Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

المونة اللبنانية تراث ممتع و"بركة" في المنزل

يتمسك كثيرون حتى اليوم بتقاليد تحضيرها الموروثة من الأجداد

يتطلب تحضير المونة جهداً لكن في ذلك متعة خاصة لمن تمسك بهذه العادة (اندبندنت عربية)

ملخص

التوسع في مجال تحضير المونة اللبنانية حصل خصوصاً في فترة الأزمة، وأكثر، مع انتشار وباء كورونا. فكان من الممكن الاستمتاع في تحضير المونة، والاستفادة، في الوقت نفسه، من الناحية المادية، ما سمح برواج هذا النوع من المنتجات في وقت لاحق أكثر.

يعد تحضير المونة الشتوية من أقدم العادات والتقاليد المتوارثة في لبنان، إذ أصبحت تشكل جزءاً من التراث اللبناني على رغم ارتباطها أولاً بالحاجة ليس إلا، إذ اعتاد القرويون قديماً على تحضيرها في أواخر الصيف لتأمين كل ما قد يحتاجون إليه في موسم البرد لعدم توافره فيه، وهم يحضرونها من محاصيل أراضيهم الطازجة، شيئاً فشيئاً تحول هذا الفولكلور ليتخطى إطار الحاجة لدى القرويين اللبنانيين، وأصبحت في اجتماع من يحضرون المونة لذة ومتعة صعبة الوصف. وخلال الأزمة الاقتصادية في البلاد، تمسك كثيرون بهذه العادة المتوارثة عبر الأجيال، خصوصاً في القرى، إلا أن مأكولات القرية انتقلت إلى المدينة ولاقت عادة تحضير المونة رواجاً أكبر بعد أن وجد فيها كثيرون مصدر رزق يمكن الاعتماد عليه في الظروف المعيشية الصعبة، إذ وجدوا في ذلك مجالاً للاستفادة مادياً من المنتجات الطبيعية التي تنتجها أراضيهم، إضافة إلى من استمروا بتحضير المونة الشتوية كعادة موروثة لتحقيق الاكتفاء الذاتي. واليوم، على رغم توافر كل المواد الغذائية بكثرة في الأسواق، يتمسك كثر بهذه العادة فيصفونها بـ"البركة" في المنزل.

 

بين المتعة والحاجة

وبالنسبة إلى من يحرصون على تحضير المونة البلدية، لا تطرح فكرة الاستغناء عن هذه العادة. ففي التحضير لذة تعيدهم إلى زمن الأجداد، إضافة إلى أنها تؤمن كفايتهم من الأطعمة البلدية والمكونات التي يحتاجون إليها في غذائهم اليومي طوال العام من دون أي مواد حافظة، فإذا بهم يرفضون تناول أي أطعمة متوافرة في الأسواق أو لم تصنعها أيديهم، ولو كان شراؤها أسهل لهم.

وبالنسبة للسيدة سعاد فإن عملية تحضير المونة هواية لا تتخلى عنها، وفي ذلك عشق ولذة لا تضاهى. وهي عادة ورثتها من جدها وجدتها في الطفولة وتمسكت بها إلى اليوم، فتحرص على تحضير كفايتها من المونة الشتوية، إضافة إلى تلك التي يحتاج إليها أبناؤها الثلاثة في الاغتراب مع عائلاتهم، وحرصها الشديد على التفاصيل وشغفها في تحضير المونة، خير دليل على المذاق الذي لا يقاوم في ما تحضره من أطايب قروية، ولكثرة الطلب على منتجاتها اللذيذة، توسعت بصورة محدودة في بيع بعضها إلى صديقات لها وأفراد العائلة بعد أن تذوقوها.

