ملخص
متى وأين ظهرت "حركات الإسلام السياسي"، وأي أهداف وغايات سعوا إليها، وبأي طرق وأساليب، وكيف كان "الإخوان" أبرز تلك الحركات، وكيف وظفوا "الدين من أجل السياسة"؟ على رغم مرور عقود على ظاهرة "الإسلام السياسي"، فإن إجابات تلك الأسئلة لا تزال محل جدل بين مؤيدين ومعارضين، مغلفة بكثير من الاستقطاب وقليل من الموضوعية في نقاشها، وهو ما تحاول "اندبندنت عربية" تقصيه واستيضاحه.
"عندما تعتقد أعداد كبيرة من الناس أن حياتهم الفردية لا قيمة لها وأن العالم الحديث فاسد لا يمكن إصلاحه يكمن الأمل الوحيد فقط في الانضمام إلى مجموعة (شمولية) أكبر تهدف إلى تغييرات جذرية، إذ تعد الرسائل البسيطة والقوية والرموز الجماهيرية أدوات فعالة لتوحيد الأفراد وتعزيز شعورهم بالانتماء، وعلى رغم أن هذه الأدوات قد تكون تلاعبية، فإنها تعمل بصورة فعالة لتلبية الحاجات العاطفية والنفسية للأفراد"، في كتابه الشهير "المؤمن الصادق: أفكار حول طبيعة الحركات الجماهيرية"، مطلع خمسينيات القرن الماضي، يغوص فيلسوف الأخلاقية الأميركي الشهير إريك هوفر في جذور وطبيعة الحركات الجماهيرية والدينية والسياسية مشككاً في مدى عمق استيعاب أتباع تلك الحركات الجماهيرية لحقيقة أهدافها وأفكارها.
وفق هوفر فإن "الحركات الجماهيرية قد تسبب ضرراً بالجماهير التي تجذبها. ويمكن أن تكون مصدراً للتلاعب والتحريض على العنف، وقد تؤدي إلى التطرف والانقسامات الاجتماعية. وهذا يشير إلى أن الأفراد الذين يشعرون بالإحباط والاضطراب يجب أن يكونوا حذرين عند الانضمام إليها، ويعدون الأثر الذي قد يكون لها في حياتهم ومجتمعاتهم"، مشيراً إلى أن "تقدير الذات والشعور بالرضا تجاه الحياة من أهم وسائل الشعور بالمعافاة النفسية".
من بين أبرز الحركات والتنظيمات التي "تلاعبت" على صعيد أهدافها وغاياتها بأتباعها، بحسب ما يرى منتقدوها، على مدار نحو قرن من الزمان يتربع "تنظيم الإخوان المسلمين"، الذي وإن صنف في عدد من الدول كـ"جماعة إرهابية"، فإن طبيعته ضمن المنضوين تحت راية "الإسلام السياسي" وقدرته على توظيف الدين "سياسياً" لا تزال محل نقاش وبحث بين الباحثين والمتخصصين وحتى المؤرخين، بدءاً من لحظة تأسيسه على يد حسن البنا في مارس (آذار) 1928، مروراً بمحطات الانتشار والحصار والاقتراب والابتعاد من السلطة، ووصولاً إلى الملاحقة والتضيق إثر اتهامات بممارسة "العنف والإرهاب".
متى وأين ظهرت "حركات الإسلام السياسي"، وأي أهداف وغايات سعوا إليها، وبأي طرق وأساليب، وكيف كان "الإخوان" أبرز تلك الحركات، وكيف وظفوا "الدين من أجل السياسة"؟ على رغم مرور عقود على ظاهرة "الإسلام السياسي"، فإن إجابات تلك الأسئلة لا تزال محل جدل بين مؤيدين ومعارضين، مغلفة بكثير من الاستقطاب وقليل من الموضوعية في نقاشها، وهو ما تحاول "اندبندنت عربية" تقصيه واستيضاحه.
الإخوان وظهور "الإسلام السياسي"
يشير مصطلح "الإسلام السياسي" بصورة رئيسة، وفق ما أجمع عليه غالب الباحثين والمؤرخين إلى توصيف تلك الحركات التي تؤمن بالإسلام باعتباره "نظاماً سياسياً للحكم"، وأنه "ليس عبارة عن ديانة فقط، وإنما عبارة عن نظام سياسي واجتماعي وقانوني واقتصادي يصلح لبناء مؤسسات دولة"، معتبرين أن هدف عديد من تلك الحركات هي الوصول إلى إقامة نوع من "النظام السياسي الإسلامي" يصبح أداة لإعادة النهضة والريادة الإسلامية وإعادة إحياء مجد الماضي عندما كانت الريادة الإسلامية السياسية على المستوى العالمي. إلا أنه نحو الوصول إلى تلك الغاية تختلف هذه الحركات باختلاف الرؤى والاتجاهات، إذ إن بعضها يسعى إلى إقامة "الخلافة الإسلامية" بصورة عالمية مثل "حزب التحرير"، وبعضها إقليمي يهدف إلى إقامة دولة إسلامية تتجاوز القطرية العربية كما هي الحال بالنسبة إلى "الإخوان المسلمين"، وأخيراً حركات ذات طابع محلي ينحصر عملها في إطار دولة معينة كما هي الحال بالنسبة إلى الحركات الإسلامية في غزة وأفغانستان.
لكن، وإلى جانب الأهداف والغايات يبقى السؤال حول متى ظهرت مفاهيم "الإسلام السياسي"، والتي وإن اختلف البعض حول التوقيت الدقيق لظهورها، فإن محطة سقوط "الخلافة العثمانية" في عام 1924 تبقى نقطة فاصلة في مسيرة حركات الإسلام السياسي، وعلى رأسها الإخوان، حيث محاولات "إحياء مجد ضائع قديم في الدولة الإسلامية والخلافة".
يقول الباحث مقتدر خان، وهو أستاذ مشارك في قسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة ديلاوير وزميل معهد السياسة الاجتماعية والتفاهم، حول رؤيته لما يسمى "الإسلام السياسي" في مجلة "العلاقات الدولية" إنه على رغم ربط "الإسلام السياسي" ببعض الأسماء بعينها مثل حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين وتنظيمه، فإن للمصطلح تاريخاً أبعد من ذلك يقوم على رثاء مجد ضائع قديم، موضحاً "كان عديد من المفكرين والعلماء المسلمين منذ بداية الحقبة الاستعمارية وبداية هيمنة الغرب على الدول الإسلامية في رثاء وندب لضياع الإمبراطورية الإسلامية وقوة ومجد الإسلام. وكانت اللحظة الرئيسة التي تبلور فيها الشعور بتراجع السلطة الإسلامية عندما اختفت الإمبراطورية العثمانية تماماً عام 1924، على رغم ما كان فيها من أزمات وتدهور، وعليه ظهر عديد من الحركات الإسلامية التي تحمل هدفاً واضحاً يتمثل في إحياء الأمة الإسلامية وإصلاح المجتمعات المسلمة واستعادة مجدها السابق".
ويتابع مقتدر خان، قائلاً "لا يوجد إجماع تام حول السبب الرئيس لهذا التخلف والتراجع بعدما كانت الأمة الإسلامية تتسيد العالم، غير أن الجميع يتفق على أن هذا التراجع قد بدأ منذ قرون، حتى إن بعض المفكرين قالوا إن السبب في فقدان المسلمين قوتهم وسطوتهم هو أنهم هجروا شريعتهم الإسلامية، القانون الإلهي الذي يقتضي الدين باتباعه. وهم يفترضون أنه إذا اتبع المسلمون الشريعة الحقيقية، فإنهم سيحظون بالمجد مرة أخرى مثل أسلافهم المسلمين، لذا فإن أفضل طريقة لتنظيم المجتمع، بحسب رؤيتهم، هي وفقاً للشريعة الإلهية ولأن المسلمين قد هجروا هذا المسار الإلهي للنجاح، تخلفوا عن باقي الحضارات. وهذه هي الفرضية الأساس وراء الحركات التي يتم تعريفها بصورة عامة تحت عنوان الإسلام السياسي، مثل الجماعة الإسلامية في جنوب آسيا، والإخوان المسلمين في العالم العربي". ويمضي قائلاً "ينتشر عديد من حركات إحياء الدين في العالم الإسلامي العربي، وكذلك في المجتمعات الإسلامية في الغرب، إلا أن هذه الحركات لا تدخل تحت اسم الإسلام السياسي، حيث ترتكز على الجانب الديني والاجتماعي بصورة كبيرة وحصرية. وحدها تلك الجماعات التي تعتقد أن الإسلام نظام سياسي شامل يدمج الدين بالحكم وأن كل المسلمين يجب عليهم اتباعه وجوباً عقائدياً هي من تدخل تحت اسم الإسلام السياسي".
وبينما تعرف الموسوعة البريطانية "الإسلام السياسي" نقلاً عن وزارة الخارجية الإنجليزية بأنها تلك الحركات الساعية إلى "تطبيق القيم الإسلامية في الحكومات الحديثة، من خلال المشاركة في العملية السياسية، وفي بعض الحالات تكون هذه المشاركة تكتيكية، وليست مستمدة من إيمان أو التزام بالقيم والعلميات الديمقراطية، ويمكن أن يشمل مفهوم الإسلام السياسي جماعات متطرفة ومعارضة للديمقراطية، أو معادية للغرب والليبرالية". ويحصر المفكر الأميركي وعالم الاجتماع آصف بيات في كتابه "ما بعد الإسلاموية: الأوجه المتغيرة للإسلام السياسي" غايات حركات الإسلام السياسي الرئيسة في "بناء مجتمع أيديولوجي نقي تتحقق فيه مثل الإسلام وأن سعيهم تاريخياً إلى السيطرة على الدولة وأسلمتها هي الطريق الرئيس لتحقيق هذه الغاية، لأنهم يعدون الدولة هي المؤسسة الأقوى والأقدر على إقامة الخير ومحو الشر من مجتمع المسلمين".
إلى ذلك يقول سونر جاغابتاي زميل أقدم في برنامج "بايير فاميلي" ومدير "برنامج الأبحاث التركية" في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى إن "الإسلام لا يعني الإسلام السياسي، بل إن الإسلام هو الإيمان، والإسلام السياسي هو أيديولوجية متطرفة وعنيفة أحياناً وغير تاريخية تسعى إلى كسب شرعيتها عبر الإسلام وتركز جهود التجنيد التي تقوم بها على المسلمين. ويهدف الإسلام السياسي إلى خلق نظام عالمي غير ليبرالي جديد يأخذ تبريره من الماضي المتخيل والصارم".
ويوضح جاغابتاي في دراسة له نشرها بمعهد واشنطن في مايو (أيار) 2015 تحت عنوان "هل المسلمون إسلاميون" أن "العلاقة بين الإسلام والإسلام السياسي هي أقرب إلى العلاقة بين الطبقة العاملة والشيوعية في الحرب الباردة. فقد حاولت الأيديولوجية الشيوعية استخلاص شرعيتها من الطبقة العاملة وسعت إلى التحدث باسمهم. ويحاول الإسلام السياسي أن يفعل الشيء نفسه. ومع ذلك فبما أن الشيوعية لم تمثل الملايين من الطبقة العاملة من الرجال والنساء الذين لم يتعاطفوا مع الشيوعيين فإن الإسلام السياسي لا يمثل المسلمين في أيامنا هذه". وتابع، "تشمل المظاهر الحالية للإسلام مجموعة متنوعة من الحركات الإسلامية، مثل جماعة الإخوان المسلمين، وتنظيمي القاعدة والدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، وعلى رغم أن هذه الجماعات تستخدم تكتيكات مختلفة، فإن ما يجمعها في الأساس هو أيديولوجية مشتركة لا تحترم القيم العالمية ولا تتبناها".
الإخوان واللعب على "التناقضات"
مع التدقيق في مسار تنظيم "الإخوان المسلمين" الذي أسس في مارس 1928 بمدينة الإسماعيلية على يد حسن البنا (اغتيل عام 1949)، صاحب الفكر الرئيس المؤثر في أفرادها من خلال عديد من الرسائل التي ألفها، يشير صعودها وانتشارها ومحطات صدامها وتوافقها مع السلطة في مصر أو في الخارج، إلى سعي التنظيم بصورة رئيسة إلى تحقيق غاياته وإن استخدم الدين وسيلة في ذلك.
فالتنظيم الذي نشأ بعد أربعة أعوام من سقوط الخلافة العثمانية، وسرعان ما انتقل إلى القاهرة، ثم إلى بقية أنحاء مصر، منطلقاً إلى العالم العربي والإسلامي، ترتكز مفاهيمه في "استعادة الخلافة"، على مقولات حسن البنا بأن "الإسلام دين ودولة"، والتي دخل عبرها لتشكيل نظام عقائدي شامل، استطاع تلخيصه في القول، "الشرعية بكاملها في التنظيم، والواجب الديني يقتضي أن يتولى التنظيم السلطة، فيطبق الشريعة وتقوم الدولة الإسلامية"، مطوعاً الإسلام لمصالحه، بعدما طوع الإحياء والإصلاح، للغرض السياسي ذاته.
ومنذ انتقال البنا من الإسماعلية إلى العاصمة المصرية في ثلاثينيات القرن الماضي، حيث بدايات انتشار التنظيم على المستوى المحلي والإقليمي، مرت "الإخوان المسلمون" بمحطات تقارب وصدام مع السلطة من العصر الملكي إلى العصر الجمهوري، حيث قيام ثورة يوليو (تموز) 1952 وسيطرة حركة الضباط الأحرار على السلطة في البلاد، مستغلاً في ذلك عدداً من الأحداث التي ساعدت على انتشار فكر ووجود التنظيم مثل انطلاق المقاومة في فلسطين عام 1936، والإعلان عن قيام إسرائيل والمشاركة العسكرية في حرب 1948، ومناهضة الاحتلال الإنجليزي.
في تلك الفترة التي لم يكن العالم يتجاوز بعد تبعات الحرب العالمية الثانية وجد التنظيم الفرصة سانحة للانتشار واللعب على التناقضات في الداخل والخارج. فبحسب ما كتبه المؤرخ البريطاني الشهير مارتن فرامبتون في كتابه "الإخوان المسلمون والغرب: تاريخ العداوة والارتباط"، كانت "سنوات الحرب الباردة حاسمة فيما يتعلق بالمرحلة التكوينية لتنظيم الإخوان"، موضحاً أن "التنظيم وزعيمه حسن البنا عزز اللعب على التناقضات بين القصر والملك فاروق من ناحية، والأحزاب السياسية وعلى رأسها الوفد والسعديون من ناحية ثانية، والسفارة البريطانية لدى القاهرة من ناحية ثالثة، والألمان والإيطاليون من ناحية رابعة. وأقام علاقات مع كل هذه الأضداد، بعضها في العلن، وبعضها في السر، مثل الاتصالات بين البنا ومساعديه مع مسؤولين سياسيين أو عناصر استخبارات بريطانية. وفي تحالفاته المتضادة والمتضاربة هذه ضمن التنظيم إبقاءه بعيداً من التطويق، بل على العكس استفاد مالياً وسياسياً من كل هذه الأطراف".
ومن خلال التقليب في وثائق الأرشيف البريطاني ألقى فرامبتون في كتابه الذي رصد فيه نحو 80 عاماً من العلاقة بين الجماعة ولندن، الضوء على الاستراتيجية التي اتبعتها الحكومات المصرية في الأربعينيات حيال تنظيم الإخوان، والتي لخصها المسؤول الوفدي أمين عثمان حينها بـ"قتل الإخوان بالعطف"، قائلاً إنها "الطريقة الأكثر حكمة للتعامل مع الإخوان كي لا يعملوا في الخفاء"، أي مواصلة تقديم إعانات للتنظيم وفتح القنوات معهم كوسيلة لمراقبتهم والاستفادة من براغماتية حسن البنا، موضحاً أن أمين عثمان أخبر البريطانيين بأن "الإعانات المالية المقدمة من الوفد للإخوان المسلمين ستدفعها الحكومة سراً، وستطلب بعض المساعدة المالية في هذا الأمر من السفارة البريطانية".
بعد تلك الفترة، وتحديداً بين عامي 1944 و1949، وثقت مرحلة تحولات كبرى في عمر التنظيم، حيث اللجوء العلني إلى ممارسة العنف لتحقيق مصالح الجماعة، حيث عمليات تفجير واغتيال وقتل، مروراً بالتخطيط لحرق القاهرة، والتي ثبت من خلال الأوراق التي ضبطت في حوزة المتهمين من عناصر التنظيم المسلح، ضمن أحراز القضية المعروفة إعلامياً بـ"السيارة الجيب"، في نوفمبر (تشرين الثاني) 1948، حيث كانت تلك القضية نقطة فاصلة في تاريخ الإخوان، تكشفت خلالها ملامح "النظام الخاص" (الذراع المسلحة) بقيادة عبدالرحمن السندي، وصدر عقبها القرار التاريخي الأول من رئيس الوزراء المصري محمود فهمي النقراشي بحل التنظيم واعتقال عدد كبير من قادتها وأعضائها ومصادرة ممتلكاتها في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 1948، بعد اتهامات لها بتشكيل تنظيم سري مسلح والمسؤولية عن عدد من حوادث الاغتيال والتفجير، وفي الـ28 من الشهر نفسه اغتيل النقراشي بثلاث رصاصات على يد عبدالمجيد أحمد حسن، ووجهت أصابع الاتهام للإخوان، إلا أن الجماعة رفضت التهمة. ويقول المؤرخون آنذاك إن البنا حاول حينها تهدئة الرأي العام وامتصاص الضغوط الشعبية والسياسية ضد الجماعة وعناصرها، بإصدار بيان تحت عنوان "هذا بيان للناس"، نشرته الصحافة المصرية في الـ11 من يناير (كانون الثاني) 1949، أثنى فيه على النقراشي باشا، واستنكر اغتياله، كنوع من الخداع والتضليل الفكري والإعلامي، لكن لم تمضِ أيام معدودة حتى قام النظام الخاص بالتخطيط لتفجير محكمة الاستئناف بالقاهرة، في الـ13 من يناير 1949 بهدف تدمير أوراق قضية "السيارة الجيب"، التي تحمل أدلة الاتهامات المباشرة للجماعة، وفي الـ12 من فبراير (شباط) 1949 اغتيل البنا أمام جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة، ودخلت الجماعة مرحلة جديدة لم يكن لها أثناءها مرشد قبل أن يتم في عام 1951 اختيار المرشد الثاني للإخوان، وهو حسن الهضيبي.
بعد نحو عام من اختيار الهضيبي مرشداً للجماعة شهدت مصر تحولات دراماتيكية، حيث قيام ثورة الضباط الأحرار في الـ23 من يوليو 1952 وتوليهم السلطة في مصر، وعلى رغم أن التنظيم كان على صلة مع الضباط قبل الثورة وفي بدايتها، فإن خلافات شديدة عصفت بالعلاقة بين الطرفين لتتحول فترة حكم جمال عبدالناصر إلى فترة صعبة وقاسية على الجماعة، إذ صدر قرار ثانٍ بحل للتنظيم في عام 1954 إبان تعرض الرئيس الراحل عبدالناصر لمحاولة اغتيال في المنشية بالإسكندرية، اتهم الإخوان المسلمون بتنفيذها، واعتقل عدد كبير من أعضاء الجماعة بينهم الهضيبي وسيد قطب الذي ظل في السجن 10 سنوات، ثم أطلق سراحه، ثم اعتقل وحكم عليه بالإعدام عام 1965.
وبعد وفاة عبدالناصر في عام 1970، تميزت فترات حكم الرئيسين أنور السادات وحسني مبارك بمحطات شد وجذب مع الجماعة، حيث التأرجح بين المهادنة والتعاون تارة، والمنافسة والصـراع تارة أخرى، كان أبرز محطات توافقها مشاركة الإخوان للمرة الأولى في انتخابات برلمانية عام 1984، ثم شاركت أيضاً عبر تحالف آخر في انتخابات 1987 البرلمانية، وذلك قبل أن تشهد فترة التسعينيات مرحلة ملاحقة لعناصرهم في ضوء مواجهة الدولة لصعود الجماعات الإرهابية. ومع العقد الأول من الألفية الجديدة، عاد الإخوان إلى المشهد مجدداً وشاركوا في الانتخابات البرلمانية عام 2005، وتمكنوا من حصد 88 مقعداً بنسبة 20 في المئة من المقاعد.
وعن رصد تلك العلاقات الشائكة بين الجماعة والدولة طوال عقود ما بعد ثورة يوليو أوضحت دراسة بعنوان "علاقة جماعة الإخوان المسلمين بأنظمة الحكم في مصر... منذ العهد الملكي حتى عام 2021"، منشورة على مركز "تريندز" للبحوث والاستشارات، أنه في عهد الرئيس جمال عبدالناصر "مرت علاقة الدولة بالجماعة كذلك بمرحلتين: الأولى مرحلة التعاون والتحالف (1952-1954)، وتميزت هذه المرحلة بنوع من الهدوء الحذر، أما المرحلة الثانية فهي مرحلة الصدام والحل، وذلك بعدما قام الإخوان في الـ26 من أكتوبر 1954 بمحاولة اغتيال عبدالناصـر في الإسكندرية".
أما في عهدي أنور السادات وحسني مبارك فقد اختلفت رؤية وطريقة تعامل كل من الرئيسين، ففي حين حاول السادات "توظيف الإخوان" لمساعدته في مواجهة خصومه السـياسـيين عقب توليه الحكم، ذهب مبارك إلى التعامل معهم بحذر شديد، إلا أنه كانت هناك سمات مشتركة بينهما في سبل تعاملهما مع الجماعة، إذ رفض كلاهما إضفاء الشـرعية القانونية عليها، حتى مع السماح لها بالعمل السـياسـي والاقتصادي والاجتماعي، وفق "تريندز".
بدوره وصف المتخصص في مجال العلوم السياسية بجامعة القاهرة عمرو حمزاوي في دراسة له بعنوان "تراجع الإخوان: من أولوية السياسي إلى الانسحاب منه"، بمركز كارنيغي لأبحاث السلام، الانتظام السياسي للجماعة في الانتخابات النيابية في 2005، وحصولها على نسبة 20 في المئة من المقاعد حينها، قائلاً "تمكن الإخوان من تجاوز قمع وتهميش التسعينيات والعودة من بوابة النقاش العام حول فرص الإصلاح والتحول الديمقراطي إلى قلب الحياة السياسية. نجحت الجماعة في صياغة خطاب حول أولوية الإصلاح السياسي وانفتحت من خلاله على بعض قوى المعارضة غير الدينية وجذبت إليها مجموعات جديدة من المهتمين في الشأن العام، بخاصة بين الشباب. ثم توجت كل ذلك بفوزها بنسبة 20 في المئة من مقاعد مجلس الشعب في انتخابات 2005 لتؤكد أنها فصيل المعارضة الأكثر شعبية وحيوية تنظيمية في مصر، بيد أن الفترة الممتدة بين 2005 و2010 شهدت إخفاق الإخوان في تطوير مواقفهم من قضايا مركزية كالقبول غير المشروط بالمواطنة المتساوية في الحقوق بين مسلمي وأقباط مصر، والابتعاد عن توظيف الدين في الحياة السياسية والعامة بجوهر يناقض حرية الرأي واحترام التعددية، وهو ما أسهم في تجدد شكوك قوى المعارضة غير الدينية في الالتزام الديمقراطي للجماعة وأعاد إنتاج صور سلبية عن الإخوان في الساحة العامة".
الإخوان و"تسييس الدين"
كانت السنوات التي تلت سقوط نظام مبارك في مصر عام 2011 وبدايات صعود "الإخوان" لسدة الحكم في البلاد للمرة الأولى في تاريخهم مفصلية وكاشفة بالنسبة إلى نيات التنظيم وقدرتهم على "توظيف الدين" لخدمة مصالحهم، كما لم تظهر أي مرحلة سابقة في عمر الجماعة والممتدة منذ عشرينيات القرن الماضي، إذ كانت المصلحة الذاتية هي المحرك الأساس لموقف الجماعة من مختلف التطورات التي شهدتها مصـر في هذه المرحلة. فبدءاً من أحداث "الثورة" اتسم موقف "الإخوان" بالتناقض بداية من تأكيد عدم المشاركة في التظاهرات، مروراً باعتبار مشاركة بعض الشباب في التظاهرات مشاركة فردية، وصولاً إلى ادعاء التحريض على التظاهرات ودفع المواطنين لها، وفي أعقاب نجاح الثورة وإطاحة مبارك، وجدت الجماعة حرجاً كبيراً في مواصلة رفع شعارات الحاكمية لله وتطبيق الشريعة، فقررت الخروج من ذلك المأزق عبر طرح جديد يتمثل في إنشاء حزب مدني يستند إلى مرجعية إسلامية أطلقت عليه اسم "حزب الحرية والعدالة"، وخاضت به الانتخابات التي حملت الرئيس السابق محمد مرسي لسدة الحكم في مصر، وجاءت هذه الخطوة باعتبارها حلاً يدفع عنها شبهة السعي إلى الخلط بين السياسة والدين وتوظيف الأخير لخدمة الأهداف السياسية، وفق ما يقول مراقبون، على رغم الأطروحات الموروثة في أدبيات الجماعة برفض الديمقراطية والأحزاب السياسية.
