ملخص
النوستالجيا من أكثر الحالات الطبية دراسة في القرن الـ19 وكان يعتقد أنها تتسبب في تسارع نبضات القلب وتمزقات غير مبررة في البشرة فضلاً عن الاكتئاب واضطراب النوم.
في الأعوام الأخيرة ظهرت أكثر من قناة عربية تحتل مفردة "زمان" جزءاً من اسمها، وتقوم حصراً على إعادة بث برامج ومسلسلات قديمة، كما خرجت إلى النور إذاعات يقتصر دورها على بث الأغاني التي تفصلنا عقوداً غير قليلة عن الفترات التي ظهرت فيها للمرة الأولى. وحازت هذه المنابر اهتماماً ومتابعة مخلصة من قطاعات غير قليلة من الجماهير، فضلاً عن مواقع على الإنترنت تتيح أراشيف لكل شيء، وتحظى هي الأخرى بإقبال كبير.
ومن ثم فقد يعجب أو يغضب مدمنو متابعة هذه القنوات والإذاعات والمواقع، وأنا منهم حينما يعلمون أن دافعهم إلى هذه المتابعة المخلصة قد يكون مرضاً خطراً. أو هكذا كانت النظرة إلى "النوستالجيا" عام 1688 حينما اعتبرها الطبيب السويسري يوهاناس هوفر مرضاً "ربما يفضي إلى الموت"، ونحت له اسماً من كلمة غريبة على المعاجم مؤلفة من كلمتين يونانيتين هما "نوستوس" أي (الرجوع إلى الوطن) و"ألغوس" أي (الألم): نوستالجيا.
كتب ماثيو ريس في صحيفة "الغارديان" في 21 مايو (أيار) الماضي، أن المؤرخة أغنيس آرنولد فورستر كانت قارئة نهمة للروايات في طفولتها، وكان ينتابها شعور بحنين جارف إلى ماض لم تعشه ولم تر إلا طرفاً منه مروياً في الروايات، لكن حتى هذا النزر الضئيل كان كفيلاً بأن تتوسل مراراً، ودونما جدوى إلى والديها لكي ينقلاها من مدرستها الابتدائية في لندن في تسعينيات القرن الـ20 إلى مدرسة داخلية "في كورنوال الخمسينيات". وكانت كورنوال (مقاطعة إنجليزية) موجودة، وربما المدارس الداخلية أيضاً كانت موجودة، لكن كيف كان للأبوين المسكينين أن يدبرا لها حقبة الخمسينيات؟
يكتب ماثيو ريس أنه "على رغم أن دراسة أغنيس آرنولد فورستر الأكاديمية للتاريخ فإنها علمتها أن ترتاب في مثل هذا الحنين إلى ماض خيالي، إذ أصدرت الآن كتاباً يجمع بين التحليل التاريخي واسع النطاق والدفاع المتحفظ الحذر عن النوستالجيا". وصدر هذا الكتاب حديثاً بعنوان "النوستالجيا: تاريخ عاطفة خطرة" عن دار بيكادور في نحو 270 صفحة تمزج بين علمي الأعصاب والنفس وتاريخ الطب والعواطف لاستكشاف تطور النوستالجيا منذ التعرف الأول عليها في سويسرا خلال القرن الـ17 حينما كانت تعد مرضاً قد يؤدي حرفياً إلى الموت، وحتى يومنا هذا الذي بات فيه الساسة والوكالات الإعلانية على السواء يستعملون الكلمة ليبيعوا لنا بها السلع أو السياسات.
يكتب ناشر الكتاب أن النوستالجيا عاطفة اجتماعية وسياسية، وهي كلمة كثيراً ما تتعرض لسوء الاستعمال، ولكنها كثيراً ما تعكس أيضاً مخاوفنا من العصر الذي نعيشه. والنوستالجيا طريقة من طرق عدة نعرب بها عن رغبتنا في الماضي، وسخطنا على الحاضر، ورؤانا للمستقبل. وتأريخ أغنيس أرنولد فورستر الرائع لهذه العاطفة المعقدة والمخاتلة يمثل عدسة يمكن من خلالها النظر للوتيرة التي يتغير بها المجتمع، وما لدينا جميعاً من مشاعر الندم والتيه والانتماء، وظروف العمل الحديثة، وسياسات الخوف والقلق. والكتاب أيضاً تحليل واضح لما نفعله الآن ولشعورنا تجاهه ولما قد نرغب في تغييره في العالم الذي نعيش فيه.