ويظهر هذا الشغف أيضاً في وصفها خطوات التحضير، بدءاً من "الكشك" البلدي (منتج مكون من البرغل واللبن)، فتتحدث باندفاع عن خطوات تحضيره وصولاً إلى المرحلة النهائية للحصول على طبق "الكشك" الشتوي الدافئ للشتاء "اعتدنا من الطفولة على تحضير المونة لأن ما نحتاج إليه لم يكن متوافراً في الأسواق كما الآن، لكن لم نستطع بعدها التخلي عن هذه العادة بغض النظر عن الحاجة، وعلى رغم توافر كثير من المنتجات البلدية في الأسواق، فإنه مع تحضير المونة أكون مرتاحة البال طوال أيام السنة، ولن أهرع حكماً في أحد الأيام إلى السوق لحاجتي إلى أحد المكونات. وبتحضيري المونة الخاصة بي، أعرف جيداً ما أستخدمه من مكونات طازجة من الأرض لا تحوي مواد كيماوية، من دون أن ننسى اللذة في التحضير، فيفرحنا أن نأكل ما حضرناه بأيدينا، وأن نقدم هذه الأطايب إلى الآخرين ليتذوقوها ويقدروا مذاقها اللذيذ. نشعر بالفخر عندما يعبر من يتذوقها عن إعجابه بها".

 

الخضراوات بأنواعها، والمربيات، وماء الزهر، وماء الورد، وشراب العطر، وصلصة البيتزا، والكاتشاب وغيرها من الأصناف تكون حاضرة لدى السيدة سعاد طوال أيام العام لعائلتها ولأبنائها الذين يأخذونها معهم للسفر. أما الملوخية، فتحضرها على طريقتها الخاصة التي تعلمتها من والدتها، فلا تضع الملوخية في الشمس لتصبح يابسة كما جرت العادة، بل تغليها بالماء الساخن والحامض لتحافظ على مذاقها الطازج وعلى لونها الأخضر، ثم تعصرها جيداً وتضعها في أكياس خاصة تقفل بإحكام في الثلاجة، لتطهو منها عند الحاجة وتحصل على ألذ طبق من الملوخية.

ولها أيضاً طريقة خاصة في تحضير مختلف مشتقات التوت من توت مجفف، وشراب التوت، ومربى التوت بشكل لا تجعل أي قطعة من التوت الطازج الذي لديها تذهب سدى في تحضير كل هذه الأطايب. فبعد تحضير المربى وشراب التوت عبر الغلي مع السكر لمدة 20 دقيقة، تجفف ما تبقى منه في الشمس للحصول على التوت المجفف الذي تصفه بألذ ما يمكن تناوله كتحلية.

ولكل من أصناف المونة التي تحضرها وقتها، فيحضر ماء الزهر مثلاً في أبريل (نيسان)، وتحضر ماء الورد في مايو (أيار)، أما المربيات فلكل من أنواعها فترة محددة لتحضيرها بحسب موسمها، فتحضر مربى المشمش في يونيو (حزيران)، كما يتوافر الفراولة في حديقتها طوال أيام السنة.

وبعد تشجيع من صديقاتها اللاتي تذوقن منتجاتها، تبيع بعضها في محل لزوجها، لكنها حريصة على عدم التوسع في المجال. ويتركز اهتمامها على تأمين الاكتفاء الذاتي مع حرصها على بيع بعض الأصناف لصديقاتها وأفراد العائلة بناء على طلبهم، كما قد تهدي بعض منتجاتها.

ولا تنكر سعاد أن المنافسة عالية بسبب كثرة منتجات المونة البلدية التي لا تتسم كلها بالجودة، فيما يصعب على الناس تقدير أفضلها. والأسوأ أن بعضها متوافر بأرخص الأسعار بغض النظر عن جودتها، في وقت كلفة تحضير المنتجات البلدية الطازجة أعلى بكثير لو حضرت وفق الأصول. على سبيل المثال، يتطلب صنع "دبس الرمان" كثيراً من الجهد والوقت، فيما هو متوافر بأرخص الأسعار في الأسواق، وبمذاق دون المستوى. فتحضيره يتطلب أسبوعاً، وثمة حاجة إلى 35 كيلوغراماً من الرمان لصنع ليتر ونصف الليتر من "دبس الرمان" مما يفسر ثمنه المرتفع عندما يحضر بالطريقة الصحيحة.

