ملخص
في حالة حدوث نقص حاد في النحاس سترتفع الأسعار بطبيعة الحال، وهذا ما قد يعرّض اقتصاديات المركبات الكهربائية والشبكات الذكية والطاقة المتجددة للخطر.
بما أن تجنب كارثة المناخ والحد من الانبعاثات الكربونية يشكلان تحديات تقنية ومجتمعية كبيرة، يفرض التحول في أنظمة الطاقة والنقل والاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة زيادة كبيرة في استخدام النحاس، بأرقام تتجاوز كثيراً ما تستطيع مستويات الإنتاج الحالية استيعابه.
ويُنظر إلى النحاس عالمياً كمؤشر رئيس للصحة الاقتصادية لأنه يُستخدم عملياً في كل مكان ولا سيما في المنازل والمصانع، وحتى في الإلكترونيات وتوليد الطاقة. ومع ذلك يحذر الخبراء بأن هذا المعدن يواجه نقصاً وشيكاً، وبأنه بحلول عام 2030 لن تلبي مناجم النحاس سوى 80 في المئة من متطلبات النحاس في العالم. فما سبب هذا النقص؟ وماذا يعني ذلك للاقتصاد العالمي؟
الدور الحاسم للنحاس في تحول الطاقة
يلعب النحاس دوراً محورياً في تحول مجال الطاقة ويأتي في المرتبة الثانية بعد الفضة. وفي حين توجد بدائل أكثر فعالية من حيث الكلفة مثل الألومنيوم، إلا أنه يأتي بكفاءة أدنى بلا شك.
ويوجد النحاس في مجموعة متنوعة من المنتجات، من محامص الخبز ومكيفات الهواء وصولاً إلى الرقائق الدقيقة، وتحوي السيارة المتوسطة الحجم على نحو 29 كيلوغراماً من النحاس، ويضم المنزل النموذجي أكثر من 181 كيلوغراماً من هذا المعدن، وتستخدم المركبات الكهربائية أكثر من ضعف كمية النحاس التي تستخدمها السيارات التقليدية العاملة بالبنزين.
ويتطلب بناء شبكات أكثر تعقيداً قادرة على إدارة الكهرباء المولدة من مصادر متجددة لا مركزية وتثبيت إمدادها المتقطع ملايين الأقدام من الأسلاك النحاسية، أما مزارع الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، التي غالباً ما تغطي مناطق شاسعة، فتستهلك كمية أكبر من النحاس لكل وحدة طاقة مولدة مقارنة بمحطات الطاقة المركزية التي تعمل بالفحم والغاز.
وفي المحصلة يعدّ هذا المعدن مثالياً لصنع تقنيات إزالة الكربون المختلفة، ومن المرجح أن يتطلب تحقيق أهداف انبعاثات الكربون الصافية الصفرية بحلول عام 2035 مضاعفة الطلب السنوي على النحاس إلى حدود 50 مليون طن متري.
أسباب النقص الوشيك
لكن تأمين هذه الكميات الكبيرة من النحاس دونه كثير من التحديات وغير مؤكد إلى حدّ بعيد، وجزء من السبب هو الاعتقاد الخاطئ بأن النحاس سهل التعدين، ذلك أن الموارد اللازمة لإنشاء النحاس ليست وفيرة، وهي ليست موجودة في كل مكان، وتتطلب عمليات بحث معقدة، ناهيك أن استخراج النحاس من الرواسب الجديدة أصبح أكثر صعوبة وكلفة مع انخفاض درجات الخام، كما أن التدقيق المتزايد في التأثيرات البيئية لتعدينه يعمل على إضعاف القبول نحو الاستثمار فيه.
