ملخص
باكستان ليست حديثة العهد بالنسبة إلى الجدل المتعلق بالدستور إذ إن التاريخ الدستوري للدولة شائك منذ محاولة صياغة المسودة الأولى في العقد الأول من الاستقلال
الظلام يخيم على العاصمة الباكستانية إسلام آباد الواقعة في كنف جبال مارغالا الخضراء، باستثناء مبنى البرلمان الذي يتلألأ بالأنوار ويمتلئ بالنواب في الساعة الثالثة بعد منتصف الليل، حيث يجتمع نواب التآلف الحكومي في هذا الوقت المتقدم من الليل للتصويت على التعديل الدستوري الـ26 بعد محادثات طويلة بين الأحزاب عن المسودة النهائية للتعديل.
لم يكُن هذا التعديل الذي وسع من صلاحيات البرلمان في تعيين قضاة المحكمة العليا وألغى مبدأ الأقدمية في تعيين قاضي القضاة خالياً من النقد والجدل، إذ يرى الناقدون أنه "ذريعة لشرعنة التدخل في النظام القضائي من قبل الحكومة، علاوة على النهج المريب الذي اتبعته أحزاب التآلف الحكومي في تمرير التعديل من تغييب لبعض نواب الأحزاب المعارضة قبيل اجتماع البرلمان، ليظهروا فجأة أثناء الجلسة ويصوتوا لمصلحته على رغم معارضة أحزابهم للتعديل الدستوري.
لكن باكستان ليست حديثة العهد بالنسبة إلى الجدل المتعلق بالدستور، إذ إن التاريخ الدستوري للدولة شائك منذ محاولة صياغة المسودة الأولى في العقد الأول من الاستقلال، إلى أن وافق عليه البرلمان أخيراً عام 1973 بعد 26 عاماً من الاستقلال والتعديلات المتكررة التي طرأت عليه خلال الأعوام التالية.
الأعوام الأولى والمحاولات البائسة
أحرزت باكستان أول تقدم في صياغة الدستور بعد عامين من الاستقلال عندما اعتمدت الجمعية التأسيسية (البرلمان الدستوري) بقيادة لياقت علي خان "قرار المقاصد" الذي أوضح المعالم الأساسية لطريقة الحكم في الدولة الناشئة، إذ نص على أن "السيادة والسلطة النهائية تكون للحكم الإلهي"، كما نص على أن النواب المنتخبين سيعملون على صياغة الدستور.
فهل فعلاً تمت صياغة الدستور بعد ذلك؟. لم يحدث ذلك لأن حال عدم الاستقرار السياسي، لا سيما اغتيال لياقت علي خان عام 1951 وتعاقب حكومات عدة خلال فترة قصيرة حال دون الاتفاق على دستور مستقل للدولة إلى عام 1956 عندما أنتجت الجمعية التأسيسية دستوراً مستقلاً يحوي أكثر من 200 مادة وبيّن طريقة تقسيم السلطة بين الجناح الشرقي والغربي للدولة.
ونص دستور 1956 على أن البرلمان سيتكون من 300 مقعد مقسماً بالتساوي بين باكستان الغربية وباكستان الشرقية (بنغلاديش حالياً)، كما أقر أن اللغة البنغالية ستكون لغة رسمية إلى جانب اللغة الأوردية، استجابة لرغبات الشعب البنغالي وإحساسهم بالشمولية.