المرأة العاملة تحضر المونة أيضاً

قد يبدو أن ربات البيوت وحدهن يحضرن المونة الشتوية لتفرغهن لمثل هذا العمل. صحيح أنهن يشكلن الأكثرية، إنما في الواقع، يبدو أن حتى النساء العاملات يعجزن عن مقاومة هذا الشغف، فمنهن من يحرصن على تحضير المونة في أوقاتها بعد الانتهاء من دوام العمل.

هذا ما تؤكده السيدة ليلى رزق بالإشارة إلى أنها كانت دوماً حريصة على تحضير مختلف أصناف المونة لأنها "بركة" في المنزل، وهي لا تعمل ما يسمح لها بالتفرغ لذلك. في المقابل، تتمسك زوجة أخيها بهذه العادة، على رغم أنها تعمل حتى ساعة متأخرة في اليوم، فتتعاون مع زوجها على تحضير مختلف أصناف المونة البلدية، وورثت ليلى عادة تحضير المونة من أمها. وهي تحضر الزعتر المطحون، والسماق، والكشك، والحصرم، والصلصات والمربيات بأنواعها، والمخللات. ولأن ظروفاً خاصة منعتها من تحضير الكشك في هذا الموسم، حرصت على شرائه من إحدى المقربات التي لها ثقة بجودة الكشك الذي تحضره "لم أشترِ مرة من الأسواق أياً من الأصناف لأني لا أتقبل مذاقها، وأنا معتادة على تلك المحضرة منزلياً والموجودة لدى بكميات وافرة طوال العام. يكفيني النظر إلى المربيات التي أحضرها لأشعر بالرضى. لكن، إضافة إلى اللذة التي أجدها في التحضير في الأوقات المخصصة لذلك، يهمني تأمين ما يكفي للعام، ولا أسعى إلى الاستفادة بالبيع. في الجبل حيث المساحة مريحة للعمل، أحضر مع شقيقاتي البندورة المقطعة، ومنها ما أحضره كمونة للصلصات، عندما تصبح أرخص ثمناً. كما أن اليوم هو موسم الحصرم (عصير العنب الحامض) الذي أحضره، والمشمش للمربى. أصبحت عادة في عائلتنا لا يمكن التخلي عنها، ونستمتع بالعمل معاً لتحضير المونة من دون الشعور بأي تعب".

 

ولتحضير كل من أصناف المونة أصول باتت السيدة ليلى خبيرة بها. وحالياً، ساعد وجود وسائل متطورة في تسهيل عملية تحضير المونة بالنسبة لها بوجود الآلات للطحن مثلاً بدلاً من الطحن اليدوي. ووجود مثل هذه الوسائل ساعد على انتشار أكبر لعملية تحضير المونة فلم يعد العمل صعباً. لذلك، الكل يفضل تحضير المونة وتناول الأطعمة المحضرة منزلياً ويدوياً لتتوافر الأصناف بكميات وافرة طوال العام. من جهة أخرى، يبدو تحضير المونة مسبقاً من الأمور التي تسهل حياة المرأة العاملة في نمط حياتها السريع. فبهذه الطريقة، يصبح الطهو أسهل لأن المكونات تكون حاضرة مسبقاً، مما يسمح بإنجاز الطبق في دقائق معدودة.

