Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"في الهوة" رواية بوسنية ترثي حال شباب البلقان وتلهو بالمأساة

سلادجانا نينا بيركوفيتش سلطت الضوء على نمط العيش والحالة الاقتصادية المتردية وزيادة حالات الانتحار

الكاتبة البوسنية الشابة سلادجانا نينا بيركوفيتش (مواقع التواصل الاجتماعي)

ملخص

الغاية الأولى التي هدفت الكاتبة إلى تحقيقها هي تسليط الضوء على حالة التخلف الظاهر والمبطن في بلاد البوسنة وصربيا، والتي تدفع بالأجيال الشابة إلى الهجرة الجماعية والمخيفة شطر ألمانيا. أما الغاية الثانية فهي حث جمهور القراء، ممن لا يزالون يعتمدون اللغة الصربية - الكرواتية، والتي صيغت بها الرواية المنقولة إلى الفرنسية، والصادرة في دار زولما، على قراءتها، في ما يتجاوز الحدود المرسومة بين البلدان الجارة، واللهجات المتشابهة، وفي ما يتخطى القرار السياسي الذي باعد بين اللهجات والشعوب، وجعل اللغة سبباً للحروب، بين الهويات والإثنيات والطوائف.

هي الكاتبة البوسنية الشابة سلادجانا نينا بيركوفيتش (1981) الداخلة بقوة إلى عالم الأدب والرواية، والصحافية العاملة لدى وكالات أنباء يوغسلافية وأوروبية، والحائزة جائزة الاتحاد الأوروبي للصحافة عن عام 2021، مناصفة عن مشروعها بعنوان "أخوات أوروبا".

تقول الكاتبة في إحدى مقابلاتها عن روايتها الحديثة "في الهوة" إن الحدث الرئيس في الرواية، ومنه استمد العنوان، مختلق إلا أنه رمزي ودال على واقع البلاد التي استقلت عن الاتحاد السوفياتي سابقاً، ولم تلبث أن توالت عليها الحروب. وتضيف أنها لم تتحدث، في هذه الرواية عن الحروب، وليست مستعدة للحديث عنها، وإنما هي تتحدث عما أعقبها، عن بشر لم يجدوا توازنهم بعد حروب لم تتوان عن تخريب حياة المجتمعات وتهشيم البشر فيها، عن عائلة تعيش بعد انقضاء الحرب، في مجتمع انتقالي، إذ الناس يسعون إلى مواصلة حياتهم على نحو معتاد، في حين أن الأمر ليس كذلك.

رحلة الشابة استعارة كبرى

تواصل الكاتبة الشابة سلادجانا تعليل الحبكة، بل منطلقها، إذ جعلت شخصيتها الرئيسة، وهي شابة صربية، لا اسم لها، تقود سيارتها في رحلة من دون وجهة محددة، فإذا بها تقع في حفرة، وتتسخ ثيابها، وينفذ الوحل إلى داخل سيارتها، حتى يغدو من العسير عليها الخروج منها. وتقول بما معناه، "لو حسبنا أن هذه الرحلة حاصلة في أميركا، حيث الطرقات واسعة، ومبنية، ومهندسة على أحسن ما يرام، لما كانت شهدت نهاية كتلك الماثلة في الرواية، ذلك أن بلادنا (البوسنة) ليست جميلة، ومن الطبيعي أن نسقط في الهوة. وبناء على ذلك، يمكن اعتبار الهوة، أو الحفرة، صورة مجازية وترمز إلى حال شباب البوسنة في أدنى مكانة".

والحال أن الكاتبة حملت شخصيتها، أو بطلتها السلبية تلك، رؤية للواقع أقل ما يقال فيها إنها متشائمة، فحين تعد الشابة أنه لا مستقبل لها في بلادها، وأنه لا دور خاصاً تؤديه لمصلحة نفسها ومجتمعها، وأنها لم تجد حافزاً لإكمال دراساتها الجامعية، ولا طاقة لها للتمرد على عائلتها، والثورة على وضعها، والعمل على تغيير حالها، ومن حولها، فإن ذلك يعني، بمنظور الكاتبة الفكري، أن الشباب البوسني واليوغسلافي بعامة، لا يرى خيراً يرجى من بلاده، بعد الحروب التي نهشتها، وأنه لا قدرة لهم على التغيير، ولا يقوون على بناء مستقبل لهم في بلادهم، لذلك نراهم يتعلمون ومن ثم يرحلون شطر ألمانيا، أو غيرها من بلدان أوروبية، ولا يعودون إلى بلادهم لقضاء إجازاتهم السنوية فيها.

أحداث متلاحقة واندثار عالم

تتشكل الرواية، إذاً من عقد متواصلة أشبه ما يكون بعقد سبحة طويلة هي أحداث تقع في الإطار المكاني نفسه، إذ الراوية الـ"بلا اسم"، أعني في إحدى القرى بالريف البوسني، وفي الزمن القريب، أي في أوائل العشرينيات من القرن الـ20، وبعد انقضاء الحروب (1991-2001) التي وقعت غداة سقوط الاتحاد السوفياتي، وتفكك الدولة اليوغسلافية، إلى جمهوريات متناحرة تاريخياً (البوسنة والهرسك وكرواتيا وصربيا، وألبانيا). وهذه الأحداث تتوالى في الرواية، وتحكم الراوية الشابة، المجهولة الاسم، سردها وربطها، بعضها بعضاً، فمن واقعة قيادة ابن عمها ستوجان لدراجته النارية على نحو متهور، وإحكامه المكابح بشدة وجداله الناري مع الشرطي، إلى الحديث عن زوج فار من الخدمة العسكرية يستوقفه موت امرأته، إلى سرد حادثة سرقة مخطط لها جماعياً، في خلال وضع المرأة المتوفاة في التابوت، وتليها حادثة انتحار، ودخول كاهنة ممسوسة، فإلى حادثة الحساء المسمم، وانتقالاً إلى حادثة الخصام العنيف حول الميراث الذي من أجله كلفت الأم (أم الراوية) ابنتها المجيء إلى القرية، وحضور جنازة خالتها المتوفاة، لضمان حيازتها على نصيبها منه، بعد حصول بيع الأملاك.

*الراوية الـ"بلا اسم"

وهذا كله ترويه الشابة التي لا نعرف بعد اسمها الأول، وببراعة وفكاهة وتلميحات تنفذ إلى العمق، وتبلغ لب المأساة، لكن من سبيل التهكم والمزاح، الذي تدافع عنه الكاتبة، في مقابلة لها، حين قالت إن المزاح، هنا، لا يعدو كونه وسيلة دفاع عزيزة للبقاء على قيد الحياة. ولولاه، لولا المزاح لمات كل البوسنيين والصرب، كمداً وضيقاً وأسى على الحال المزرية التي بلغتها العامة، والطبقات الفقيرة. أما طبقة حديثي النعمة التي أثرت، بحسب الكاتبة سلادجانا نينا بيركوفيتش، بفضل حيازتها أدوات السيطرة المافياوية، فهي تحيا وحدها متنعمة، ويقتني أفرادها السيارات الفارهة، على آخر طراز.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الراوية الشابة إذاً، والتي يجهل القراء اسمها، كناية عن مجهولية النساء المعانيات واللاتي يساء تقديرهن في البلاد على رغم مراتبهن العلمية والمهنية، هذه الراوية يتاح للقراء التعرف إلى بعض ملامح شخصيتها، فهي مخيبة في حبها، إذ مضت ثلاث سنوات على مغادرة صديقها لها إلى أستراليا، من دون أن يراسلها أو يتصل بها. وها هي، منذئذٍ لا تبدي أية رغبة في القيام بأي عمل، سوى التمدد في السرير، ومشاهدة المسلسلات البوليسية. وقد أصاب جهازها العصبي نوع من الخمول بلغ بها حد البلادة التامة. إلى أن عاودتها الحماسة لما خضعت لابتزاز والدتها التي عزمت على إرسالها بديلاً منها لحضور جنازة خالتها ستانا، التي توفيت اختناقاً بسبب قطعة من لحم الدجاج علقت في حلقومها، ثم من أجل أن تعود الابنة بحصة والدتها من المال الذي أعطي للعائلة ثمناً لمنزل الأهل المبيع، وقد تقرر هدمه لإقامة بناء "إثني - قروي"، يكون بمثابة واحة سياحية غناء، تشيع السلام والأمان والسعادة في ما حولها.

شخصيات وأضواء على مجتمع

تسلط رواية "في الهوة" على رغم صغر حجمها نسبياً (268) صفحة، أضواء ساطعة على نماذج من المجتمع البوسني - الصربي دالة على نمط العيش، والحالة الاقتصادية، وغيرها. فعلى سبيل المثال، تصور لنا الكاتبة شخصياتها، في الريف، يتجادلون، ويلعبون اليانصيب مرات كثيرة إلى أن يستذكرهم الحظ مرة واحدة. على أن نسبة البطالة مرتفعة للغاية في البلاد، في حين أن رجال المافيات يزدادون ثراءً على حساب الصناعة الوطنية. أما الفساد المستشري والشبهات التي تحوم على كثير من جوانب الاقتصاد فتسممان العلاقات بين البشر، وتخلقان جواً من انعدام الثقة بين كل الناس. حتى إن والدة الراوية المهتمة بتجديد شقة العائلة، لم تكن لتأمن قيام العمال بما يلزم من دون رقابتها. وها هو ابن عمها ستوجان، وهو السائق على متن سيارته الغولف الصغيرة، يعتريه الغضب لتجاوز أحد حديثي النعمة له بسيارته الفارهة، على أحدث طراز، فيهتف بأعلى صوته "لماذا تراني ناضلت، في سبيل من؟ ووضعت دمي على كفي دفاعاً عن بلادي؟ أمن أجل أن أقتل على يد حقيرين من ركاب الجيب؟". ثم إن الانتحار دق أبواب، نتيجة للأزمة الاقتصادية التي عمت شرائح واسعة من الشعب الصربي، على ما تصف الكاتبة. وإذ تنقل بصرها، وتلمح المستشفيات المتهالكة والمكتظة، تجد المرضى والجرحى ينتظرون بلا طائل أن ينتهي إضراب ممرضي التخدير ليخلصوا أو يتلاشوا. وقس على ذلك حال المهلوسين والمجانين الذين تركوا لحالهم في البراري، لفقدان الرعاية لهم، وانتفاء المال والقرارات الصائبة لحصول تلك الرعاية.

وبعد، ألا يذكر حال هذه البلاد الموصوفة بأحوال بلدان نعرفها، ونحيا فيها؟

الرجال/ النساء

لا تخفي الكاتبة سلادجانا نينا بيركوفيتش إيثارها قضايا المرأة، والإضاءة على مظلوميتها في بلدان البلقان، الخارجة لثلاثة عقود من الستار الحديدي للاتحاد السوفياتي، ومن إسار التقاليد الاشتراكية في بلدان يوغسلافيا السابقة والتي كثيراً ما غطت على موازين قوى في المجتمع البوسني - الصربي لم تكن، بأية حال، لمصلحة النساء. الرواية، إذاً، تتسع للكلام على كل من الرجال، والنساء، وعلى العلاقة التي تقوم بين الجنسين، وبقدر من الإيجاز والتهكم المرير، والمزاح. تقول الكاتبة إن الرجال يشيخون على نحو أسوأ بكثير مما يحدث عند النساء. وتضيف إلى ذلك، قائلة إن النساء أقدر من الرجال على الملمات، إذ كلما قست الحياة عليهن، ازددن صلابة ونضالاً وتحدياً للصعوبات، "وفي حين يصاب الرجال بالإحباط عند كل مصيبة، على ما تقول أمي، ويتراخون كما ترتخي تكة اللباس الداخلي الرجالي العتيق، تنهض النساء بأكثر المهام مسؤولية وخطراً. ولا يأتي الرجال شيئاً سوى التحدث في السياسة، ومشاهدة أخبار الرياضة، والأخبار المتلفزة، وحسبان العمر الذي كانوا عليه حين دمرت الحرب حياتهم".

أما النساء، وفقاً لمنظور الرواية والكاتبة بيركوفيتش، فهن القويات، المناضلات في كل الحقول، والخاسرات في معادلة السلطة. تقول الكاتبة إن جدتها بدورها انخرطت في الجيش لمحاربة الفاشية، وهي لما تزل فتية. كما أن والدتها محامية، ولا تزال تمارس مهنتها إلى حينه. ومع ذلك، وعلى رغم كل المراتب المحترمة التي نالتها النساء بجهودهن الجبارة، ما زلن محكومات بأن يعهد لهن بالأعمال المنزلية دون غيرها، مثل أعمال المطبخ، والغسيل، والجلي، وتربية الأطفال.

وتذهب الكاتبة بعيداً، حين تنبه من عودة تيارات التشدد الديني إلى الفضاء الاعتقادي والفكري في أوروبا، والتي قد تحفز بدورها على ارتكاب الجرائم بحق النساء في البلاد. وقد يمضي البعض إلى اتهام التيار النسوي بتحريض النساء على المطالبة بحقوقهن، وبمزيد من الحريات والمكاسب لهن، وبأنه هو المسؤول عن تدمير القيم العائلية التي كثيراً ما اعتبرت أساس العائلة. على أنه ما من رد أبلغ على مسار التردي العائد بنذره، سوى أن تجسد الكاتبة آراءها في الأدب، وأن تزداد، هي والنساء الأخريات في بلاد البلقان وأوروبا، إبداعاً وتألقاً في الميادين التي أفلحن في تبوؤ مراكز القرار فيها.

غايتا الرواية "في الهوة"

لا يخفى أن الغاية الأولى التي هدفت الكاتبة إلى تحقيقها هي تسليط الضوء على حالة التخلف الظاهر والمبطن في بلاد البوسنة وصربيا، والتي تدفع بالأجيال الشابة إلى الهجرة الجماعية والمخيفة شطر ألمانيا. أما الغاية الثانية فهي حث جمهور القراء، ممن لا يزالون يعتمدون اللغة الصربية - الكرواتية، والتي صيغت بها الرواية المنقولة إلى الفرنسية، والصادرة في دار زولما، على قراءتها، في ما يتجاوز الحدود المرسومة بين البلدان الجارة، واللهجات المتشابهة، وفي ما يتخطى القرار السياسي الذي باعد بين اللهجات والشعوب، وجعل اللغة سبباً للحروب، بين الهويات والإثنيات والطوائف. وفي هذا تختم الكاتبة سلادجانا نينا بيركوفيتش قائلة "في الحقيقة إننا نصغي إلى الموسيقى نفسها، وننظر إلى الأفلام نفسها، ونتحدث اللغة نفسها" فما الداعي إلى الحروب؟

وتجدر الإشارة إلى أن الرواية "في الهوة" المترجمة إلى الفرنسية، ليست باكورة أعمال الكاتبة، فقد سبقتها مجموعة قصصية بعنوان "المطبخ"، ورواية أخرى بعنوان "أو ياركو".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة