بشرط أن يكون سعر العقار المعروض للتملك فوق 300 ألف دينار، تعادل حوالى 100 ألف دولار. وعلى رغم هذا يرى العجيلي أن تخفيف قيود تملك الأجانب في تونس، من شأنه أن يفيد التونسيين والليبيين على السواء، من خلال دفع سوق العقار في الدولة وتحريك عجلة التنمية.
الطريق التي سلكها العجيلي، لم يكملها جيمس، بريطاني متزوج من تونسية ومقيم معها في لندن، كان جيمس متحمساً في البداية للشراء في تونس، ولكنه عدل عن الفكرة بعد اتصاله بعدد من المطورين ومعاينة أكثر من منزل. والسبب وفق تعبيره، "أنه اشتم رائحة تلاعب في الأسعار، ومفارقة كبيرة بين القيمة الحقيقية للبيت وسعره بالعملة الأجنبية، ففضل اقتناء منزل في بريطانيا".
أخيراً حذر رئيس الغرفة النقابية الوطنية للباعثين (المطورين) العقاريين فهمي شعبان، من انهيار قطاع التطوير العقاري في الدولة بعد ارتفاع نسبة الفائدة في المصرف المركزي إلى حدود ثمانية في المئة، تزامناً مع صعود أسعار المواد الأولية على مستوى العالم، وانهيار القدرة الشرائية للتونسيين في الداخل.
"اتفاقات الاستيطان"
وأبرمت الحكومة التونسية اتفاق استيطان مع الجزائر عام 1963، والمغرب في 1964، وليبيا 1961، والنيجر 1966. وبمقتضى هذه الاتفاقات منح رعايا هذه الدول حق التملك في تونس، وتقررت معاملتهم معاملة المواطنين التونسيين. فتم إعفاؤهم من شرط الحصول المسبق على الرخصة الإدارية كلما كانوا أطرافاً في العمليات العقارية.
في فصلها الخامس، تضمنت "اتفاقات الاستيطان" لرعايا البلدان المعنية حقوق العمل، وحيازة الأملاك العقارية والمنقولة والتصرف فيها. إضافة إلى ممارسة أنواع الصناعة والتجارة والزراعة، على قدم المساواة مع المواطنين في الحقوق والواجبات".
على رغم أهميتها، واجهت "الاتفاقات" إشكالات قانونية لاحقة لعملية المصادقة، كتطبيق مبدأ "المعاملة بالمثل"، وما يثيره من تباينات في الممارسات اليومية والإجراءات الإدارية. لذلك كان التوجه في السنوات الأخيرة إلى محاصرة مشكلات الاتفاقات وإعفاء بعض العمليات العقارية من الرخص الإدارية المستوجبة، خصوصاً وأن آلاف الأجانب يرغبون في اقتناء مساكن في تونس بعد إحالتهم على التقاعد للتمتع بجمال ومناخ الدولة. لكن هذه الخطوة بحد ذاتها، لا تخلو من أخطار تدني المقدرة الشرائية للمواطن التونسي، وانخفاض قيمة العملة المحلية أمام الأجنبية، وكل هذا يتسبب في ارتفاع أسعار العقارات والمضاربة العقارية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
المضاربة والضريبة
شهدت سوق العقارات في المدن الساحلية بعد 2011، إقبالاً واسعاً من الأجانب، مما أدى إلى حصول طفرة في السوق الموجهة حصراً إلى الأجانب من ذوي الدخل العالي. وفي وقت سابق أفاد حافظ الملكية العقارية وديع رحومة، أن بإمكان الأجانب شراء مساكن بالعملة الصعبة عند تأسيسهم لمشاريع استثمارية في تونس. ولكن ذلك لا يشمل المساكن الاجتماعية ولا العقارات الفلاحية، وبالتالي لا يوجد مجال للمضاربة العقارية فيها. كذلك أكد رحومة على اتخاذ عديد الإجراءات لتشجيع المستثمرين الأجانب، كالاستغناء عن "رخصة الوالي".
بحسب المدير العام للاقتناء في "وزارة أملاك الدولة" محمد الصايغي لا يتجاوز عدد عقارات الأجانب في تونس حالياً 4660 عقاراً، تتوزع بين حرفية وتجارية وسكنية. كما تنقسم وفقاً لجنسية المالك، بين 56 في المئة للفرنسيين، و17 في المئة للإيطاليين، والبقية جنسيات مختلفة.
وأحدث قانون المالية لعام 2023 ضريبة على الثروة العقارية، تقدر بخمسة في المئة سنوياً على مكاسب كل شخص طبيعي من العقارات التي تساوي أو تفوق قيمتها التجارية الحقيقية 3 ملايين دينار (حوالى مليون دولار). بما فيها العقارات التي تعود ملكيتها لأبنائه القصر الذين هم في كفالته. كما توظف ضريبة سنوية على أساس اثنين في المئة من السعر المرجعي للمتر المربع، لكل عقار مبني تضرب في المساحة المغطاة.
