ملخص
منذ 18 عاماً يحتفل "حزب الله" بذكرى ما يسميه "الانتصار الإلهي" في حرب يوليو (تموز) 2006، إذ يصر على تصوير تلك الحرب كملحمة بطولية انتهت بنصر مؤزر، متجاهلاً أن ذاك "الانتصار" كلف لبنان مقتل 1200 شخص، وخسائر اقتصادية مباشرة قدرت بـ2.8 مليار دولار.
واليوم تتكرر أسطوانة الانتصار نفسها.
لم تكد تمر ساعات قليلة على دخول الهدنة بين "حزب الله" وإسرائيل حيز التنفيذ، حتى أصدر الحزب بياناً أعلن فيه أن "المقاومة" تمكنت من تحقيق النصر على العدو الواهم، فيما أطل لاحقاً الأمين العام الشيخ نعيم قاسم ليصدم اللبنانيين بقوله "قررت أن أعلن بشكل رسمي وواضح أننا أمام انتصار كبير يفوق الانتصار الذي حصل في يوليو 2006".
منذ 18 عاماً يحتفل "حزب الله" بذكرى ما يسميه "الانتصار الإلهي" في حرب يوليو (تموز) 2006، إذ يصر على تصوير تلك الحرب كملحمة بطولية انتهت بنصر مؤزر، متجاهلاً أن ذاك "الانتصار" كلف لبنان مقتل 1200 شخص، وخسائر اقتصادية مباشرة قدرت بـ2.8 مليار دولار، وتدمير البنية التحتية والمنازل والمرافق العامة وتشريد الآلاف.
وفي عود على بدء، يصر "حزب الله" على تقييم نتائج الحرب الأخيرة بأنها "انتصار"، إذ يجاهر أنصاره بالنصر عبر احتفالات وأناشيد دينية ومواكب سيارة جالت في مناطق مدمرة بالكامل ولم يبق فيها حجر على حجر، علماً أن هذه الحرب توقفت بعد توقيع "اتفاق" تقاطعت معظم الآراء على توصيفه بـ"الاستسلام"، وبينما "المنتصر" يحتفل لا تزال 72 قرية حدودية تحت السيطرة الإسرائيلية، ومئات الآلاف من المواطنين مشردين، مما طرح نقاشاً واسعاً حول تفسير علمي "للنصر" الذي لو يقاس بحجم المعاناة والخراب، فربما يكون هذا "الانتصار" هو الأعظم في التاريخ البشري.
التوازن الإقليمي
وعندما يفسر أحد "عقلاء" الحزب معنى النصر ومعاييره، يغوص في التحليلات العالمية وأبعادها الدينية ليخرج باستنتاج أن مقياس "النصر" ليس بحجم الدمار والتهجير، إنما بمنع "العدو" من تحقيق أهدافه، وأن "حزب الله" أسقط هدف إسرائيل بتغيير توازن القوى في الشرق الأوسط، وإسقاط مشروع أميركا بإقامة شرق أوسط جديد يبدأ بسحق "المقاومة"، فيما يتجاهل الحديث عندما يسأل عن أهداف "الممانعة" إذا كانت لا تزال قابلة للتحقيق، لاسيما أن لإنشاء "المحور" وفصائله هدفاً مركزياً هو "إزالة إسرائيل من الوجود، وتحرير القدس، وإسقاط الاستكبار العالمي، و..."، لتنكشف الحقيقة وهي أن هذه الشعارات ليست إلا غطاء لتبرير هزيمة واضحة، ومحاولة لإخفاء عجز الحزب عن تقديم أية سردية واقعية لما جرى.
ولعل أبرز تعبير تهكمي تداوله اللبنانيون لفهم وشرح "انتصار حزب الله" هو مقارنته بقصة مباراة كرة القدم بين ألمانيا والبوسنة والهرسك في نوفمبر (تشرين الثاني) في دوري الأمم الأوروبية، حينها انتهت المباراة بنتيجة 7-0 لصالح ألمانيا، وتناقلت مواقع إخبارية كلاماً لمدرب المنتخب البوسني عد فيه النتيجةانتصاراً لفريقه إذ زعم أنه منع ألمانيا من تسجيل نتيجة 10 -0.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذا هو بالضبط المنطق الذي يتبعه "حزب الله": تحويل الهزائم إلى روايات نصر أسطوري، وإقناع جمهوره بأن ما يعانيه لبنان هو "ثمن الصمود"، ولكن ما الفائدة من الصمود إذا كان ينتهي بمزيد من الركام؟
الانتصار بـ"الاتفاق"
من السخرية أن هذا "الانتصار العظيم" انتهى باتفاق وصف بأنه "غير متكافئ" بكل المقاييس، فالحزب سيجبر على الخروج من جنوب الليطاني، وفصل ساحتي لبنان وغزة، وتسليم الجنوب للجيش اللبناني، ناهيك بمنح إسرائيل الحق في استهداف أي موقع داخل لبنان تعتبره تهديداً لأمنها القومي.
فيما كان موقع الاتفاق والمفاوض رئيس مجلس النواب نبيه بري، من يتباهى ويتفاخر أنه أسقط اتفاق 17 مايو (أيار) عام 1983، الذي وقع في عهد الرئيس أمين الجميل، الذي أعطى حينها حقوقاً كثيرة للبنان أقلها ما يعادل 500 مليار دولار من حقول نفطية في البحر، بدل "بيعها" لإسرائيل وفرنسا في اتفاق ترسيم الحدود البحرية الذي وقع قبل سنوات قليلة.
أما عسكرياً وأمنياً فنص اتفاق 17 مايو على تراجع الجيشين اللبناني والإسرائيلي بصورة متساوية عن الحدود، عكس ما يحصل راهناً، إذ إن إسرائيل موجودة في خط حدودي داخل لبنان، وسط تشكيك فعلي بأن تخرج منه.
إذا كان هناك درس يمكن استخلاصه من كل هذه الأحداث، فهو أن الانتصار الحقيقي لا يقاس بالشعارات ولا بالمواكب الاحتفالية. النصر هو في استعادة السيادة الوطنية اللبنانية، في حماية أرواح المدنيين وممتلكاتهم، وفي بناء دولة قوية تحمي شعبها من الحرب والدمار، أما "الانتصارات" التي تباع في خطابات حزبية، فهي ليست أكثر من محاولات لتجميل الهزيمة بألوان زاهية، مهما بلغ جمال الطلاء يبقى الركام في الأساس هو الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها.
يبقى السؤال: هل يستحق لبنان كل هذا العبث؟ هل يستحق شعبه أن يكون ضحية لمغامرات غير محسوبة تبرر بشعارات "انتصارات إلهية"؟ ربما حان الوقت لإعادة النظر في مفهوم النصر والهزيمة، والبحث عن سبل حقيقية لحماية الوطن والمواطن، بعيداً من الأوهام والخطابات الرنانة، وبعيداً من "طبقة" سياسية تقتنص الفرص لتجديد وجودها في السلطة، فمن كان سبباً في الخراب لا يستطيع أن يكون صالحاً للنهضة والازدهار.
والسؤال الأخير الذي لا بد من طرحه: هل لجمهور "حزب الله" أصول بوسنية؟