ملخص
لفهم الهوس الذي يبديه اليمين بمقياس "معدل الذكاء"، من الضروري الرجوع إلى جذور فكرة استخدام حاصل الذكاء كمعيار لتقييم القدرات الذهنية للأفراد والتي ارتبطت بصورة وثيقة بمفاهيم تحسين النسل.
يوم الأحد، كنت غير محظوظة بما فيه الكفاية لأجد نفسي داخل رحلة عبر مترو أنفاق نيويورك، تزامنت مع عقد تجمع نظم لعودة دونالد ترمب إلى مقر إقامته في المدينة. مر القطار عبر "ماديسون سكوير غاردن"، إذ قدم الرئيس السابق، وإلى جانبه شخصيات بارزة مثل قطب الأعمال إيلون ماسك، والوجه التلفزيوني الدكتور فيل، والمصارع الشهير والممثل هالك هوجان، وعداً بمواصلة العمل معاً "لاستعادة" أميركا من جهة غير محددة.
كما كان متوقعاً، امتلأت عربة المترو بأنصار مخلصين له، لم يتمكنوا من الحصول على تذاكر لحضور عرض ترمب 2024. وسرعان ما تصاعدت الأجواء واندلع جدل عندما واجه رجل يرتدي قبعة مرقطة تحمل شعار "لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى" (Make America Great Again (MAGA، أحد السياح، متهماً إياه بوضع حقيبته في مكان غير مناسب مما أعاق مدخل العربة.
صاح الرجل صاحب القبعة المرقطة في وجه السائح المرتبك الذي لم يكن لديه مجال لنقل حقائبه، حتى لو أراد ذلك، قائلاً "في بلدك، يمكنك أن تفعل ما يحلو لك بحق الجحيم!". وقد بلغت حدة النقاش ذروتها عندما قال السائح إنه "لا يتحدث الإنجليزية"، ليبادره صاحب القبعة بالقول، بينما كان الآخرون يثبتون أعينهم على هواتفهم متجاهلين حديثه عمداً، "لدي 'معدل ذكاء' مرتفع بصورة لا يصدق، أنا شخص ذكي للغاية".
لم يكن من الواضح تماماً السبب الذي دفع بمؤيد دونالد ترمب إلى الحديث عن الذكاء، وما مدى علاقة ذلك بالوضع داخل عربة القطار. فإن مسألة الذكاء العالي، لا سيما عندما يقاس بـ"معدل الذكاء" IQ، تظل مصدر انبهار مستمر في أوساط اليمين الأميركي. فهذا الأسبوع تحديداً، انتقد ميل غيبسون، الممثل والمخرج الذي اشتهر أخيراً بتصريحاته العنصرية والمعادية للسامية أكثر من أعماله السينمائية، ما اعتبره تدنياً في مستوى الذكاء لدى المرشحة "الديمقراطية" للرئاسة كامالا هاريس. غيبسون الذي يدعم "الجمهوريين"، وهو ليس بالأمر المستغرب، قال لبرنامج "تي أم زي" TMZ (الذي يتابع أخبار المشاهير وينشر فضائحهم) إنه يعد السجل السياسي لنائبة الرئيس "مروعاً"، زاعماً أنه "ليست لديها سياسات تستحق الذكر".
واعتبر غيبسون أن "’معدل الذكاء’ لديها لا يتجاوز "مستوى عمود سياج".
يشار إلى أن ميل أوساط اليمين في الولايات المتحدة إلى الربط بين "عدم كفاءة" المرشحة كامالا هاريس وتدني معدل الذكاء لديها ليس بالأمر الجديد. فقبل يوم واحد فقط من الخطاب الذي ألقاه دونالد ترمب في "ماديسون سكوير غاردن"، كان المرشح الذي اختاره لمنصب نائب الرئيس جي دي فانس يقول مازحاً أمام حشد من المؤيدين في ولاية بنسلفانيا، إنه شعر "بأنه بات أقل ذكاء بنحو 20 نقطة من حيث ’معدل الذكاء’"، بعدما شاهد أحد خطابات المرشحة "الديمقراطية". أما ترمب، فقد اعتاد خلال حملته الانتخابية على وصف هاريس بأنها "منخفضة الذكاء" بصورة متكررة، مما دفعها إلى الرد بتحد عبر عرضها إجراء اختبار معرفي لإثبات عكس ادعاءاته.
وقبل استهداف كامالا هاريس، وجه الرئيس السابق الإهانات نفسها المتعلقة بـ"تدني الذكاء" إلى الرئيس الأميركي جو بايدن. إن هوسه بـ"معدل الذكاء" كمعيار للقيمة الذاتية يعد سمة بارزة في شخصيته، فهل تذكرون عندما أشار إلى نفسه ذات مرة على أنه "عبقري مستقر للغاية؟". حتى إن أحد المساعدين السابقين في البيت الأبيض قال لمجلة "بوليتيكو"، إن هذه المبالغات "تنبع في جزء منها من عامل عدم الأمان لدى دونالد ترمب، ومن خوفه من أن ينظر إليه على أنه شخص غير ذكي".
يمكن القول، إن التركيز المتزايد إلى حد الهوس على مسألة الذكاء، هو موضوع يتكرر بين الديماغوجيين اليمينيين [الأشخاص الذين يستغلون مشاعر الناس وعواطفهم لتحقيق أهدافهم السياسية أو الاجتماعية] الذين غالباً ما يميلون إلى الادعاء بأن "معدل الذكاء" لديهم هو قريب من العبقرية. ففي عام 2013 واجه رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون عندما كان لا يزال عمدة للعاصمة لندن، انتقادات من نيك كليغ زعيم حزب "الديمقراطيين الليبراليين" آنذاك، بسبب "نزعة النخبوية غير المقبولة" و"التحدث عن الناس وكأنهم كلاب". جاء ذلك بعدما أشار جونسون، الذي تلقى تعليمه في مدرسة "إيتون" و"جامعة أكسفورد" العريقتين، إلى أن بعض الأفراد يواجهون صعوبات في الحياة بسبب تدني "معدل الذكاء" لديهم.
كذلك يتباهى إيلون ماسك بأن "معدل الذكاء" لديه هو 155 فيما يرى بسخرية أن مستخدمي "إنستغرام" لديهم "معدل ذكاء" هو في المتوسط "أقل من 100". ويدعي أندرو تيت رجل الأعمال والملاكم السابق أنه يتمتع بمعدل ذكاء يبلغ 148، فيما يؤكد عالم النفس جوردان بيترسون بأن "معدل ذكائه" هو 147. وعلى سبيل المقارنة فإن متوسط "معدل الذكاء" للأشخاص العاديين هو في حدود 100، في حين يعتقد أن العالم الفيزيائي صاحب نظرية النسبية ألبرت أينشتاين، والفيزيائي وعالم الكونيات ستيفن هوكينغ، كان لديهما "معدل ذكاء" قارب 160.
تجدر الإشارة إلى أن منظمة "منسا" Mensa (المعروفة بأنها مجتمع للأفراد ذوي "معدل الذكاء" المرتفع) تشترط أن يكون "معدل الذكاء" للراغبين في الانتساب إلى عضويتها أكثر من 130، وهو ما يمثل نحو اثنين في المئة فقط من سكان العالم. اللافت أن هذه النسبة تشمل بصورة مثيرة للريبة، جميع الوجوه والشخصيات التي تحظى بشعبية خاصة لدى اليمين السياسي.
لفهم الهوس الذي يبديه اليمين بمقياس "معدل الذكاء"، من الضروري الرجوع إلى جذور فكرة استخدام حاصل الذكاء كمعيار لتقييم القدرات الذهنية للأفراد. يكشف هذا البحث أن أصول اختبارات الذكاء مرتبطة بصورة وثيقة بمفاهيم تحسين النسل، وهي مسألة موثقة بصورة جيدة. وكان هذا المجال قد بدأ في التبلور في مطلع القرن الـ20، تزامناً مع تنامي الاهتمام بعلم تحسين النسل ومفهوم "الضعف العقلي"، الذي كان قد حظي باهتمام كبير في الأوساط العامة آنذاك. في تلك الفترة، قام عالم النفس الفرنسي ألفريد بينيه بتطوير أول اختبار عملي للذكاء في فرنسا في عام 1905، وذلك بهدف المساعدة في تسهيل إلحاق الأطفال بالمدارس. وعلى رغم تحذيره من أن نتائج الاختبار ينبغي ألا تستخدم لتقييم الذكاء الفطري أو لوصم الأفراد بصورة دائمة، فقد استخدمت على هذا النحو بالضبط خلال القرن التالي.
يمكن ملاحظة أنه منذ البداية، ومع تزايد شعبية درجات "معدل الذكاء"، المعروفة في ذلك الوقت بـ"مقاييس ستانفورد بينيه للذكاء" Stanford-Binet Intelligence Scales، كانت العنصرية متجذرة في استخدامها، وظاهرة بصورة علنية وصريحة. كتب عالم النفس الأميركي لويس تيرمان أن المكسيكيين والأميركيين من أصل أفريقي والأميركيين الأصليين يعانون "بلادة ذهنية" زعم أنها موروثة من "سلالة عائلية". وتم تصنيف الأفراد ذوي الدرجات المتدنية من الذكاء، على أنهم "معتوهون"، وكثيراً ما كانت هذه الدرجات تستخدم لتبرير عمليات التعقيم القسري لهؤلاء [إجراء يفرض على الأفراد بصورة إجبارية لمنعهم من الإنجاب]. وفي إحدى الفترات، استخدم اختبارات الذكاء التي كانت تجرى على الوافدين في "جزيرة إيليس" (تقع في ميناء نيويورك، وكانت محطة للهجرة الرئيسة إلى الولايات المتحدة في الفترة الممتدة ما بين عامي 1892 و1954)، لتبرير القيود التي فرضت آنذاك على الهجرة، لا سيما من مناطق جنوب القارة الأوروبية وشرقها.
حملة التحول عن استخدام "معدل الذكاء" للقدرات العقلية، بدأت في ستينيات القرن الماضي، عندما أظهرت التحيزات الثقافية تأثيرها في نتائج تلك الاختبارات. فقد دعت مجموعات حقوقية، مثل "رابطة علماء النفس السود" Association of Black Psychologists، إلى وقف إجراء اختبارات الذكاء بين الأقليات. وذكرت في بيان لها أن "الاختبارات النفسية كانت تاريخياً أداة شبه علمية أسهمت في تعزيز العنصرية على جميع الصعد، بحيث أنتجت مجموعة من البيانات المغلوطة التي عززت غرور البيض من خلال تقليل قيمة السود، مما يشكل تهديداً حقيقياً لمجتمعاتهم، ويحفز على إبادتها". وقد حدد علماء النفس المعاصرون أوجه القصور في اختبارات الذكاء، ولاحظوا أن النتائج يمكن أن تنقلب وتتغير مع مرور الوقت، خصوصاً في حالة الأطفال الصغار.
أما علم اختبار الذكاء الحديث، حتى لو لم يكن واضحاً أن ترمب، وماسك، وتيت، وآخرين يتباهون بتصريحات تفوق قدراتهم الواقعية، فهو علم معقد وملتبس. وكما كثير من العلوم، فهو مليء بالدراسات والنتائج المتضاربة والمتناقضة. ومن المؤسف أن هناك ميلاً لدى البعض في معسكر اليسار، إلى استخدام الأساليب المعيبة نفسها التي يستخدمها اليمين، لمواجهة الديماغوجيين والفاشيين والعنصريين. وغالباً ما تحمل الأبحاث والدراسات التي تشير إلى أن القدرات المعرفية المنخفضة مرتبطة بالمعتقدات المحافظة، طابعاً من الرضا الذاتي. على سبيل المثال، أشارت دراسة حديثة أجرتها "جامعة مينيسوتا" إلى أن الذكاء العالي "يرتبط بمجموعة متنوعة من الأيديولوجيات اليسارية والليبرالية". هذا البحث درس نحو 300 عائلة مع التركيز على معدلات الذكاء ومؤشرات الذكاء الجيني المعروفة باسم "الدرجات المتعددة الجينية". ومع ذلك، كان مؤلف الدراسة توباياس إدواردز حذراً في الإشارة إلى أنه "لا توجد قاعدة تنص على أن الأفراد الأذكياء يجب أن يتوافقوا دائماً مع معتقدات أو أيديولوجيات معينة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأشار إدواردز إلى أن "تأثير الذكاء على معتقداتنا غالباً ما يرتبط بالبيئة والثقافة المحيطة بنا"، مضيفاً أنه "إذا نظرنا عبر التاريخ، فسنجد أن كثيراً من الأشخاص الأذكياء تأثروا بأفكار متباينة وحتى متناقضة أحياناً، بما فيها الأفكار الخطرة".
