Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

علاء الأسواني يستعيد الجو الكوزموبوليتي في الستينات

"الأشجار تمشي في الإسكندرية" رواية التحولات التي شهدتها المدينة المتوسطية في الستينيات

الإسكندرية المدينة الكوسموبوليتية في الستينيات (وزارة السياحة)

ملخص

"الأشجار تمشي في الإسكندرية" رواية جديدة للكاتب المصري علاء الأسواني يسرد فيها التحولات الشاملة التي شهدتها مدينة الإسكندرية، راصداً الأحداث الرئيسة مثل تأميم الشركات والمؤسسات المصرفية وقناة السويس والعدوان الثلاثي... ويتطرق الى الفئات المصرية ذات الجذور الأجنبية.

 لا يمكن اختزال كاتب أياً يكن، ببعض صفاته، وعلاء الأسواني طبيب وروائي مصري (1957) بلغت شهرته الآفاق البعيدة، وترجمت أعماله إلى أكثر من 37 لغة، ها هو يفتتح عالماً جديداً، أعني رواية جديدة، ما دام الصنيع الروائي يقتضي بناء شبه عالم متكامل، على ما يقول الفيلسوف الفرنسي بول ريكور (1913-2005)، لدى مقاربته تفسير النص السردي بعامة، والرواية بخاصة. والرواية الصادرة حديثاً عن دار نوفل، بيروت (2024)، بعنوان "الأشجار تمشي في الإسكندرية"، والمقتبس بعضه من حكاية "زرقاء اليمامة"، امرأة في الجاهلية كانت مشهورة بحدة البصر، والتي سبق لها أن أنذرت قومها بأن حسان بن تبع الحميري قادم إليهم، مع جنوده ليغزوهم، متسترين بالشجر، فلم يصدقوها، واتهموها بالخرف، إلى أن بلغهم حسان وأوقع بهم، فصحت رؤية "زرقاء اليمامة" وحدة بصرها. والأرجح أن الكاتب أراد أن يجعل هذا العنوان كناية عن تنبيه فائت للجماعة، أو لمن يعنيهم الأمر، بأن عدواً قادماً لا محالة، وهو هنا التخلف والتشدد والقهر، محمولاً على محفة العسكر، أو "الإخوان"، وهو على قاب قوسين أو أدنى من احتلال قلب مدينة الإشراق والجمال والتعدد الإثني والحداثة عنيت بها الإسكندرية.

يبدأ الكاتب الأسواني روايته عن مدينة الإسكندرية، بل عن تجربة فئة من المجتمع الإسكندراني، نتحدث عنها لاحقاً، بتأريخ المباشرة بسرد أحداث روايته في الـ10 من سبتمبر (أيلول) عام 1964، أي بعد أن شهدت البلاد تحولات سياسية عميقة في السياسة المصرية، ولا سيما بعد تولي جمال عبدالناصر رئاسة الجمهورية المصرية (1954)، ورئاسة مجلس الوزراء، وبعد أن أصدر قانوناً عام 1961، يؤمم فيه جميع الشركات والمؤسسات المصرفية وتأميمه قناة السويس عام 1956، وحصول العدوان الثلاثي (فرنسا وإنجلترا وإسرائيل) على مصر.