رائحة المونة أشهى من مذاقها

وترعرعت السيدة رولا حنا في الجبل أيضاً، إذ حرصت العائلة على تحضير المونة البلدية في موسمها، فلم تعتد أبداً على شراء أي من الأصناف من الأسواق على رغم كثرتها لأنها تحضر مسبقاً ما يكفي عائلتها، ويشهد الكل على المذاق اللذيذ. وبعد زواجها، تمضي فصل الصيف في الجبل إذ يميل الكل أيضاً إلى الاستفادة مما تعطيه الطبيعة لتحضير المونة من المكونات الطازجة. لذلك، تستمتع بأوقات تحضير المونة ولا تشعر بأي تعب "في بعض الأيام، عندما نحضر كميات كبيرة، نستمتع بالاجتماع معاً من نساء البلدة لتحضير المونة، تكون هذه لحظات ممتعة لا تنسى. فلأن الطلب يزيد على المونة، قد أزيد أحياناً الكمية لما يزيد على حاجتنا الخاصة مثل الكشك والحصرم الذي يزيد الطلب عليه لمذاقه اللذيذ".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وللسيدة رولا ابنتان اعتادتا على تناول الأطعمة المحضرة في المنزل حصراً، حتى إن أصغرهما تساعدها في كل خطوة في تحضير المونة، وتمضيان لحظات رائعة في ذلك. فتساعدها في تحضير الملوخية، والكشك، والذرة. علماً أنها تحضر الذرة الطازجة كمونة تجنباً لتناول تلك المعلبة غير الصحية. ومن الأصناف التي تحضرها أيضاً شراب التوت الذي يطلبه كثر بسبب فوائده الصحية الكثيرة. وأيضاً مربى المشمش، ومربى التوت الذي يزيد عليهما الطلب. كما تحضر البندورة المجففة ذات المذاق الذي لا يقاوم، والكشك وصلصة البندورة وخل التفاح وغيرها من المنتجات البلدية. واعتادت السيدة رولا أن تبيع بعضاً من منتجاتها إلى المقربين الذين يقدرون جودتها ويترقبونها، خصوصاً أن محال المونة البلدية صارت كثيرة والمنافسة كبرى في هذا المجال في الأسواق. وقد لاحظت بصورة واضحة أن الكل يتجه في الأعوام الأخيرة إلى كل ما هو محضر منزلياً، بدلاً من تناول الأصناف التجارية المتوافرة في الأسواق، خصوصاً بالنسبة للمسافرين الذين يفضلون أن يأخذوا معهم تلك الأطعمة من المونة اللبنانية.

من الاكتفاء الذاتي إلى التجارة

أما عائلة سمعان فمن العائلات التي قررت التوسع في مجال تحضير المونة، فأسست شركة لإنتاج المونة البلدية، كما تلك الكثيرة المنتشرة في البلاد منذ بداية الأزمة الاقتصادية. وبالنسبة للعائلة، كانت البداية مع عادة موروثة من الأهل، كما بالنسبة إلى اللبنانيين كافة، خصوصاً أهل القرى. فمن الطفولة، اعتادت العائلة أن تجتمع حول تحضيرات المونة الشتوية، إلى أن قرر أفرادها تطويرها والتوسع فيها لتقديم أصناف جديدة بجودة عالية من منتجات أرضهم في القرية "كان من الضروري تقديم الأصناف الجديدة والمميزة لأن المنافسة عالية، إضافة إلى الأصناف التقليدية المصنوعة من مكونات طبيعية وطازجة. وساعدتنا الآلات حتى نتوسع، سواء في تحضير الكشك أو السماق أو الزعتر. كما نحضر كل أنواع المربيات، مع لائحة طويلة من المنتجات البلدية التي زاد الطلب عليها في السنوات الأخيرة. فكثيرات من السيدات يفضلن شراء هذا النوع من المنتجات، فيما تفضل أخريات، خصوصاً في القرية، تحضيرها في منازلهن لتأمينها بكميات كافية".

فالتوسع في مجال تحضير المونة اللبنانية حصل خصوصاً في فترة الأزمة، وأكثر، مع انتشار وباء كورونا. فكان من الممكن الاستمتاع في تحضير المونة، والاستفادة، في الوقت نفسه، من الناحية المادية، ما سمح برواج هذا النوع من المنتجات في وقت لاحق أكثر. وبات كثر يملكون خبرة في هذه العادة المتوارثة أصلاً عبر الأجيال. وأصبحت المونة المحضرة منزلياً مفضلة بالمقارنة مع تلك المتوافرة في الأسواق، خصوصاً في القرى حيث تزرع في الأرض من دون مواد كيماوية ولا تضاف إليها أي مواد حافظة، لكن على رغم توافرها بكثرة في الأسواق، حافظ كثر على عادة تحضير المونة البلدية بأيديهم، على طريقتهم، بكميات تكفيهم طوال أيام السنة.

المزيد من تحقيقات ومطولات