وبعيداً من صعوبة الحصول عليه، من المرجح أن يحدث النقص لكون الطلب على النحاس يتزايد، ويرجع هذا جزئياً إلى كون النحاس مادة مطلوبة بكثرة في مصادر الطاقة الجديدة، إذ تتطلب توربينات الرياح البحرية نحو ثلاثة أضعاف كمية النحاس التي يتطلبها توليد الطاقة بالفحم من حيث الأطنان لكل غيغاوات، وبذلك تجد شركات التعدين صعوبة في إنتاج الكمية المطلوبة من النحاس لهذه التوربينات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وهناك إجماع متزايد بأن الطلب على النحاس الذي يغذيه التحول في مجال الطاقة سيتجاوز العرض بأشواط، ولهذا السبب يقول المحللون الآن إننا ببساطة لن يكون لدينا ما يكفي منه، وسنكون أمام مشكلة حقيقية مع ما تقتضيه متطلبات التحول في مجال الطاقة على مدى السنوات الـ 10 المقبلة لأنه من الصعب للغاية على شركات النحاس العالمية الحفاظ على مستوى الإنتاج الذي لديها في الوقت الحالي.
وكما شكّل النفط الجغرافيا السياسية في القرن الماضي، فإن الوصول إلى النحاس أصبح مصدر قلق اقتصادي بالغ الأهمية في القرن الحالي، ما دفع الحكومات إلى التنافس على الإمدادات المحدودة في المستقبل. وحالياً يُستخرج معظم خام النحاس في أميركا اللاتينية وأفريقيا، ويعالج محلياً في شكل أكثر تركيزاً، ومن ثم يتم تصديره إلى دول أخرى لصهره إلى نحاس نقي. وقد عوّضت الصين، التي تفتقر إلى الاحتياطيات المحلية الكافية، عن ذلك من خلال الاستحواذ على مناجم في الخارج وتوسيع قدرتها على الصهر محلياً، وهذا ما جعل الولايات المتحدة وحلفاؤها يشعران بالقلق إزاء نفوذ بكين على مثل هذه الصناعة الحيوية.
ما الآثار المترتبة على نقص النحاس؟
الآثار المترتبة من نقص النحاس كبيرة بحق، وتجعل من آمال التحول الكامل إلى المركبات الكهربائية في غضون 10 سنوات مجرد "حلم بعيد المنال" لأننا لا نملك ما يكفي من مواد البطاريات، وحتى لو افترضنا عثورنا على مزيد من النحاس، فإن فتح منجم جديد يستغرق في المتوسط 23 عاماً.
ومع زيادة الطلب ونقص النحاس الوشيك، يبدو من المرجح أن يكون العثور على ما يكفي من هذا المعدن لتصنيع المركبات الكهربائية أمراً صعباً بصورة متزايدة، وإضافة إلى هذه الصعوبة فإن تعدين النحاس مكلف أيضاً ما يجعل من الصعب على الشركات الجديدة أو الشركات ذات رأس المال الأصغر أن تندفع إلى السوق.
وفي حالة حدوث نقص حاد في النحاس سترتفع الأسعار بطبيعة الحال، وهذا ما قد يعرّض اقتصاديات المركبات الكهربائية والشبكات الذكية والطاقة المتجددة للخطر، وبالتالي يعيق تبنيها. وفي حين ستحفّز الأسعار المرتفعة عمال المناجم على زيادة الإنتاج، إلا أنه من المعروف أن تطوير منجم جديد يستغرق سنوات عدة، وحتى لو دفعت الزيادة في الطلب الشركات إلى الاستثمار بكثافة في مشاريع جديدة، فسيستغرق الأمر نحو عقد من الزمن للتأثير بصورة كبيرة على توقعات الإنتاج.
إلى ذلك تقدر مجموعة "غولدمان ساكس" أن معالجة العجز السنوي المتوقع في العرض بمقدار ثمانية ملايين طن متري على مدى العقد المقبل، سوف تتطلب من الصناعة استثمار 150 مليار دولار، وتالياً وصول أسعار النحاس إلى مستويات قياسية.
ولا يعني ما ذكرناه آنفاً عدم وجود حلول أخرى، فهناك بدائل أرخص مثل الألومنيوم لكنها أقل كفاءة كما سبق وأسلفنا. ومن أجل تحقيق انبعاثات كربونية صافية صفرية بحلول عام 2050، وهو الهدف الذي دعت إليه الأمم المتحدة والبيت الأبيض واتفاقية باريس للمناخ، يجب مضاعفة الطلب السنوي على النحاس بحلول عام 2035. وسواء كان ذلك ممكناً أم لا، تظل صناعة النحاس مؤشراً كلاسيكياً للاقتصاد العالمي ترتفع وتنخفض جنباً إلى جنب مع الإنتاج الصناعي.