لماذا الإسكندرية؟

أما اختياره مدينة الإسكندرية المصرية إطاراً مكانياً رحباً لأحداث الرواية، فمنسجم مع رؤيته وطرحه الذي يعمل على بلورته، في متن الرواية، ومفاده أن المدينة المتوسطية العريقة، والقديمة، كثيراً ما اكتسبت مكانتها بين المدن، بفضل انفتاحها، ومشاركة أفرادها وجماعاتها ومكوناتها العرقية والدينية والثقافية في نمائها وتشكيل حاضرها ومستقبلها، وبغض النظر عن طبيعة النظام السياسي الذي يفرض على المواطنين أو يحصل برضاهم. والواقع أن الكاتب علاء الأسواني، إذ يختار مدينة الإسكندرية، وفي تلك الحقبة الزمنية المشار إليها أعلاه، إنما ليسلط الضوء على المظالم التي ارتكبها النظام الناصري، بل نظام ثورة الاتحاد الاشتراكي في حق جماعات المصريين من أصول أوروبية (إيطالية وفرنسية ويونانية) وشرقية (أرمنية وألبانية وشامية، وغيرها)، ممن كانوا قد أحبوا العيش في المدينة، وانتظموا في مختلف مسارات تحديثها، حتى غدت مدينة على الطراز الغربي، كما ارتضاها حكام مصر، من محمد علي إلى الملك فؤاد الأول، آخر العهد الملكي في مصر. وقد تكون الرواية ذات المدى الواسع نسبياً (438 صفحة)، مجالاً متاحاً للمؤلف من أجل معرفة "الجزء المجهول من الوجود"، باعتبار أن المعرفة، بحسب هرمان بروخ هي الدرس الأخلاقي الوحيد للرواية، وفق ما نقله الكاتب التشيكي ميلان كونديرا، في كتابه "فن الرواية". إذاً، تطمح الرواية، عند الأسواني، إلى الكشف عن الحقائق الإنسانية التي أغفلتها السياسة، وطوتها السجلات الرسمية المصرية، وأدرجتها العامة في دهاليز النسيان، حقائق وآلام فئة كان لها دور في ألق مدينة الإسكندرية، وفي إشعاعها المتوسطي، وفي رسم إطار لاهٍ لأفرادها، يكون حافزاً لإبداعهم، وشرطاً لنجاحهم ونجاح مؤسساتهم، ونماء مجتمعاتهم.

الشخصيات العينة

وبناءً على هذا يختار الكاتب علاء الأسواني فئة من المجتمع المصري، هي فئة المصريين من أصول أجنبية، سبق الكلام عليهم، ومن هؤلاء توني كازان وأخوه فيليب، من أصول يونانية، كان والدهما ديمتري قد أنشأ مصنعاً للقطن في المدينة، أوائل القرن الـ20، وفي حين تابع فيليب عمل الوالد في المصنع، اختار توني أن ينشى له مصنعاً للشوكولا في الإسكندرية، وينجح في جعله مفخرة للإنتاج الوطني المصري، بعد سنوات من الدراسة والخبرة والإنفاق على أحدث الآلات من الغرب. وإلى عائلة كازان، يتوالى ظهور شانتال لوميتر، الفرنسية الأصل، والمسؤولة عن المركز الثقافي الفرنسي في المدينة، وعن المكتبة الفرنكوفونية العامرة فيه. كما نلمح نهى الشواربي المرشدة السياحية، وأنس الصيرفي الفنان الشهير والمنشغل برسم البورتريه في شوارع المدينة، وليدا آرتينوس الأرمنية الأصل، ومديرة أشهر مطعم في المدينة، بل في البلاد، مطعم "آرتينوس". كما يتوالى ظهور شخص يدعى كارلو ساباتيني، إيطالي الأصل، وهو الشيف المشرف على الندل في مطعم آرتينوس، وأمه مارتا ذات الهوس في لعب البوكر، بعد انهيار زواجها. وقد اتفق جميع المذكورين أعلاه على الانخراط حبيا، بمثل ما يجري في النوادي، في هيئة سموها الكوكاس، وفيها يتداولون شؤونهم اليومية، ويلعبون البوكر، ويدلون بآرائهم في كل حدث بارز، ولا سيما القرارات التي شرع قائد الثورة جمال عبدالناصر في اتخاذها، وتكليف قوى الأمن تنفيذها، من ضباط في الجيش والأمن، وعدد من المخبرين، ممن وعدوا بمراكز وازنة في الإدارة، وبحوافز لا تقاوم، بتنفيذها، بغض النظر عن الأضرار الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية الفادحة التي كان يمكن أن تنجم عن إجراءات التعميم وملاحقة "أعداء الشعب"، وزجهم في السجون.