وتابع قائلاً، "كثيراً ما انساق مثقفون وراء أيديولوجيات خطرة، ووقعوا تحت تأثير أنظمة استبدادية. بل إن هناك من الأشخاص الأذكياء الذين آمنوا بأفكار تبدو، بكل بساطة سخيفة."
تحذيرات إدواردز تبدو مشروعة وفي محلها، خصوصاً في ظل تاريخ طويل شهد استخدام اختبارات الذكاء والسياقات الأكاديمية كغطاء لأيديولوجيات خبيثة مثل التفوق العرقي، وتبرير الفاشية. وكان تقرير حديث أعدته مؤسسة "الأمل وليس الكراهية" المناهضة للفاشية Hope Not Hate، قد أظهر وجود ارتفاع مقلق في انتشار أفكار تحسين النسل بين شخصيات يمينية متطرفة، ولدى بعض مؤيدي الإنجاب والإكثار السكاني، الذين يخفون اتجاهاتهم خلف ستار الفكر والذكاء.
لا شك في أن الانجذاب إلى فكرة "أن تكون محافظاً هو أمر سخيف، لكن أن تكون اشتراكياً فهو قمة الذكاء" يمثل إغراء تصعب مقاومته. فقد كانت ردود الفعل المضطربة متوقعة من جانب ركاب الخط "أف" F لمترو الأنفاق في نيويورك، عندما بدأ أحد أنصار ترمب باستعراض ذكائه المزعوم، بحيث تفاوتت ما بين الضحك المكتوم والنظرات الساخرة. وعندما غادر الرجل القطار بعد محطتين طغت عليهما حال من الحرج، انفرجت الأجواء أخيراً وبدأ الركاب بالضحك عليه بعد رحيله. كان واضحاً للجميع أنه أحمق، مما جعل السخرية من سخافته تمنحهم شعوراً بالراحة، تماماً كارتياحنا عندما نسخر من عثرات دونالد ترمب خلال حديثه، أو من سلوك إيلون ماسك وقفزاته المحرجة على المسرح للترويج للشعار الجديد لمنصة "إكس".
إلا أن الضحك على هذه القضايا لا يغير من الواقع شيئاً، وغالباً ما يكون ضرره أكبر من نفعه. من السهل أن نرفض الآراء السياسية السخيفة واعتبارها مجرد حماقات، أو أن نسخر من أولئك الذين آمنوا بـ"الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي" (بريكست)، أو الذين يظنون أن "الديمقراطيين" هم وراء كل شيء وحتى "يتحكموا بالطقس".
لكن في الحقيقة، يبدو أن ذلك يمثل انفصالاً عن الواقع المقلق المتمثل في أن بريطانيا قد خرجت من الاتحاد الأوروبي، وفي أن الأميركيين قد اختاروا دونالد ترمب رئيساً. إن السخرية من خصومنا الأيديولوجيين بسبب ما نعده غباء، لم تؤد إلا إلى تعزيز تشتت المجتمع وتزايد انقساماته بصورة لم يسبق له مثيل.
اليوم، يطالب العلماء بضرورة تبني طرق أكثر شمولاً في قياس الذكاء والقدرة، تأخذ في الاعتبار دمج المعرفة المكتسبة وأنواع المهارات المختلفة. ويوضح اقتباس شائع، غالباً ما تتداوله الأمهات على منصة "فيسبوك" الفكرة التي تقول إن "الجميع عباقرة، لكن إذا قمت بالحكم على سمكة بناءً على قدرتها على تسلق شجرة، فستقضي حياتها كلها معتقدة أنها غبية". هذا الاقتباس ينسب في العادة إلى ألبرت أينشتاين الذي يعد أحد أعظم العباقرة في التاريخ. ومع ذلك، فإن المؤرخين لا يزالون غير متأكدين من مصدره، أو حتى مما إذا كان أينشتاين قد قاله بالفعل. لكن، متى كانت الحقائق ذات تأثير في النقاشات والآراء المتعلقة بالذكاء؟ إن تجاهلها يعد تصرفاً غبياً وغير حكيم.
© The Independent