لم يمر عامان من إقرار الدستور إلا وسيطر الجيش على السلطة في أول حكم عسكري تشهده البلاد بقيادة إسكندر ميرزا أولاً ثم الجنرال أيوب خان الذي ألغى الدستور وأبدله بمسودة أخرى مغايرة تماماً عن تلك التي أقرها النواب المنتخبون.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الأزمة الدستورية والانفصال
واستمر حكم جنرال أيوب خان العسكري من عام 1958 إلى عام 1969 ليترك دولة متقاسمة في يد خليفته غير الشرعي الجنرال يحيى خان الذي أعلن عقد الانتخابات. وكانت الانتخابات تدور حول صياغة دستور جديد للدولة، إذ قاد الشيخ مجيب الرحمن حملة انتخابية قوية وعد فيها بصياغة دستور جديد يضمن حق البنغال، بينما خالفه في الجناح الشرقي ذوالفقار علي بوتو. واشتدت هذه الخصومة بعد الانتخابات التي فازت فيها جماعة مجيب الرحمن بأكبر عدد من المقاعد وبرزت جماعة بوتو كقوة سياسية كبيرة في الجناح الشرقي من الدولة، إذ شدد مجيب الرحمن على تغيير الدستور لأنه حاز الغالبية ولديه المقاعد الكافية لتشكيل الحكومة. وكان بوتو يرى أن النقاط التي يريد مجيب الرحمن إضافتها إلى الدستور ستؤثر سلباً في النسيج الوطني لأنها تضمن استقلالية الأقاليم. وبعد أشهر طويلة من عدم جدوى المحادثات بين الطرفين، بدأ الجيش الباكستاني بالتحرك في الجناح الشرقي (بنغلاديش حالياً) ضد أنصار حزب مجيب الرحمن، وساءت الأحوال إلى أن تدخلت الهند في الخصومة وانتهت الأمور بانفصال الجناح الشرقي لباكستان واستقلال بنغلاديش عنها.
انقسمت باكستان لدولتين منفصلتين، وبدأ بوتو على الفور بعد تشكيل الحكومة، العمل على صياغة الدستور مجدداً، وأجمع العلماء والقيادات السياسية على ضرورة النظر في المسودات الدستورية السابقة وصياغة دستور جديد للدولة.
وفي عيد الاستقلال الـ26 عام 1973، أقر البرلمان "دستور جمهورية باكستان الإسلامية" باتفاق القوى السياسية والدينية. وفي هذا السياق، يقول رئيس منظمة الشفافية البرلمانية والديمقراطية أحمد بلال محبوب خلال حديث إلى "اندبندنت عربية"، "كان لباكستان تاريخ متقلب في وضع الدستور لثلاثة أسباب، أولاً بسبب وفاة مؤسس الدولة القائد محمد علي جناح في وقت مبكر جداً بعد 13 شهراً من استقلال باكستان، لذلك لم تكُن هناك استمرارية سياسية في باكستان، كما اغتيل الرجل الثاني في القيادة لياقت علي خان بعد أربعة أعوام من الاستقلال. في المقابل، كان الزعيم الهندي جواهر لعل نهرو، رئيس وزراء الهند طوال 17 عاماً بعد الاستقلال. وثانياً، كانت باكستان ستصبح دولة إسلامية لا نموذج معاصر لها، لذلك كان من الصعب كتابة دستور لجمهورية إسلامية تجمع بين الإسلام والحداثة، إضافة إلى أن باكستان كانت دولة فريدة من نوعها يفصل بين جناحيها نحو 1000 ميل من الأراضي المعادية، هذا استلزم نموذجاً فريداً من الحكم الذاتي الإقليمي والذي استغرق وقتاً طويلاً للتطور".
وأضاف محبوب عن التغييرات الدستورية أن "باكستان عدلت دستورها 23 مرة خلال 54 عاماً، وهذه التعديلات ليست كثيرة، إذ إن الهند أجرت تعديلات على دستورها 106 مرات خلال 77 عاماً، مما يعني أن التعديلات التي تجريها باكستان سنوياً تعادل ثلث التعديلات التي تجريها الهند. الحقيقة أن الدستور وثيقة حية يمكن وينبغي تعديلها بحسب الحاجة".
التعديل الدستوري الـ18
أقرت باكستان تعديلات دستورية عدة منذ عام 1973، لكن التعديل الـ18 عام 2010 يعتبر الأهم بين هذه التعديلات، وينص على مواد تعزز سيادة المجلس المنتخب وتقلل من صلاحيات الرئيس، بينما ضمنت عملياً الحكم الذاتي للأقاليم ونقلت مجالات عدة مثل الصحة والتعليم والقانون إلى الحكومات الإقليمية.
ويعبر أحمد بلال محبوب عن أمله في الدستور الباكستاني، قائلاً إن "الدستور يمثل إجماع الشعب وقد بقي محفوظاً حتى أثناء الحكومات العسكرية الثلاث، لذا أتوقع أن يوفر الدستور الأساس لنهضة ديمقراطية في باكستان في المستقبل".