وفي الجهة المقابلة، ثمة فئة من العامة اختارها الكاتب علاء الأسواني لتكون عوناً لأحد الرجال والنساء المذكورين أعلاه، من دون مصلحة، أو بقصد الخدمة المتبادلة، شأن نعمت، الفتاة الفقيرة والهاربة من قسوة زوج أمها، والقاصدة تعلم الرقص لتكسب عيشها، في كباريه الأنغلو الشهير، يلاقيها الشاب الرياضي عدلي الأسود، اللقيط وحارس الكباريه، إذ تعمل، وموزع حشيشة الكيف على طالبي "الانسجام والسلام النفسي" (ص:229)، على حد قول الفنان أنس، من دون أن يدمن عليها. وكان سبق للشاب عدلي أن رد الظلم عن امرأة أرملة رفض أحد المتجبرين من ذوي الخوات أن يسلمها المحل المخصص بها، فلقنه درساً لن ينساه.

وفي الضد من هاتين الفئتين، رسم الكاتب الأسواني سمات شخصيات عديدة لها صلة بالحكم الناصري، من مثل الضباط في الجيش المصري، أمثال العقيد سليم وبدوي ورجال الاستخبارات، ومدير أمن الإسكندرية، وجليل عضو الاتحاد الاشتراكي وكاتب التقارير في حق "أعداء الثورة والشعب"، والعقيد كامل رافعي، وآخرين.

مضبطة لديكتاتورية ناصر

قبل الكلام على المضبطة الاتهامية التي شكلتها رواية علاء الأسواني "الأشجار تمشي في الإسكندرية" ضد ديكتاتورية عبدالناصر، نشير إلى أن الكاتب أفلح في محاكاة حيوية الأفراد الذين تتشكل المدينة منهم، أية مدينة، إذ أتاح لنا التعرف إلى قصة كل فرد من الجماعة المقصودة بالمرافعة، أي جماعة الكوكاس، وإلى شكل انتمائه إلى مدينة الإسكندرية، ومصر من دون سواها. وعلى هذا شكلت الرواية، كما المدينة، ائتلافاً للقصص والمغامرات، تتقاطع حينا، وتنفرد حيناً آخر، ويشق سردها سبيلاً ذاتياً دالاً على خصوصية الذات وحاملاً معناه في الوجود، بعيداً من العائلة والعشيرة والأصل، حيناً آخر.

أما أولى علامات ديكتاتورية عبدالناصر التي يستعيدها الكاتب الأسواني، بعد انقضاء ثلاثة أرباع القرن على تلك التجربة السياسية، فماثل في محاولة القضاء على أشكال من التعبير الاجتماعي غير تقليدية، شأن منع أحد الضباط جماعة من الشبان، في شاطئ المعمورة من إجراء مسابقة لأجمل صاحب عينين! وتلا ذلك نوع من الخوف المتصاعد من المس بصور قائد الثورة الجديد، ورئيس الجمهورية جمال عبدالناصر، وإدراك أصحاب المصالح، ومنهم توني كازان صاحب مصنع الشوكولاتة، بأنهم ملزمون وضع صورة على جدار مكتب الإدارة، توكيداً على وطنيته المصرية التي أفنى أكثر من جيل حياته في سبيلها، حتى كاد يغفل أصله اليوناني.

