Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"حماس" تعيد ابتكار تكتيكات الحرب تحت الأرض

مجمع شبكة الأنفاق في غزة لعب دوراً كبيراً في رسم أطر العمليات وسيلهم الآخرين

جندي إسرائيلي يحرس نفقاً في شمال قطاع غزة، نوفمبر 2023 (رونين زفولون/ رويترز)

ملخص

استخدمت "حماس" الأنفاق بصورة مبتكرة فغيرت معادلة المواجهات العسكرية على سطح الأرض، وأخرت الانتصار الإسرائيلي وتسببت في كلف دبلوماسية وسياسية ملحوظة.

عندما شنت "حماس" هجومها على إسرائيل في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، جرت البلاد إلى واحدة من أسوأ الحروب تحت الأرض على الإطلاق. والآن، أصبح من الواضح تماماً أن شبكة الأنفاق الضخمة التي تمتلكها الحركة لا مثيل لها، وقد أسهم استخدامها في سقوط ضحايا بين المدنيين والجنود على حد سواء. والأمر الأكثر أهمية هو أن "حماس"، من خلال استمرارها في هذه العمليات تحت الأرض على مدى أشهر، تسببت في تأخير النصر الإسرائيلي، مما أدى إلى كلف دبلوماسية وسياسية لا يمكن تصورها.

وعندما يتعلق الأمر بحرب الأنفاق، تبرز الحرب العالمية الأولى باعتبارها الصراع الوحيد الذي يمكن مقارنته بالصراع الحالي، فآنذاك لقي عدد لا يحصى من الجنود البريطانيين والألمان حتفهم أثناء محاولتهم كشف الأنفاق وتلغيمها وحفرها. لا يوجد مثال آخر لاستخدام الأنفاق في الحرب يمكن مقارنته بما يحدث في الصراع الحالي حتى ولو من بعيد، بما في ذلك تحصن أسامة بن لادن في جبال أفغانستان الذي مكنه من التملص من القوات الأميركية والتخطيط لهجمات لم يكشفها أحد، واستعانة تنظيم "القاعدة" في بلاد المغرب الإسلامي في مالي بالأنفاق من أجل شن هجمات من مخابئ شبه منيعة تحت الأرض، واستعمال "داعش" الأنفاق من أجل شن هجمات على القوات المتعددة الجنسيات بقيادة الولايات المتحدة في العراق وسوريا. إن استخدام "حماس" الأنفاق متقدم للغاية، مما يجعله أقرب إلى طريقة استخدام الدول للمرافق والشبكات تحت الأرض من أجل حماية مراكز القيادة والتحكم منه إلى الطرق المعتادة التي تلجأ إليها الجهات الفاعلة غير الحكومية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويذكر أن توسيع "حماس" قدراتها تحت الأرض دفع تل أبيب إلى إعادة النظر في تقييمها التهديدات المتعلقة بحروب الأنفاق. في الواقع، لم تتخيل إسرائيل قط أن تتورط في حرب أنفاق بهذا الحجم، بل على النقيض من ذلك، كان تركيزها منصباً على تدمير أنفاق "حماس" الممتدة إلى داخل الأراضي الإسرائيلية. ومن المرجح أن يحفز الصراع في قطاع غزة تطوير عقيدة جديدة وأساليب جديدة للتعامل مع هذا النوع الفريد من الحروب. ولا شك في أن نظام الأنفاق التابع لـ"حماس" قد لفت انتباه الجيوش الأخرى والجهات الفاعلة غير الحكومية التي تشير جميعها إلى مدى فعاليته في صمود "حماس" في غزة.

والآن بعد أن تجاوزت "حماس" معظم العقبات الملازمة للحرب تحت الأرض، على غرار الاتصالات وسبل التنقل وانخفاض مستويات الأوكسجين ورهاب الأماكن المغلقة [كلوستروفوبيا] من بين جملة أمور أخرى، هناك أسباب كافية تدفع إلى الاعتقاد أن هذا التكتيك سيستمر في الانتشار. لقد أدى استخدام "حماس" المبتكر لما هو تحت الأرض إلى إعادة تعريف القيمة الاستراتيجية لما هو فوق الأرض، وبدل المواجهات العسكرية، وغير استخدام الدروع البشرية.

بعيد المنال

إن البقاء تحت الأرض لفترات طويلة ليس بالأمر السهل، بحسب إفادات مئات المقاتلين الأوكرانيين الذين عاشوا في الأنفاق تحت مصنع آزوفستال للحديد والصلب خلال الهجوم الروسي على ماريوبول في عام 2022. فسرعان ما استنفدوا إمداداتهم من الغذاء والمياه الصالحة للشرب وكانوا يفتقرون إلى أبسط الترتيبات الصحية والطبية، ناهيك بالاتصال بالإنترنت والقدرة على التواصل مع العالم الخارجي. في غزة، لم تشكل أي من هذه الأمور مشكلة بالنسبة إلى "حماس". ففي حين أن الأشخاص الذين كانوا يعيشون ويقاتلون في أنفاق آزوفستال لم يتمكنوا من الصمود لأكثر من شهرين، حافظت "حماس" على وجود عسكري تحت الأرض لمدة تقرب من ثمانية أشهر. وتدين "حماس" بهذا الأداء الذي حطم الأرقام القياسية إلى متاهة طويلة من الممرات تحت الأرض تمتد عبر غزة وتشمل مطابخ مجهزة بالكامل، وغرف قيادة مفروشة، ومراكز بيانات متطورة، وحمامات مكسوة بالبلاط، وزنزانات اعتقال مسيجة، ومساحات عمل مخصصة.

واستكمالاً، يبدو أن "حماس" غير مقيدة بالعوائق الجيولوجية، أو الصعوبات الهندسية والتخطيطية، أو الخوف في شأن قدرتها على البقاء. لقد كان لدى الحركة متسع من الوقت لصقل مهاراتها واختبار أساليب جديدة وإجراء التحسينات، ومن المؤكد أن عقوداً من حفر الأنفاق عند الحدود المصرية، وداخل غزة، وداخل الأراضي الإسرائيلية قد ساعدت في ذلك. في الواقع، يبلغ عرض النفق الذي اكتشف قرب المعبر الحدودي بين غزة وإسرائيل، المعروف باسم معبر إيريز، ما يقرب من 10 أقدام وعمقه 164 قدماً. وقد شقته الحركة باستخدام معدات حفر غير عسكرية، وهو أسلوب لم تستعمله من قبل.

ومع ذلك، حتى أفضل مهارات الحفر لا تجهز المقاتلين للبقاء تحت الأرض لفترات طويلة. فالظروف قاسية والأوكسجين شحيح والتواصل مع العالم الخارجي محدود. وقد أظهرت "حماس" أن سنوات من التدريب والتخطيط الدقيق يمكن أن تساعد في التغلب على هذه العقبات. تشمل أنفاق "حماس" أماكن للنوم، وقاعات اجتماعات، ومنشآت أخرى تحت الأرض، مجهزة بأدوات التهوية والكهرباء والمراحيض والحمامات وأنظمة السباكة وشبكات اتصالات بدائية ولكن فعالة. ومع تحسن البنية التحتية، تضاءلت سلبيات العيش والعمل تحت الأرض. لقد أتاحت المخزونات الهائلة من الوقود والغذاء والمياه داخل الأنفاق العيش تحت الأرض وإجراء عمليات عسكرية. وضمنت مرافق إنتاج الأسلحة الواسعة الموجودة في الأسفل إمداداً وتوزيعاً مستمراً للأسلحة.

لقد قللت إسرائيل من أهمية التداعيات الاستراتيجية لحرب الأنفاق.

من المعروف أن مستخدمي الأنفاق في كل مكان يخرجون منها لإعادة التموين، واستنشاق الهواء النقي، والتواصل مع العالم الخارجي، لكن نادراً ما شوهد قادة "حماس" فوق الأرض. في أبريل (نيسان)، ظهرت تقارير تفيد بأن زعيم "حماس" في غزة، يحيى السنوار، زار قواته فوق الأرض، ولكن لفترة وجيزة فحسب. ليس من الواضح عدد المرات التي خرج فيها مقاتلو "حماس" من الأنفاق لإعادة الإمداد أو استعادة قوتهم. لكن الأمر الواضح هو أن "حماس" تمكنت من إدارة العمليات العسكرية من دون انقطاع. وعلى رغم تعرضها للنكسات، بخاصة بسبب الضربات الإسرائيلية التي عطلت أنظمة اتصالاتها، فقد تمكنت بصورة عامة من ضمان استمرار التسلسل القيادي من قاعدتها العسكرية تحت الأرض.

