ملخص
يسعى الروائي المصري محمد الفخراني إلى ترسيخ جو غرائبي في روايته الجديدة "حدث في شارعي المفضل"، فيدمج بين الخيال العلمي والخرافة ليخرج بعمل سردي ينطلق من معطيات واقعية.
يقدم الكاتب المصري محمد الفخراني في روايته "حدث في شارعي المفضل" (دار العين) يوميات الناجية الوحيدة على الأرض، إثر انهيار الكوكب من جميع جوانبه وبقاء قطعة وحيدة معلقة منه تتسع لبيت طيني. تلك الناجية لا نعرف لها اسماً، هي مقدمة برنامج إذاعي بعنوان "في منتهى السهولة"، كانت ترتبط بعلاقة عاطفية برسام، وتصفها بـ"الحب السهل"، فيما كان هو تحلو له مناجاتها باسم "الأرضية".
ترسم أحداث الرواية سيناريو جديداً لانتهاء الحياة على الأرض، تلك الفكرة التي راودت كثيرين في الآونة الأخيرة مع انتشار جائحة "كوفيد 19" بمتحوراته المتتالية، وكانت ربما هي دافع المؤلف لكتابة روايته تلك. ومع ذلك تأتي نهاية العالم في "حدث في شارعي المفضل" لسبب غير معلوم، إذ تبدأ الأشياء في الاختفاء. تختفي النوافذ والشوارع، وتنقطع سبل التواصل بين البشر بانقطاع الكهرباء والإنترنت. ثم تبدأ الأرض نفسها في التلاشي جزءاً بعد آخر، مما يولد اضطرابات من جراء إغارة الدول على بعضها بعضاً لتوفير الطعام لشعوبها وتوسيع رقعتها الجغرافية. ثم تنطلق حروب العصابات ثم حرب العائلات، "كل أسرة انبرت تدافع عن أفرادها أو ما تبقى منهم، وبعد ذلك راح كل شخص يحارب أو يقاتل عن نفسه" ص52. ومع ندرة الطعام يبدأ الناس في أكل لحوم بعضهم، إلى أن تتهاوى الأرض تماماً بما عليها، ولا يبقى منها إلا قطعة صغيرة معلقة في الفراغ، تقطنها الناجية الوحيدة لعقود عدة. تمارس حياة البشر الأوائل من زراعة وصناعات يدوية صديقة للبيئة. تمني النفس في عزلتها بأن يعود ما اختفى يوماً ما.
وحدة قاتلة
يأتي رحيل الأرض في الرواية بهذه الصورة كنوع من الغضب على إهمال الإنسان لها، على رغم أنها مصدر الحياة الذي لا بديل له. وتنبع الجدة في هذه الرواية في طريقة اختفاء كوكب الأرض "الأرض التي يقفون عليها تتهاوى من أطرافها ببطء، فيزداد الفراغ حولهم ويقترب منهم" ص75، الذي يحيل إلى المعنى الموجود في سورة "الرعد" الآية 41 "أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها". وتحمل الرواية كذلك أشكالاً أخرى من الإحالات لأحداث نهاية العالم كما هي موجودة في المورث الديني. وتحيل الأحداث أيضاً إلى ما تبشر به النظرية النسبية وغيرها من النظريات العلمية حول إمكان رؤية نشأة الأرض نظرياً عبر تلسكوب ضخم في الفضاء قادر على عبور السنوات الضوئية. ويحيل قيام بطلة الرواية برسم كوكب الأرض، ببشره وجباله وأنهاره وبحاره ومحيطاته وحيواناته وطيوره، إلى ما جاء في الفيلم الأميركي Cast Away، فكل من بطل الفيلم "تشاك نولاند" الذي جسده توم هانكس وبطلة الرواية تعلقا بكرة كانت هي الونس في الوحدة الشديدة التي يعانيانها. فحتى مشاعر الغضب والنقمة من الكرة ذاتها تتكرر. يلقي "نولاند" بالكرة غيظاً وغضباً ثم يستعيدها باكياً ومعتذراً لها، وكذلك الساردة التي تفرغ هواء الكرة ثم تندم على ما فعلت وتبكي جراء فعلتها وتعيد نفخها مرة أخرى، فكلاهما يتوحدان مع الكرة الصديق الوحيد في وحدة قاتلة.
سردياً اتكأ الفخراني على الوصف مما أثقل حركة السرد، وجعل الأحداث تمضي ببطء. فمن الممكن أن يستغرق وصف البيت واستحمام البطلة أحداث فصل كامل. ومن الأمثلة على طغيان الوصف على حركية السرد ذلك المشهد: "أسحب عود كبريت خشبياً من علبته. أمسكه مثل خبيرة، بأطراف سبابتي وإبهامي والوسطى، وأحك رأسه الأحمر مرة واحدة خاطفة بجانب العلبة المنقرش بنقاط الكبريت، وأراقب لحظة ارتباكه أو فرحه وهو يشتعل وأستمع إلى صوته "تتششش" أرفع الجزاء الجزء الزجاجي للقنديل. أقرب عود الكبريت من الفتيل، فينبت في رأسه لهب برتقالي صاف، أتفرج عليه لثوان وأعرف أني أعرفه. أطفئ عود الكبريت بنفخة لطيفة من فمي وأفكر: هل يكون عود الكبريت مرتبكاً أم فرحان لما يشتعل..." ص 99، 100. وعلى رغم ذلك، فإن اختيار هذا الشكل من السرد الذي يعتمد الوصف نهجاً جاء مناسباً للتعبير عما تمر به البطلة نفسياً وهي تعيش وحدها، يمر الوقت عليها بطيئاً ودائماً لا يأتي بجديد. وهكذا تضطر إلى فعل كل شيء على مهل: "فتمشيت متمهلة، وأكلت متمهلة، وتحممت متمهلة، ونمت متمهلة" ص102.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وحتى السرد الذي جاء على شكل يوميات تكتبها البطلة لا إلى أحد، جاء متمهلاً لا عجلة فيه: "أنا آخر من تبقى من البشر، اختفى وجه الأرض، لم يتبق منه غير مساحة يقف عليها بيت طيني أعيش فيه وحدي، لا إنسان أو حيوان أو طائر أو بحر أو نهر أو صحراء أو شارع، أنا والبيت الطيني. كل كوكب الأرض حرفياً، كل كوكب الأرض".
التجريب السردي
تتخذ الرواية كذلك طابع التجريب عبر انتهاجها للفنتازيا بمعالجة إبداعية لنهاية العالم خارجة عن المألوف. تترك كثيراً من المساحات الفارغة التي تعطي فسحة من التأويل. فنحن أمام شخصية لا نعرف لها اسماً حتى نهاية الرواية سوى أنها كانت مذيعة وأن حبيبها كان يناديها باسم "الأرضية"، فيما هي تصف هذا الحبيب بأنه "الحب السهل" أو "صاحب البسمة السهلة"، ولا يتاح للقارئ أن يعرف المحيط الاجتماعي والظروف التي نشأ فيها الطرفان. كما أن الفخراني يمنح البطلة بعض الصفات غير العادية من خلال قدرتها على معرفة أشكال الناس فقط من مجرد سماع أصواتهم، أو تناهي أصوات البشرية وأغانيهم إلى أذنيها فترددها أثناء عملها في حرث الأرض وزراعتها. إضافة إلى قدرتها على الطيران إلا أنها تفضل المشي، والانتقال من عمر إلى عمر آخر، من الشباب إلى الكهولة إلى الشيخوخة والعكس.
واعتمدت الرواية على كسر المألوف عبر حبكتها الحرة واحتفائها على سبيل المثال باللون الأصفر الذي يرتبط عادة بالغيرة والحسد، بينما تعيد له الرواية الاعتبار، فهو لون البطلة المفضل وباختفائه اختفى العالم، لون البهجة والسعادة ولون الصحراء والشمس في شروقها ومغيبها. تتغنى البطلة بهذا اللون فيما يشبه المقالة داخل الرواية: "الأصفر به نزق خفيف ولا مبالاة ظريفة، وطيش يدعو إلى الابتسام، سريع البديهة، يعرف كثيراً من النكات، لديه حدس، متألق من دون صخب، شاحب من دون انطفاء. لديه حس المغامرة، هو يستقبلنا بفرحة...". فأنسنة الألوان والجمادات والمشاعر واحدة من الأمور التي اتكأت عليها الرواية في كسر المألوف.