في استعراضها الكتاب في صحيفة "الغارديان" أيضاً منشور في الـ11 من أبريل (نيسان) الماضي، تكتب كاثرين هيوز أن المؤرخين الأكاديميين في العقدين الأخيرين نزعوا إلى تأريخ العواطف فنجمت عن ذلك بعض الأعمال الممتازة والكاشفة، "وفي حين يفتقر كتاب النوستالجيا إلى التنظيم الصارم الذي يغلب على أفضل هذه الكتابات الأكاديمية، فإنه يوفر كثيراً من سبل التفكير في ذلك الألم الذي يشعر به كثير منا تجاه (وطننا البعيد) بحسب تعبير الروائي سي أس لويس الذي كان يعرف كثيراً عن الحنين بحسب ما تشهد به كتب نارنيا".
تمضي كاثرين هيوز فتشير إلى أن تقارير صحافية نشرت في سبعينيات القرن الـ20 عن رجل من ولاية أيوا الأميركية يعذبه حنين جارف إلى الأعوام الـ16 الممتدة منذ 1752 إلى 1768، أي إلى عهد لم يعرفه معرفة مباشرة، وربما لم يعرفه والده أو حتى جده. وعلى رغم ذلك كان حنينه إلى تلك السنوات جارفاً، وكان سبب شقائه أنه لا يجد أحداً يمكن أن يشاركه هذا الحنين العميق إلى العهد الذي كانت الكهرباء فيه لا تزال محض شائعة يتناقلها الناس، وكانت أميركا لا تزال تتباهى بإحساسها أنها بريطانية.
"لكن هل يعد هذا الإحساس نوستالجيا حقاً؟ أليس في حقيقته محاولة للفت الأنظار، وطريقة يتبعها رجل من أيوا ليقول إنه قد يكون مقيد الجسد في حقول الذرة، لكن عقله يهيم حراً طليقاً في المراعي الرائعة التي يرتدي فيها النبلاء الشعر المستعار ويحرصون ألا يسافروا إلا في ليالي اكتمال القمر؟ ذلك ما لا تجيب عنه أغنيس أرنولد فورستر، لكن الحكاية نفسها تتيح لها أن تلفت الانتباه إلى مخاتلة مفهوم النوستالجيا نفسه. أهو إحساس مشروع عابر لحقب التاريخ، شأن الحزن أو الغضب؟ أم إنه قد يكون بالأحرى خليطاً ثقافياً أو تصوراً يعبر عن مكان وزمان معينين (هما في حالة رجل أيوا أي أميركا ما بعد فيتنام في عهد جيرالد فورد)؟ والأهم من ذلك كله هو هل بوسع المرء أن يشعر نوستالجيا إلى زمان ومكان لم يعش فيهما بنفسه أصلاً؟".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في هذا الكتاب واسع النطاق، تثير آرنولد فورستر كثيراً من الأسئلة، وفي حين أنها لا تقدم كثيراً من الإجابات، فهي تغطي في طريقها مجالاً كبيراً مثيراً. وصفة "الخطر" التي تحتل جزءاً من عنوان كتابها الفرعي تنطبق بوضوح على المجال السياسي. ابتداء من البيت (و"البيت" مفهوم محوري هنا، إذ هو مكان اللجوء العاطفي والمادي الذي يتوق سعداء الحظ منا إلى الرجوع له) تمضي إلى كارثة الـ"بريكست" عام 2016، فتستشهد بمايكل بارنير كبير مفاوضي الاتحاد الأوروبي لتقول إن التصويت بمغادرة أوروبا كان تعبيراً مباشراً عن "نوستالجيا تشعر بها بريطانيا إلى الماضي"... وهناك أيضاً خطاب دونالد ترمب المرعب الذي يتكرر فيه تعبير "مرة أخرى" على نحو لا يضاهيه إلا تكرار تعبير "إعادة"، فيوشك هذا الخطاب أن يرقى إلى مهمة استعادة، ووعد بإرجاع أميركا إلى حالة سابقة من الكمال غير واضحة التعيين.
ومثلما يلتفت كتاب أرنولد فورستر إلى الـ"بريكست" وحمى إعادة أميركا إلى عظمتها من جديد "MAGA" فإنه يفسر بالنوستالجيا بعض أحداث الماضي ووقائعه السياسية، فضلاً عن إشارته إلى مواطن أخرى للرعب في الزمن الراهن، فـ"من المثير للرعب أيضاً" ـ مثلما يكتب ماثيو ريس في استعراضه بصحيفة "الغارديان" في 21 مايو الماضي، أن الكتاب يكشف عن "توق الناس في بلاد الكتلة الشرقية السابقة إلى الحكم الشيوعي المطلق الذي عاشوه في شبابهم".
ومن الأقسام المثيرة في الكتاب قسم يستكشف الحنين إلى الحقبة الشيوعية في أوروبا الشرقية، وينعكس ذلك الحنين في إحياء بعض أطعمة السبعينيات، وفي جهود كبيرة بذلت لإنقاذ صورة ضوئية لرجل يعتمر قبعة كانت تظهر في إشارات المرور للدلالة على إمكانية عبور المشاة، فهنا بحسب ما تكتب آرنولد فورستر "تذكر النوستالجيا الناس بأنهم كانت لهم حياة مثيرة في ما قبل عام 1989 لن يروق لهم "اختزالها في صورة كاريكاتيرية سوداء" للقمع والكآبة حتى "لتعد حياة عديمة المعنى".
وتأكيداً لتلك النوستالجيا التي تروج في أوروبا الشرقية، تبرز كاثرين هيوز في الكتاب إشارة إلى أنه "في عام 2004 ظهرت قناة نوستالجيا التلفزيونية في روسيا، رافعة شعار المطرقة والمنجل، وهي الآن تبث إرسالها في مناطق العالم ذات الهجرات الكبيرة من أوروبا الشرقية، ومن بينها الولايات المتحدة وألمانيا وإسرائيل. وإضافة إلى بثها برامج حوارية وأفلاماً وثائقية وبرامج تلفزيونية عمرها عقود من الزمن، تبث قناة نوستالجيا أيضاً برامج إخبارية ونشرات جوية ترجع إلى زمن الحرب الباردة. وفي الوقت نفسه أعيد في بولندا بث مسلسل من زمن الستينيات عنوانه "أربعة سائقي دبابة وكلب" ست مرات منذ عام 2001. والأعجب من ذلك كله أن 66 في المئة من الشعب الروماني يزعمون أنهم كانوا ليصوتوا لنيكولا تشاوتشيسكو لو كان حياً اليوم".
تمضي كاثرين هيوز فتقول، إن "بعض المفكرين الصارمين يرون أن هذا الضرب من الحنين الزماني أو المكاني لا يعدو مرضاً شخصياً. وفي حقبة ما بعد الحرب، شخص المحلل النفساني ناندور فودور ما يشعر به حديثو المهاجرين من أوروبا إلى أميركا من توق إلى "البلد القديم" بأنه رغبة مقنعة في الارتداد إلى أرحام الأمهات ليبقوا هناك يتأرجحون في السائل الأمنيوسي إلى الأبد".
لقد كان فودور ينتمي إلى جيل اضطر إلى الفرار من الاضطرابات السياسية في أوروبا الشرقية، فليس غريباً أنه يكون قد شعر بالضيق من حالة "تأمل الماضي". وثمة كاتب آخر هو أوتو بيتمان كان قد غادر ألمانيا النازية ليبدأ حياة جديدة في الولايات المتحدة فعبر عن مثل موقف فودور في كتاب صدر له عام 1974 بعنوان "تلك الأيام الخوالي الجميلات ـ لقد كانت رهيبة".
وفي موازنة لهذا الموقف "الذي يبدو قاسياً اليوم"، تستشهد آرنولد فورستر بعالم نفس عيادي يبرز ثقل الدور الذي قد يلعبه الشوق إلى "الوطن" في تجربة الهجرة، إذ إنه في شأنه أن يوازن الميل المقلق إلى الإفراط في تشخيص هؤلاء المرضى باضطراب ما بعد الصدمة أو الإجهاد أو الاكتئاب.
ويلفت ماثيو ريس في مقاله عن الكتاب النظر إلى الفارق بين علماء الأعصاب والمؤرخين في التعامل مع العواطف، ففي حين يتعامل علماء الأعصاب معها باعتبارها ظواهر إنسانية مطلقة، يحرص المؤرخون على رصد كيفية تغير الكلمات التي نستخدمها لوصف مشاعرنا، بل والمشاعر نفسها، مع مرور الزمن.
تقول آرنولد فورستر إن "النوستالجيا كانت من أكثر الحالات الطبية دراسة في القرن الـ19" إذ كان يعتقد أنها تتسبب في "تسارع نبضات القلب وتمزقات غير مبررة في البشرة" فضلاً عن الاكتئاب واضطراب النوم. وتم رصدها للمرة الأولى لدى المرتزقة السويسريين في القرن الـ17 وأشير إليها باعتبارها "نوعاً من حب الوطن المرضي، وحالة خطرة وحادة من الحنين إلى الوطن". و"لافتراض أن المصابين بالنوستالجيا كانوا يعانون شوقاً إلى الهواء الجبلي النقي، اقترح أحد الأطباء وضعهم في أبراج شاهقة لكي يتعافوا. ولم يحدث حتى أوائل القرن الـ20 أن بدأ التمييز بين الحنين إلى الوطن والنوستالجيا".
وحدث أيضاً في سبعينيات القرن الـ20 أن بدأ الصحافيون في الاهتمام الشديد بـ"موجة نوستالجيا" مستدلين على وجودها بانتشار "أنماط ملابس غاتسبي" و"أفلام الأيام الخوالي" وسوق التحف والمقتنيات المتفجرة". ويوعز البعض ذلك إلى آثار التغير التكنولوجي التخريبية، بينما يشير أحد المنتجين التلفزيونيين إلى أننا مهووسون بعقد التسعينيات لأنه العقد الأخير الذي كان الناس فيه يرفعون رؤوسهم إلى السماء بدلاً من أن يطأطئوها إلى شاشات الهواتف".
وليس في هذا جديد. فالهلع الأخلاقي المصحوب بدعوات الرجوع إلى بساطة الماضي كان دائماً بمثابة الترحيب الثابت بظهور كل "التقنيات الجديدة" المرعبة من قبيل الهواتف والقطارات. وترجو أرنولد فوستر أن نظرها في تاريخ النوستالجيا "قد يساعد في تخفيف بعض القلق" إذ يظهر لنا أننا "سبق أن مررنا بفترات تغير سريع نجت منه الإنسانية".
غير أن بيكا روثفيلد تقطع في استعراضها للكتاب في سطور نشرتها صحيفة "واشنطن بوست" في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري بأن النوستالجيا مرض عالمي ما من علاج فعال له، وأنها على مدار التاريخ خدمت غايات سياسية، فاليساريون من أمثال الماركسيين الذين حلموا بـ"الشيوعية البدائية"، والاشتراكيون الذين مجدوا "الصفقة الجديدة" في أميركا، إنما كانوا ذات يوم من أكثر المروجين فعالياً للنوستالجيا. وتمضي روثفيلد إلى ما يشبه نداء أو استنفاراً فتقول، إن "خيارنا الوحيد هو أن نصارع على الماضي والمستقبل بالتبعية، أولئك الذين شوهوه" مستشهدة بغرافيتي طريف يرجع إلى عام 1974 في لندن إذ كتب أحدهم أن "النوستالجيا نفسها لم تعد كما كانت" فكأنه يعبر عن نوستالجيا إلى حالة نوستالجيا أشد نقاء.
غير أن آرنولد فوستر، مثلما يشير ماثيو ريس، تسعى بصفة عامة إلى تحدي فكرة أن النوستالجيا محض "مرض، وإفراط شعوري، وغباء"، وتسعى إلى الاحتفاء بفوائدها وإلى أن ترفع عنها وصمة "ربطها بالشعبوية والفراغ الفكري".
تذهب أرنولد فورستر إلى أن من الممكن تسخير النوستالجيا في "تأسيس الالتزام بقضايا تقدمية أو محافظة"، وتضرب مثلاً لذلك بأن "القصص التي تبعث البهجة في الصحافة المحلية في شأن المستشفى المحلي، والمسلسلات الدرامية التاريخية التي تصور القابلات في حقبة الخمسينيات، وظهور ممرضات الأطفال الراقصات" في حفل افتتاح الألعاب الأولمبية سنة 2012، قد تؤدي إلى "المساعدة في دعم الهيئة الوطنية للخدمات الصحية وازدهارها واستمرارها".
بل إن أرنولد فورستر تستند إلى بحث يشير إلى إمكانية أن تؤدي النوستالجيا دوراً علاجياً مهماً في تأخير الخرف مثلاً، وقد يكون هذا هو الخبر الجيد الذي يحمله هذا المقال للجالسين إلى الآن، ومنذ تسعينيات القرن الماضي، أمام شاشات التلفزيون. يتابعون مسلسلات "ليالي الحلمية" و"رأفت الهجان" و"باب الحارة"، ولآبائهم الساهرين منذ سبعينيات القرن الـ20 وحتى فجر يومنا هذا أمام أغنية لأم كلثوم لا يبدو مهما انتهت أنها يمكن أن تنتهي.
العنوان: Nostalgia: A History of a Dangerous Emotion
تأليف: Agnes Arnold-Forster
الناشر: Picador