إن استعمال "حماس" المنشآت تحت الأرض يشبه إلى حد كبير طريقة الدول، لا الجهات الفاعلة غير الحكومية، في استخدام الأنفاق بصورة تقليدية. فالدول تعتمد على هياكل تحت الأرض لإيواء مخابئ دائمة يصعب الوصول إليها وقادرة على العمل كمراكز للقيادة والتحكم في أوقات الأزمات. ويمكن لهذه المرافق المدفونة عميقاً أن تستضيف القادة، وتحافظ على البنية التحتية لإنتاج الأسلحة، وتضمن استمرار التسلسل القيادي في حالات الطوارئ. من المعروف أن كندا والصين وإيران وإسرائيل وروسيا والولايات المتحدة تمتلك هذه الأنواع من المرافق المدفونة عميقاً. وهي أكبر حجماً وأفضل تجهيزاً وأكثر تحصيناً وأعمق من الأنفاق التقليدية. فالمنشآت النووية الإيرانية محفورة على عمق يزيد على 300 قدم تحت الأرض (في حين أن غالب الأنفاق لا يصل عمقها إلى أكثر من 200 قدم)، ونتيجة لهذا فهي بعيدة من متناول أقوى الأسلحة حتى.

في المقابل، استخدمت الجماعات الإرهابية الأنفاق في الأساس لحماية نفسها من تكنولوجيا المراقبة وللعمل سراً. وهذه الأنفاق البدائية مخصصة للاختباء وتنفيذ هجمات مفاجئة. لكن في غزة، وجد جيش الدفاع الإسرائيلي أنفاقاً عدة تشبه المنشآت الموجودة تحت الأرض في إيران وكوريا الشمالية من ناحية حجمها وعمقها وطريقة بنائها. وقد أصبح سقفها المقوس الأسمنتي سمة مميزة، مع استعمال الأسمنت أيضاً لبناء فتحات أنفاق أكبر. ومقارنة بأنفاق "حماس" السابقة، على غرار تلك التي حفرتها في مصر وغزة في أواخر التسعينيات من القرن الـ20 وحتى العقد الأول من القرن الـ21، فقد تحسنت الهندسة بصورة كبيرة. وصارت الأنفاق الآن أقل عرضة للانهيار، ومضاءة جيداً، وأكثر ملاءمة للعيش.

علاوة على ذلك، زادت "حماس" أيضاً من اعتمادها على الأنفاق كجزء من استراتيجيتها، وتحديداً طريقة استخدامها تلك الأنفاق. فهي ترى أن حرب الأنفاق هي استثمار استراتيجي طويل الأجل يهدف إلى ضمان بقاء هيكلها القيادي أثناء الحرب، وليست مجرد تكتيك لمواجهة قدرات الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع الإسرائيلية. لا تستطيع الجيوش محاربة الأنفاق التكتيكية على النحو الذي تحارب فيه التهديدات الاستراتيجية تحت الأرض. فالقنابل الخارقة للتحصينات، على سبيل المثال، لن تكون كافية لتدمير مثل هذه المنشآت الأعمق والأكثر قوة. وهذا التحول نحو استخدام أكثر استراتيجية للأنفاق يشير إلى إعطاء الأولوية للصمود عوضاً عن الانخراط في قتال تحت الأرض.

انتظار الخلد

لقد لعبت الأنفاق دوراً كبيراً في رسم أطر العمليات في غزة بطرق لا تعد ولا تحصى، مما أدى إلى تقويض احتمالات تحقيق نصر إسرائيلي سريع، وأبطأ وتيرة العمليات العسكرية، وجعل إنقاذ الرهائن أكثر صعوبة، وعرض المدنيين للخطر، وزاد تعقيد البيئات العسكرية والسياسية بالنسبة إلى إسرائيل. ولكن هناك جانب واحد كثيراً ما يجري التغاضي عنه، يحمل عواقب وخيمة على حروب المستقبل، وهو أن استراتيجية "حماس" المتبعة في الحرب تحت الأرض قد قللت من أهمية العمليات التي تجري فوق الأرض.

لقد أعطى الصحافي الإسرائيلي رون بن يشاي هذا النوع الجديد من القتال وصفاً مناسباً فاعتبره "حرباً تشن على مستويين مختلفين" [أي فوق الأرض وتحتها]. في المراحل الأولى من الحرب، سعى الجيش الإسرائيلي إلى السيطرة على ما فوق الأرض لكشف أنفاق "حماس" وفي نهاية المطاف الدخول إليها. ولكن مع تقدم عمليته، تحول اهتمام الجيش الإسرائيلي نحو التعامل مع الدهاليز التي تسمح بالدخول إلى الأنفاق والخروج منها. ولم تعد المناطق فوق الأرض تشكل ساحة المعركة الرئيسة بل أصبحت مجرد وسيلة للوصول إلى الشبكات تحت الأرض.

ونتيجة لذلك تغيرت مواجهات العدو والمناورات البرية. فمن المعروف أن الحرب تحت الأرض تجعل العدو غير مرئي ويتعذر الوصول إليه. وتوصف بصورة مناسبة وشائعة بأنها شبيهة بلعبة "ضرب الخلد" Whac-a-Mole [لعبة يابانية قديمة تحوي فتحات يظهر منها خلد كرتوني، تعتمد على السرعة في إصابة الخلد لحظة ظهوره من الفتحة]، إذ يخرج العدو من الأرض في لعبة غميضة لا تنتهي. أما في غزة، فقد اختفى العدو بصورة شبه كاملة، وابتلعه مجمعه الهائل تحت الأرض. وهكذا، تحولت لعبة "ضرب الخلد" إلى "انتظار الخلد". ونظراً إلى أن الانتظار حتى لم يسفر عن أي نتائج، فقد اضطر الجيش الإسرائيلي إلى اللجوء إلى كل أنواع الحيل لإخراج مقاتلي "حماس" من تحت الأرض.

وهذا لا يعني أن مقاتلي "حماس" لا يظهرون أبداً. لقد أطلقوا صواريخ قاتلة مضادة للدبابات على القوات الإسرائيلية ونفذوا أنواعاً أخرى من المكامن. لكن الطريقة التي تعمل بها "حماس" تظهر أن استخدامها الأنفاق لم يعد تشكيل البيئة والمشهد تحت الأرض فحسب، بل أعاد أيضاً تعريف أهمية القتال البري وطبيعته. واستطراداً، فإن المواجهات مع الجانب الآخر أقل تكراراً، وكما هي الحال مع الأنفاق نفسها، يصعب اكتشافها. على سبيل المثال، تشير الأفخاخ المتفجرة قرب مداخل الأنفاق إلى وجود العدو، ولكن لا يمكن رؤية هذا العدو، وعند النجاح في اختراق الأنفاق أخيراً يكون العدو قد انتقل إلى جزء مختلف من شبكة الأنفاق. وخير دليل على ذلك هو اكتشاف الأنفاق الفارغة أسفل مستشفى الشفاء. في هذه البيئة، لا تحدث المواجهات بصورة عفوية بل تتطلب تخطيطاً مسبقاً.

إذا حلت الحرب تحت الأرض مكان الحرب البرية في غزة، فمن الممكن استخدام تكتيكات مماثلة في مكان آخر. يجب على الجيوش أن تفكر في طريقة التعامل مع الدور المتضائل لسطح الأرض عندما يتحول العدو من استخدام الأنفاق تكتيكياً إلى استخدامها استراتيجياً. وسيظل السطح مهماً في الحرب، في الأقل لأنه يسمح بالوصول إلى المنشآت الموجودة تحت الأرض والتحكم فيها، وباعتباره موقعاً نهائياً لمعظم المواجهات. لكن هذه التطورات تشير إلى أنه من الأفضل اعتبار الحرب تحت الأرض مجالاً منفصلاً في الصراعات عوضاً عن اعتبارها مجرد عنصر من عناصر الحرب البرية.

حدود التكنولوجيا

أظهر القتال في غزة أيضاً أن التقدم في التكنولوجيا المضادة للأنفاق قد فشل في ردع جماعات مثل "حماس" من اللجوء إلى حرب الأنفاق. يمكن القول بلا شك إن إسرائيل تمتلك التكنولوجيا المضادة للأنفاق الأكثر تقدماً في العالم. في عام 2018، نشرت تقنيات الكشف والتدمير المتقدمة لمواجهة تهديد وصول أنفاق "حزب الله" إلى إسرائيل، إضافة إلى ذلك، دربت إسرائيل وحدات خاصة على حرب الأنفاق، وبنت مرافق تدريب تحت الأرض، وطورت أجهزة استشعار تحت الأرض لحماية حدودها، وأتقنت المهمة الصعبة المتمثلة في رسم خرائط الأنفاق من خلال استخدام طائرات من دون طيار. بين عملية الجرف الصامد في عام 2014، وآخر حرب شنتها إسرائيل في غزة، وهجوم "حماس" في السابع من أكتوبر 2023، حسن الجيش الإسرائيلي قدراته بصورة كبيرة في مجال حرب الأنفاق، مع التركيز على التدريب والمعدات والكشف.

لكن التكنولوجيا الإسرائيلية المتفوقة والتدريب المتقدم لم يمنعا "حماس" من استثمار كثير من الوقت والموارد البشرية في بناء الأنفاق. وفي الوقت نفسه، دفع التقدم التكنولوجي إسرائيل إلى الاعتقاد بأنها قضت على أنشطة "حماس" تحت الأرض، على رغم أن العكس كان صحيحاً. ولصياغة الوضع في صورة مبسطة جداً: فمع تحسن التكنولوجيا، تكثفت عمليات الحفر. لقد قللت إسرائيل من أهمية التداعيات الاستراتيجية المترتبة على حرب الأنفاق، التي تشكل تهديداً منخفض التقنية [وهو تهديد يستخدم تقنية بسيطة أو تقليدية نسبياً عوضاً عن الأنظمة المتطورة]، عندما تستعمل على نطاق واسع، وبالغت في تقدير فعالية التكنولوجيا في مواجهة هذا النوع من الحرب. لقد ركزت على الجوانب التكتيكية وعلى الأنفاق التي تعبر الحدود، تاركة لـ"حماس" الحرية في تطوير قدرات تحت الأرض بأحجام غير مسبوقة.

يعد فهم هذه المفارقة درساً أساساً مستفاداً من هذه الحرب. لا يمكن للتكنولوجيا والتفوق العسكري أن يوقفا بمفردهما صيحة الأنفاق [الميل إلى الاعتماد بصورة متزايدة على بناء الأنفاق في العمليات العسكرية]. لقد فشلت التكنولوجيا في ردع تهديدات الأنفاق ومواجهتها. وفي الواقع، تدرك "حماس" تمام الإدراك أنه حتى التكنولوجيا الأكثر تطوراً المتاحة لن تكون كافية لمواجهة مثل هذه القدرات الموجودة تحت الأرض، لذا لديها ثقة عميقة في هذا التكتيك. كانت "حماس" تعلم أن شبكة الأنفاق الواسعة التي تمتلكها في غزة من شأنها أن تبطئ الرد الإسرائيلي، وتقلل من الميزة التنافسية التي تتمتع بها إسرائيل، وتحمي كبار قادة "حماس" في غزة، وتتسبب في وقوع خسائر فادحة في صفوف المدنيين. لقد أثمرت الحرب المنخفضة التقنية في غزة، وهذا النجاح سيشجع على اللجوء إلى حرب الأنفاق في كل مكان.

