ملخص
بسبب الحرب الضارية في غزة، انهار الوضع الصحي بصورة كاملة ولم يعد الأطباء يطبقون بروتوكول منظمة الصحة العالمية في التعامل مع حالات شلل الأطفال.
من وعاء بلاستيكي تسكب الأم نيفين أبو الجديان قليلاً من الماء في صحن صغير، تبلل قطعة قماش وتضعها على جبين طفلها الرضيع عبدالرحمن الذي أصيب بمرض شلل الأطفال، وتحاول جاهدة أن تخفض له درجة حرارته المرتفعة جداً بطريقة بدائية.
داخل خيمة مهترئة تعيش نيفين برفقة أطفالها التسعة، جميعهم بنات إلا عبدالرحمن الذكر الوحيد بينهم، تحتضنه الأم بين ذراعيها وتطبطب على ظهره ثم تبكي بحرقة، وتقول "يا رب ترجع ثاني تمشي وتجري في الخيمة مثل أطفال العالم".
من دون حضانة للمرض
عبدالرحمن أول طفل في غزة يصاب بفيروس شلل الأطفال من النوع الثاني منذ 25 عاماً، وحالته أفزعت الأمم المتحدة ومنظمات الصحة الدولية، إذ تؤشر إصابته إلى أن هناك 200 حالة عدوى تحمل المرض.
فجأة يتقيأ الرضيع عبدالرحمن ويبكي بحرقة، تتوه الأم ولا تعرف ماذا تتصرف، لكنها تحمله وتسير به في حلقات دائرية داخل الخيمة في محاولة لتهدئة صغيرها الذي يبلغ من العمر 11 شهراً، تقول الأم "أخذت ابني إلى المستشفى لكن الأطباء هناك أبلغوني أنهم لا يستطيعون التعامل مع حالته، وطلبوا مني المكوث في الخيمة".
بسبب الحرب الضارية في غزة، انهار الوضع الصحي بصورة كاملة ولم يعد الأطباء يطبقون بروتوكول منظمة الصحة العالمية في التعامل مع حالات شلل الأطفال، وبحسب الطبيب الذي يتابع حالة عبدالرحمن فإنه كان يجب وضع الصغير في فترة حضانة داخل المرافق الطبية.
لكن الطبيب يقول "لا يوجد وسع في المستشفيات، جرحى القصف الإسرائيلي يصلون على مدار الساعة، عدم توافر فترة حضانة لحالة الطفل عبدالرحمن قد تؤدي إلى تفشي الوباء بين الأطفال بسرعة كبيرة، لكن هذا ما هو متاح حالياً".
يعيش في خيمة
بعد أيام قليلة سيكمل عبدالرحمن عامه الأول، لكن الأم نيفين لن تحتفل بعيد ميلاده، وستمر هذه الذكرى كأي يوم عادي وربما ستكون أشد الأيام ألماً على العائلة، التي انقلبت حياتها رأساً على عقب بعد إصابة طفلهم بشلل الأطفال.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تفتح نيفين باب الخيمة المصنوع من النايلون، وتجلس أمام مأواها الصغير تحت أشعة الشمس، تفتح هاتفها المحمول وتتصفح صور طفلها عبدالرحمن التي التقطتها له قبل طيلة فترة الحرب، وتتمنى أن يعود بها الزمن إلى ما قبل إصابته بشلل الأطفال.
بلا تطعيم
تسرح نيفين في ذاكرتها إلى السادس من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، وتقول "في مساء هذا اليوم جهزت ملابس عبدالرحمن وكتيب التطعيمات الخاص به، وقررت التوجه إلى مركز الرعاية الأولية الخاص بوكالة الأمم المتحدة لغوث اللاجئين أونروا لتلقيحه أول تحصين له ضد الأمراض كان عمره شهراً واحداً فقط حينها".
في الصباح الباكر كانت حركة "حماس" التي كانت تسيطر على غزة بالقوة، نفذت هجومها على إسرائيل، وعلى أثر ذلك بدأت الحرب وأغلقت العيادات الطبية أبوابها، بسرعة توالت الأحداث، وأمر الجيش الإسرائيلي نيفين وأسرتها بالنزوح إلى جنوب القطاع.
غادرت نيفين شمال غزة بسرعة ولم تعد نفسها لرحلة نزوح طويلة، نسيت الأم كتيب التطعيمات، ولم تتابع ملف اللقاحات لطفلها عبدالرحمن، تقول "كان صغيري طبيعياً وتطورت حركته، كان يحبو ويمشي مرتكزاً وبدأ ينطق".
تجاهلت الأم تحصين طفلها عبدالرحمن، وترجع السبب إلى أن اللقاحات غير متوفرة في مستودعات وزارة الصحة إذ ترفض إسرائيل توريدها للقطاع. كان يجب أن يتحصن الطفل ضد شلل الأطفال أربع مرات، في الشهر الأول "لقاح آي بي في 1"، وفي الشهر الثاني تطعيم "آي بي في 2" و"أوه بي في 1"، ثم في الشهر الرابع لقاح "أو بي في 2".
الحبو والمشي أصبحا ذكريات
لم يتحصن الطفل ضد شلل الأطفال بأي لقاح، وعلى رغم ذلك كان نشيطاً. تعرض الأم نيفين صور ابنها وهو يحبو ويضحك، ويمشي مرتكزاً مبتسماً، وصوراً أخرى له خارج الخيمة يلعب مع الأطفال من عمره ويمرح.
تعرف نيفين أن ظروفها المعيشية سيئة وتعيش في بيئة خصبة بالأمراض، لكنها تؤكد أنها قبل أن يمرض ابنها، كانت تغسل له أذرعه وأقدامه وتحاول الحفاظ على نوع من الاهتمام به، تستدرك الأم "من المستحيل الحفاظ على نظافة الأشياء في هذه الظروف المعيشية، كنت أرضعه وأعطيه الحبوب والماء من دون غليها، لم يكن لدينا غاز للطهي".
فجأة تغير سلوك عبدالرحمن، وبات لا يقوى على الحبو، تقول نيفين "أصيب ابني باستفراغ وسخونة، توجهت به إلى أحد المستشفيات ولم أتوقع أن يكون الأمر خطراً كان الطفل نائماً طوال الوقت ولم يكن يصحو، شك الأطباء في إصابته بالمرض، فتم أخذ عينة منه وإرسالها إلى الأردن".
المرض مرعب
بعد أسبوعين اتصل الأطباء بنيفين وأخبروها أن ابنها مصاب بشلل الأطفال. صمتت الأم برهة من الوقت بعدما أدارت عينيها في خيمتها الصغيرة غير مصدقة ما سمعته آذانها في شأن طفلها، وقالت عبر الهاتف "نعم، هل تأكدتم من ذلك؟".
شعرت الأم بالرعب والخوف منذ علمها أن رضيعها مصاب بشلل الأطفال وبدأت تفكر كثيراً وتتساءل، "هل سيفقد طفلي الحركة؟ هل سيصاب بالشلل؟ ماذا أفعل؟ كيف أحمي أطفالي التسعة؟".
أصيب عبدالرحمن بالشلل في الجزء السفلي من ساقه اليسرى بسبب الفيروس، ولم يعد يقوى على القيام بأية حركة، دب الرعب في قلب نيفين من أن يتفشى المرض ويهاجم الجهاز العصبي ويصل إلى الرئتين ويموت الصغير.
بحرقة تقول نيفين "حرام يبقى عبدالرحمن في الخيمة بلا علاج ولا اهتمام، إنه طفلي الوحيد ومن حقه السفر للعلاج وأن تعود له الحركة ويستطيع المشي والركض مجدداً".
أمنية واحدة.. تلقي العلاج
حتى بعد إصابة عبدالرحمن بشلل الأطفال لم تتخذ الأم أي إجراءات وقاية، فقيرة أسرة الطفل ولا تقوى على شراء مياه معدنية، تتابع نيفين "ليس بإمكاني توفير أبسط المستلزمات لابني الذي يحتاج المياه المعدنية باستمرار، لحد اللحظة يشرب مياهاً ملوثة".
لدى نيفين أمنية واحدة فقط هي أن يتم إخراج ابنها إلى خارج القطاع كي يتلقى العلاج، تشير إلى أن سكان غزة باتوا يخافون من طفلها، وتسرد قصة "كنا ننتظر في طابور للحصول على كوبونات الطعام، وبمجرد أن رأوا عبدالرحمن في الطابور، هربوا، أنا لا أستطيع التعامل مع مرضه، وابني لا يتعافى على الإطلاق".
الذعر من حالة عبدالرحمن دفع الأمم المتحدة إلى طلب هدنة إنسانية واستجابت إسرائيل و"حماس" لها ومن المقرر خلالها أن تحتوي منظمة الصحة العالمية انتشار شلل الأطفال من طريق إجراء جولتين من حملة تطعيم واسعة.
تقول مديرة الاتصال في وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" جولييت توما، "سوف نقوم بتحصين أكثر من 640 ألف طفل ضد المرض، وجلبت منظمة اليونيسف 1.2 مليون جرعة من اللقاح إلى قطاع غزة استعداداً لإجراء حملة التطعيم".