فعن الأحزاب السياسية كانت رؤية المرشد المؤسس للتنظيم حسن البنا تقول إن "الإسلام، وهو دين الوحدة في كل شيء، وهو دين سلامة الصدور، ونقاء القلوب، والإخاء الصحيح، والتعاون الصادق بين بني الإنسان جميعاً، فضلاً عن الأمة الواحدة والشعب الواحد، لا يقر نظام الحزبية ولا يرضاه ولا يوافق عليه"، إلا أنه وفي أعقاب ثورة يناير بدا التنظيم وكأنه يتخذ من الدين وسيلة لتعضيد موقفه السياسي، تارة بالرفض وأخرى بالتأييد وبحسب ما تقتضي المصلحة السياسية للجماعة.
وبعد الثورة تمكن الإخوان من الوصول إلى السلطة للمرة الأولى في تاريخهم بمصر، إذ حصدوا نحو 40 في المئة من مقاعد مجلس الشعب (حل لاحقاً) في أول انتخابات تشريعية بعد ثورة يناير 2011 وشكلوا أكثرية برلمانية للمرة الأولى في تاريخهم، ثم وصل محمد مرسي المنتمي إليهم إلى سدة السلطة في الـ30 من يونيو (حزيران) 2012 قبل أن تتم إطاحته في يوليو 2013، بعد خروج تظاهرات غير مسبوقة ضد حكمه دعمها الجيش. وعلى أثر موجة كبيرة من العنف شهدتها البلاد إبان إطاحة حكم الإخوان في 2013 لاحقت السلطات قادة التنظيم بتهم "العنف والإرهاب" وأصدر مجلس الوزراء في الـ25 من ديسمبر في العام ذاته قراراً باعتبار الجماعة "تنظيماً إرهابياً" بعد مصادرة أموال ومقار الجماعة.
وخلال عام وجودهم في السلطة بين يونيو 2012 ويوليو 2013 ظهرت نيات الجماعة الحقيقة تجاه المجتمع ومؤسسات الدولة، إذ تعاظم حجم الصدامات وتوالت الأزمات التي تجلت مظاهرها في محاولة الإخوان إصدار قانون جديدة لتنظيم القضاء وأزمة إقالة النائب العام وحصانة مجلس الشورى والجمعية التأسـيسـية لوضع الدستور. ووصل الأمر إلى حد التطاول والاعتداء على السلطة القضائية، والدعوة إلى التظاهر تحت شعار "تطهير القضاء"، مما دفع الشعب المصري للخروج على حكمهم، معتبرين أن شعاراتهم التي جلبتهم للحكم كانت تهدف إلى التلاعب بالمشاعر، وما هي إلا شعارات للحشد والتوظيف والتعبئة.
ويقول سونر جاغابتاي مدير "برنامج الأبحاث التركية" في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، مستذكراً حالة وصولهم إلى السلطة في مصر عام 2012 وتولي الرئيس المنتمي إليهم محمد مرسي مقاليد الحكم، "حينها بدأت الجماعة حملة لفرض أيديولوجيتها المبنية على عدم المساواة على الشعب المصري. وتولى الإخوان السيطرة على وسائل الإعلام والمحاكم، وأشاروا إلى نياتهم المتعلقة بتنفيذ الشريعة الإسلامية. وأدى ذلك إلى قيام تظاهرات حاشدة في معظم المدن الرئيسة في البلاد، كما ثار المصريون ضد ما اعتبروه على نحو محق بأنه الاستبداد الإسلامي السياسي الآخذ في التنامي".
وبعد عام 2013 انزلقت الجماعة في أزمة تنظيمية نتيجة إطاحتها من السلطة، وهو ما ترتب عليه حدوث انقسامات داخلية بلغت ذروتها عام 2021، إذ انقسمت الجماعة إلى تيارين أساسيين ومجموعات صغيرة أخرى. ومع انتقال قيادة الجماعة للخارج، انكشف عدم لياقة نظامها الداخلي للوضع الجديد، وبدأت تعاني مأزقين، يتمثل الأول في ارتباط النزاع بين الفرق المختلفة بالخلاف حول صلاحيات المجلسين (الشورى المصري أو الشورى العام) في إسناد القيادة، أما الثاني، حيث تواجه الجماعة تنسيقاً أمنياً إقليمياً يحول دون تكاملها التنظيمي. وفي ظل هذه الأوضاع، استمر الخلاف حول ملء الفراغ التمثيلي للجماعة مشكلة دائمة، وفق ما كتب جمال عبدالجواد مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية في دراسة له تحت عنوان "الإخوان والغرب: سقوط المراهنة على الإسلام الديمقراطي". وكان لافتاً باستمرار تناقض واختلاف لغة الجماعة في توجيه الرسائل المقدمة باللغة العربية والأخرى المقدمة بالإنجليزية، ففي حين حملت رسائل بالعربية تحريضاً على الاحتجاج والعنف كانت الرسائل بالإنجليزية تؤكد الديمقراطية والعمل السلمي، وذلك بعدما اعتمدت الجماعة "العنف" أسلوباً لـ"لاستعادة الشرعية" بعد إطاحتها من الحكم، معتمدة في ذلك على أدوات التعبئة الجماهيرية، وإطلاق العمل العنيف والمسلح، وتشويه رموز الدولة ومؤسساتها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى وقع ذلك لاحظ إبراهيم غرايبة في دراسته المعنونة بـ"الإسلام السياسي بما هو إضرار بالدين والسياسة" في مركز الدراسات الاستراتيجية التابع للجامعة الأردنية في يناير 2017 تعاظم تلك التناقضات وسعيها إلى توظيف الدين، قائلاً "تشكل جماعة الإخوان المسلمين المساحة الكبرى في ظاهرة الإسلام السياسي، كما تشكل لغزاً مربكاً للباحثين والمتابعين كما الأنظمة السياسية العربية والعالمية، فالجماعة تبدي طيفاً واسعاً من الأفكار والمبادئ في داخل القطر الواحد، ومن قطر إلى آخر، وإن كانت تجمعها أيديولوجية واحدة هي التطبيق السياسي للإسلام، لكن يبدو ثمة اختلاف واسع في مستوى وطبيعة هذا الفهم والتطبيق"، موضحاً "في حين يبدي حزب النهضة التونسي (الإخوان المسلمون التونسيون) قبولاً بالديمقراطية والتداول السلمي للسلطة ويلتزم بفصل الدعوي عن السياسي، وبمبادئ وقيم ليبرالية وديمقراطية لا تختلف عن القيم الديمقراطية الغربية، فإن الجماعة في مصر والأردن تبدو أكثر تحفظاً وتعصباً، ويشكل حزب العدالة المغربي (الإخوان المسلمون المغربيون) نموذجاً آخر للمتدينين الديمقراطيين المحافظين ضمن المنظومة السياسية والثقافية والدينية المتبعة في النظام السياسي المغربي، وأما حزب العدالة والتنمية في تركيا الملهم للإخوان المسلمين، فيمكن اعتباره حزباً علمانياً محافظاً. وعلى رغم التزام الإخوان في الشرق العربي بالعمل السلمي والديمقراطي فما زالت كتب وأفكار سيد قطب سائدة وملهمة للجماعة، وهي أفكار مناقضة للديمقراطية، كما أنها الأفكار والمبادئ نفسها الملهمة للجمعات المتطرفة والمسلحة".
يشار أنه في أواخر عام 2015 انتقدت الحكومة البريطانية بصورة واضحة حركة الإخوان المسلمين، وقالت في تقرير حول إمكانية تهديد نشاطات الإخوان للأمن القومي البريطاني، إن الارتباط بها يعد "مؤشراً ممكناً على التطرف"، وحينها رأى رئيس الحكومة البريطانية ديفيد كاميرون أن بعض "أقسام حركة الإخوان المسلمين لهم علاقة ملتبسة جداً بالتشدد الذي يقود إلى العنف، وأنها صارت نقطة عبور لبعض الأفراد والجماعات المرتبطين بالإرهاب"، وذلك في تعليق مصاحب للتقرير، مؤكداً أن "حكومته ستعمل على مراقبة نوعية لآراء وأنشطة أعضاء حركة الإخوان المسلمين فوق الأراضي البريطانية".
أمام ذلك، وفي محاولة تبرير إخفاقها السياسي، أعادت الجماعة استخدام خطاباتها الموروثة من أحد أبرز منظريها، وهو سيد قطب، والتي ترتكز على أن "العالم الخارجي هو المخطئ، وأن مشكلة الإسلام تكمن في جهل المجتمع والعداء العالمي فيما يسلم منطقياً بصلاح الفئة العصبة المؤمنة لحمل عبء الدعوة".