نسخة مبتكرة من استخدام الدروع البشرية

إن استخدام "حماس" المدنيين الإسرائيليين والأجانب كدروع بشرية يشكل ابتكاراً [تكتيكاً جديداً] مهماً ومثيراً للقلق في الصراع الدائر في غزة. وكما هو معروف، فقد احتجزت "حماس" مئات الرهائن كجزء من هجومها الضخم على إسرائيل في السابع من أكتوبر 2023، وما زال عدد منهم محتجزاً في غزة. ويشار إلى هؤلاء الأشخاص عادة على أنهم رهائن، لكن الواقع أكثر تعقيداً مما توحي به كلمة "رهينة".

أولاً، استعملت "حماس" أسلوباً مبتكراً من خلال جلب المدنيين الأبرياء إلى داخل الأنفاق كدروع بشرية، وثانياً، من خلال استخدام المدنيين من إسرائيل وغيرها من البلدان، عوضاً عن المدنيين الفلسطينيين، كدروع بشرية. في الحروب المعاصرة، يشير مصطلح الدرع البشرية إلى فكرة وضع المدنيين، الذين عادة ما يكونون من السكان المحليين [مواطنين من جنسية المجموعة العسكرية نفسها التي تستخدم هذا التكتيك]، داخل الأهداف العسكرية وحولها بهدف تحصينها من الهجوم. ومن المؤسف أن هذا التكتيك، المحظور بموجب القانون الدولي، قد ازدهر وأصبح أكثر شيوعاً في سياق حرب المدن. لقد وجدت جماعات إرهابية عدة، بما في ذلك "حماس" بصورة عامة، وفي سياق الحروب تحت الأرض خصوصاً، أنه من المفيد الاختباء خلف سكانها المدنيين، إذ إن الجيوش الغربية تلغي الضربات عندما يصبح الضرر المتوقع إلحاقه في صفوف المدنيين أكبر من المكاسب العسكرية المتوقعة. وقد أدى احتجاز المدنيين داخل الأنفاق إلى النتائج المرجوة المتمثلة في تعقيد جهود الإنقاذ، وتقييد العمليات العسكرية، وحماية الأصول العسكرية الرئيسة لـ"حماس". وفي الواقع، إن استخدام الرهائن بهذه الطريقة يعيد إحياء تكتيك الحرب الكلاسيكي القديم، ولكن المحظور، الذي كان يستعمل أسرى الحرب لحماية القوات العسكرية. خلال الحرب الأهلية الأميركية استخدم الجانبان الأسرى كدروع بشرية، وفعل الألمان الشيء نفسه مع أسرى الحرب البريطانيين في الحرب العالمية الثانية.

إن المدنيين الذين أسرتهم "حماس" واحتجزتهم بمعزل عن العالم الخارجي هم رهائن ودروع بشرية في الوقت نفسه. وهذا التكتيك المبتكر في عملية احتجاز الرهائن سمح لـ"حماس" بتحقيق أهداف سياسية وعسكرية تتجاوز هدفها المعلن المتمثل في إطلاق سراح السجناء الفلسطينيين من السجون الإسرائيلية. لقد أدى اختطاف الرهائن إلى انقسام عميق في المجتمع الإسرائيلي، ودفع الحكومة الإسرائيلية إلى ربط النصر بأهداف بعيدة المنال وغير قابلة للتسوية. ومنح "حماس" القوة على طاولة المفاوضات ودفع حلفاء إسرائيل إلى المطالبة بتنازلات مقابل إطلاق سراح الرهائن، إضافة إلى ذلك، سهل الحرب النفسية القاسية التي تشنها "حماس". ولكي تتمكن الجيوش من توقع الطريقة التي سيستخدم بها خصومها تكتيكات الحروب تحت الأرض في صراعات المستقبل، يتعين عليها أن تأخذ في الاعتبار هذه الأساليب المبتكرة التي يمكن أن تدفع الدول إلى حافة الشلل العملياتي والسياسي.

دافني ريتشموند باراك أستاذة مساعدة في كلية لودر للحكم والدبلوماسية والاستراتيجية في جامعة رايتشمان في إسرائيل. وهي باحثة في معهد الحرب الحديثة ومعهد ليبر للقانون والحرب البرية في ويست بوينت.

مترجم من فورين أفيرز، 6 يونيو، 2024

اقرأ المزيد

المزيد من آراء