الأراضي الفلاحية
وسمح القانون للأجانب أفراداً وشركات، بامتلاك العقارات لأغراض السكن أو الاستثمار، إلا أنه منعهم من امتلاك الأراضي الفلاحية حتى بمشاركة تونسيين. وذلك ضماناً للأمن القومي الفلاحي وحفاظاً على الرصيد العقاري الفلاحي للبلاد.
في لقاء مع "اندبندنت عربية" يقول جعفر الربعاوي، القاضي والمستشار في محكمة التعقيب، ونائب رئيس مركز تونس للقانون العقاري والتعمير، إن المشرع التونسي أصدر بتاريخ الرابع من يونيو (حزيران) 1957، أمراً أخضع بموجبه جميع العمليات العقارية المتعلقة بالأراضي الفلاحية والأراضي غير المبنية وغير المقسمة إلى الرخصة الوجوبية من والي الجهة (المحافظ)، ثم سحب مفعول الأمر المذكور على جميع العقارات مهما كانت صبغتها فلاحية أو سكنية أو صناعية أو تجارية أو سياحية.
وخلف أمر "الرابع من يونيو 1957" آثاراً وخيمة في الدورة الاقتصادية، لما للعقار من دور رئيس في التنمية. مما دفع بالمشرع إلى إعفاء التونسيين من شرط الحصول على رخصة الوالي (المحافظ)، في العمليات التي يجرونها في ما بينهم. وانحصر منذ ذلك التاريخ ميدان تنفيذ الأمر في العمليات العقارية التي يكون أحد أطرافها أجنبياً.
بين الديني والمدني
تفصل القوانين الوضعية لوحدها في المسائل العقارية وإمكان امتلاك الأجنبي لعقار في تونس من عدمه، بينما تثير مسألة زواج الأجنبي بتونسية وحق الميراث جدلاً واسعاً في الساحات القانونية. فيشتعل الخلاف بين نزعات داعمة للقوانين المدنية، وأخرى تتجه نحو المرجعية الدينية.
وعلى رغم تفردها في العالم العربي من ناحية الحقوق التي تضمنتها، فان أغلب فصول مجلة الأحوال الشخصية التونسية مستلهمة من النص الديني. ويؤكد عبدالمنعم العبيدي، أستاذ مساعد بكلية الحقوق في تونس، في مداخلة حول "مقارنة بين ما ورد في باب الميراث في مجلة الأحوال الشخصية والإسلام"، أن أغلب فصول مجلة الأحوال الشخصية استلهمت من مجلة الأحكام الشرعية، لافتاً إلى التباعد وأحياناً التضارب بين ما ينص عليه الدين، وما أتت به المجلة على غرار التبني المحرم شرعاً والمسموح به قانوناً في تونس، وهو ما يثير إشكالات قانونية في مسألة ميراث المتبنى وأيضاً زواج التونسية بغير المسلم.
من جهته يقول القاضي الربعاوي إن "النصوص الدينية تنص على أن الاختلاف في الدين هو مانع من موانع الإرث، وتواجه المحاكم بدورها إشكالاً حقيقياً حول هذه النقطة بالذات. فمحكمة التعقيب مثلاً محكمة محافظة نوعاً ما، وتستند إلى الجانب الديني الشرعي عوضاً عن القوانين المدنية.
وبحسب الربعاوي "في حال غير الأجنبي ديانته وأصبح مسلماً، يمكنه أن يرث من زوجته التونسية كغيره من التونسيين. أما إذا ثبت من خلال شهود عيان أن ديانته مختلفة، فيمكن منعه من الميراث، لذلك يعتبر اختلاف الدين مانع من موانع الإرث، والأجنبي غير المسلم ليس لديه الحق في الميراث.
وبينما تعمل محكمة التعقيب على تطوير أدائها لمواكبة تحولات المجتمع، وتصطدم بالدستور الذي ينص على أن "الدولة دينها الإسلام"، فتعود ثانية لحيرة تطبيق القانون الوضعي أو الديني في المواضيع الشائكة. ويشير الربعاوي إلى أن المحكمة اتجهت في السنوات الأخيرة إلى تطبيق الاتفاقات الدولية كـ"اتفاقية سيداو" في عدم التمييز ضد المرأة. ولكن الأمر يحتاج برأيه، إلى مزيد من الجرأة واعتماد مصدر واحد في التشريع، حتى يسهل الفصل في القضايا المعقدة التي يتداخل فيها المدني مع الديني، مستشهداً بتجربة تركيا التي ينص دستورها بوضوح في فصله الأول على أنها دولة علمانية.