ومن تلك العلامات أيضاً إطلاق يد السلطة السياسية، في شؤون المواطنين، وجعلها أولى من السلطتين التشريعية والقضائية، على حد ما تقول إحدى الشخصيات النموذجية، وهو أنس الصيرفي، في حوار بينه وبين شانتال الفرنسية الأصل، والمسؤولة عن المركز الثقافي الفرنسي والمكتبة الفرنكوفونية في المدينة:

"لقد استحدث عبدالناصر تقليداً لم تعرفه مصر من قبل. قبل انقلاب 1952 كان قرار إبعاد الأشخاص عن مصر يصدر عن وزير الداخلية، ومن حق المبعد أن يستأنف القرار أمام القضاء الإداري، وفي أحوال كثيرة كان القاضي يلغي قرار وزير الداخلية، بل ويحكم أحياناً بالتعويض المادي للمتضرر من القرار. الآن يستطيع أي ضابط في الاستخبارات أن يتخذ قراراً بإبعاد أي شخص فيتم تنفيذ القرار فوراً..." (ص:57).

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 ولعل هذا ما يقارب حيث مضمونه من النظام العرفي الذي يبطل فيه الاعتماد على السلطة القضائية وما يصدر عنها من قوانين، ويصار بالتالي إلى تعزيز كل ما يؤدي إلى فرض سلطة أحادية على الدولة ومرافقها العامة والخاصة، وعلى رأسها الزعيم الأوحد جمال عبدالناصر.

ومن العلامات على تلك الديكتاتورية أيضاً، سعي أجهزة الدولة الجديدة إلى قمع التوجهات السياسية المعارضة، بل المختلفة برؤيتها عن رؤية زعيمها، وزج المعارضين "أعداء الثورة" في السجون، على ما يقول أحد المشاركين في الحوار، وهو عباس، واصفا التنظيم الطليعي:

"التنظيم الطليعي تنظيم سري أنشأه عبدالناصر داخل الاتحاد الاشتراكي... آلاف الأعضاء السريين ينتشرون في أنحاء مصر الآن، وكل مهمتهم أن يتجسسوا على زملائهم وجيرانهم وأصدقائهم ثم يكتبوا عنهم تقارير يرسلونها لوزير الداخلية..." (ص:56).

ولعل هذا ما سيجري لجماعة الكوكاس، ويفضي بأفرادها إما إلى الاعتقال الموقت مثل مارتا وثلاثة من أصدقائها بتهمة لعب القمار، ومن ثم اعتقل كارلو ساباتيني بحجة مغامراته الغرامية الكثيرة، وابتزازه لإجباره على إقامة علاقة مع امرأة أحد الأمراء الأغنياء لفضحها وإيذاء صورة النظام الذي تمثله. وهذا بفعل المخبر جليل الذي اندس في الجماعة، ودون كل آراء أفرادها غير المحبذة للقائد، من دون أن تؤدي أي فعل معارض أو مهدد لوجوده.

رمزية استباقية

لا شك أن الكاتب علاء الأسواني نجح في بناء شبه عالم موازٍ، في عملية استعادية احتاجت منه إلى عمل توثيقي ومرجعي كبير حتى أتت على هذا القدر من الصدقية العالية التي يستجيب لها القارئ العربي وغير العربي، ويتفاعل مع أحداثها ووقائعها التاريخية، غير البعيدة. والأهم من ذلك أن الرواية تعاود النقاش حول مسألة الديمقراطية، والتعددية الكوزموبوليتية التي كانت عليها مدينة الإسكندرية، والتي يحسن بكل مدينة، على المتوسط أن تكون عظيمة الثراء بجماعاتها، وإثنياتها، وثقافاتها، وأشكال عيشها، واقتصاداتها المندمجة في الاقتصاد الوطني، وبإرادتها في الانفتاح على محيطها بأجواء من القبول والعطاء والترسخ في أرض حضارية، قدرها أن تعلو على الاختلاف، لتبدع في الائتلاف.

وههنا يحضر سؤال أخير يستحثه عنوان الرواية، هل قصد الروائي تنبيه القراء إلى واقع الاستبداد، عبر مثال عبدالناصر، أم أن ما عاينته زرقاء اليمامة بثاقب نظرها - أو الفنان أنس ممثلاً خطاب الكاتب - حدث فعلاً، في زمن الكتابة، في العقد الثالث من القرن الـ21، وسبق السيف العذل؟

 

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة