Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.
يحدث الآن

مكارثي المستعاد... أو "الفزع الأحمر" مجددا

كتاب يرى أن جذور اليمين المتشدد في أميركا اليوم تمتد إلى زمن استئصال المتعاطفين مع الشيوعية في الخمسينيات الحالكة

قد لا يوجد تشخيص أفضل من هذا لمأزق حقبة الترمبية التي نعيشها (اندبندنت عربية)

ملخص

إنه يرسم صورة للفزع الأحمر باعتباره معركة ثقافية أججتها توترات الحرب الباردة العميقة في منتصف القرن، ويقول بوضوح إن الفزع الأحمر صراع لم يخمد قط، ويشبه القوة التدميرية للهب المكارثية بفحم ظل مضطرماً تحت الأرض على مدى غالب القرن الماضي.

في مقال نشرته "نيويورك تايمز" أخيراً بعنوان "لا تخدعوا أنفسكم بأن الأمر سيقتصر على جامعة كولومبيا"، كتب ديفيد فرنش عن قيام السلطات الأميركية أخيراً بملاحقة محمود خليل، طالب الدراسات العليا السابق في الشؤون الدولية بجامعة "كولومبيا"، وسعيها إلى ترحيله من الولايات المتحدة زاعمة أن لنشاطه السياسي تأثيراً سلبياً في السياسة الخارجية الأميركية، والأمر أن خليل كان من قيادات التظاهرات التي احتجت على الرد الإسرائيلي الغاشم على هجمات "حماس" في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، وقد كتب فرينش محذراً من أن انتهاك إدارة ترمب حرية التعبير لن يقتصر على جامعة واحدة بل هو أول الغيث في حقبة شبيهة بحقبة المكارثية الغابرة السيئة السمعة في التاريخ الأميركي الحديث.

غير أن هذه الحقبة الجديدة تشهد التعامل مع مناصرة القضية الفلسطينية بمثل ما عوملت به الشيوعية من قبل في عهد المكارثية، أو الفزع الأحمر، و"في حين ننظر بخجل إلى تجاوزات المكارثية في الماضي، فإننا سننظر بخجل إلى تجاوزات اللحظة الراهنة، إذا سمحنا لغضبنا من تظاهرات الحرم الجامعي أن يطغى على التزامنا الإجراءات القانونية الواجبة والتزامنا حرية التعبير".

مثل ملاحقة الساحرات

كتب فرينش يقول "إنني لست أول من يعقد هذه المقارنة" بين لحظة أميركا الراهنة ولحظة الفزع الأحمر وملاحقة الشيوعيين في فترة الحرب الباردة بمثل ملاحقة الساحرات في القرون الوسطى. ولعل الكاتب كلاي رايزن كان من هؤلاء الآخرين الذين انتبهوا إلى هذا التماثل وقصدهم فرينش، فقد أبدى رايزن تخوفاً مماثلاً، لا من إحلال القضية الفلسطينية محل الشيوعية بالضرورة، وإنما من أن جذور ما تعيشه أميركا اليوم يكمن في حقبة الفزع الأحمر، فقد أصدر كلاي رايزن حديثاً كتاباً بعنوان "الفزع الأحمر: القوائم السوداء والمكارثية ونشأة أميركا الحديثة" في 460 صفحة تفصل أسباب تخوفه هذا.

تكتب جيسيكا ماثيوز ["فورين أفيرز" - الـ25 من فبراير (شباط) 2025] أن المؤرخ والصحافي كلاي رايزن يعتقد أن جذور اليمين السياسي المتشدد في أميركا اليوم تمتد إلى زمن الفزع الأحمر الذي دام منذ أواسط الأربعينيات في القرن الـ20 وحتى عام 1957، حينما حاول المشرعون الأميركيون استئصال المتعاطفين مع الشيوعية من الحياة العامة في أميركا، ولا تتطابق حركة "ماغا" MAGA (أي إعادة أميركا إلى عظمتها من جديد) التي تدعم دونالد ترمب مع حركة مناصرة النائب جوزيف مكارثي في خمسينيات القرن الـ20 أو غيرها من الحركات اليمينية المؤثرة في الستينيات من القرن نفسه، ولكن ماغا، في ما يرى رايزن، تشترك معها في قدر كافٍ من الحمض النووي الثقافي، "بحيث إن معرفتنا للموضع الذي نقف فيه اليوم تستوجب فهم الموضع الذي كنا فيه من قبل".

 

ويصف رايزن، بسرده السلس، تحقيقات الكونغرس المطولة التي أجرتها لجنة مجلس النواب المعنية بالأنشطة غير الأميركية، ولجنة مجلس الشيوخ بقيادة مكارثي، وانتهاكات اللجنتين الصارخة القانون والحقوق المدنية وقوائمهما السوداء وحظرهما للكتب واختبارات الولاء والاختيارات المستحيلة التي فرضت على كل من مسَّتهم أوهى الشبهات وأكثرها افتقاراً لأي أساس، ولكن التاريخ الذي يقدمه رايزن يتجاوز قوائم هوليوود السوداء إلى الكشف عن قصص مؤامرات نالت من معلمين ونشطاء في حركات الحقوق المدنية بما أدى إلى "إلغاء" أفراد في مجالات الاقتصاد والحكومة وفي أي مجال له تأثير في الثقافة السائدة.

وكان كيفن بيراينو أشد وضوحاً في استعراضه الكتاب ["نيويورك تايمز" - الـ14 من يناير (كانون الثاني) 2025] فجعل عنوانه هو "إعادة أميركا إلى الفزع الأحمر من جديد"، مدخلاً تحريفاً هيناً على تسمية الحركة المناصرة لترمب والشعار الذي أقام عليه حملتيه الانتخابيتين.

يكتب بيرانيو أنه حينما حانت نهاية النائب جو مكارثي كان إدوارد مورو المذيع في "سي بي أس" هو من وجه إليه الضربة القاضية التي لم يبرأ منها قط، فقد قال إن منجز مكارثي الوحيد هو أنه "أربك الرأي العام"، لكن مورو أدرك أيضاً عمق الأخطار المحدقة بعقل الشعب الأميركي فدعا الأميركيين إلى "القبول بتواطئهم في مأساة المكارثية"، فمكارثي "لم يخترع حال الخوف" من الشيوعية بحسب ما قال مورو، "ولكن ما فعله حقاً هو أنه استغلها"، واستشهد المذيع بشكسبير ليؤكد مغزى كلامه "ليس الخطأ يا عزيزي بروتس في الأقدار والنجوم، إنما الخطأ فينا نحن".

مأزق حقبة الترمبية

يكتب بيرانيو أنه "قد لا يوجد تشخيص أفضل من هذا لمأزق حقبة الترمبية التي نعيشها، فالرجوع إلى حقبة الفزع الأحمر يكشف لنا قدراً كبيراً مما وصل بنا إلى ما نحن فيه الآن، فمثلما يتبين من كتاب كلاي رايزن الجديد، الغني بالتفاصيل، الوثيق الصلة باللحظة الراهنة، فإن في زمننا هذا أصداء من زمن المكارثية في منتصف القرن الـ20".

يصر رايزن - الصحافي في "نيويورك تايمز" الذي كتب من قبل في تاريخ ثيودور روزفلت فضلاً عن كتب أخرى - على أنه "غير معني برصد التماثلات بين الماضي والحاضر"، لكنه يغري بالبحث عن هذه التماثلات بحسب بيرانيو الذي ينقل عن رايزن قوله إنه "يترك للقارئ مهمة العثور على هذه التماثلات إن شاء"، ويقطع بيرانيو بأن رايزن في كتاب الفزع الأحمر "يتماس مع مناهضة الفاشية وتفوق البيض والنشاط السياسي في الجامعة ومناهضة النخبوية وثقافة الإلغاء وادعاء الفضيلة والتحرش الإلكتروني (بفضح المعلومات الشخصية) وحظر الكتب والتدخل في الانتخابات والعنصرية في معاداة المهاجرين وتجاوزات مكتب التحقيقات الفيدرالي ونظريات المؤامرة ومعاداة السامية ودولة المراقبة ومعاداة الاستعمار وعائلة كوخ والقومية المتطرفة القائمة على شعار (أميركا أولاً)"، ولا شك أن بعض بنود هذه القائمة مفهوم ذاتياً، وبعضه في حاجة إلى شيء من التوضيح، لكن المغزى عموماً هو أن رايزن يتناول في كتاب "تاريخي" يؤرخ لمنتصف القرن الـ20، كل هذه المواضيع الآنية الساخنة التي يختلف حولها الأميركيون، الآن ومنذ أعوام طويلة، وتؤثر في اختياراتهم لحكوماتهم اليوم.

يؤرخ رايزن - بحسب ما ينقل عنه بيرانيو - بداية الموجة الثانية من الفزع الأحمر بعام 1946 (وكانت الموجة الأولى قد اندلعت خلال الحرب العالمية الأولى) حينما توجه بيلي ويلكرسن، ناشر مجلة "هوليوود ريبورتر"، وهو الرجل المحافظ المعادي للشيوعية ليعترف أمام القسيس في كنيسته الكاثوليكية فقال "أبتاه، سأبدأ حملة، وسوف تلحق ضرراً كبيراً، ولا أعرف ماذا أفعل"، فقال له القسيس "فلتنل من هؤلاء الأوغاد يا بيلي".

على مدى العقد التالي دمر المناهضون للشيوعية، بحماسة صليبية، ما لا حصر له من مصادر الرزق، دافعين بأخيار من الرجال والنساء إلى الجحيم على الصعيد المهني، بل وإلى الانتحار في بعض الحالات. وحتى من نجوا من تلك المحنة - من طريق الوشاية في الغالب بزملائهم - بقيت في قلوبهم ندوب غائرة. فمن أولئك - وهو الممثل ستريلنغ هايدن - من قال لطبيبه النفسي "لا أعتقد أن لديك أوهى فكرة ضبابية عن مدى احتقاري لنفسي منذ اليوم الذي فعلت فيه ذلك".

لكن رايزن لا يغالي في تقدير قوة الأفراد من أمثال هايدن ومكارثي، بل إنه يرسم صورة للفزع الأحمر باعتباره معركة ثقافية أججتها توترات الحرب الباردة العميقة في منتصف القرن، ويقول بوضوح إن الفزع الأحمر صراع لم يخمد قط، ويشبه رايزن القوة التدميرية للهب المكارثية بفحم ظل مضطرماً تحت الأرض على مدى غالب القرن الماضي.

ويبين أيضاً أن ذلك اللهب كان يذكيه أعضاء من كلا الحزبين السياسيين، فالديمقراطيون في حقبة ما يعرف بـ"الصفقة الجديدة" كانوا شديدي الاهتمام بمحاربة التطرف اليميني، فقادوا نسخاً مبكرة من لجان التحقيق، وكان الرئيس الديمقراطي هاري ترومان هو الذي جعل لبرنامج الولاء شكلاً مؤسسياً، فكان دعامة حركة مناهضة الشيوعية في بدايتها، وتماماً كما أقام إيلون ماسك اليوم إدارة الكفاءة الحكومية على وكالة من عهد أوباما، فقد تولى جمهوريون في أواسط القرن الـ20 زمام أجهزة سلطة أسسها ديمقراطيون ثم قلبوها على أعدائهم المحليين.

متى كانت أميركا عظيمة؟

يرى بيرانيو أن رايزن يحكي قصته بأسلوب قوي مقتصد شبيه بأسلوب همنغواي، فيكتب عن مكارثي أنه "كان مقرف الثياب، مقرف الطعام، مقرف الكلام"، ويدخر للرئيس الأميركي الـ37 قوله "لم يكن أحد عدا أهله يكن الإعجاب لريتشارد نيكسون، لا في زمنه، ولا قبله، ولا إلى الأبد"، ويقول بيرانيو إن "بعض مشاهد رايزن يبلغ من الصدق أن العرق قد يسيل منك إذ تقرأ عن شاهد وهو ماثل أمام لجنة تحقيق في غرفة سيئة التكييف".

وعلى رغم أن كثيراً مما يقدمه رايزن في كتابه مطروق من قبل عند مؤرخين آخرين، يبقى لكتابه صداه القوي مع ما يجري الآن، وذلك بحسب ما يكتب بيرانيو، "لأنه يخاطب مأزقنا الحالي رأساً، فبالنسبة إلى الأميركيين في اليسار، كان من ضمن ما دفعهم إلى اليأس في أعقاب انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 شعور بأن الترمبية متفشية، وأنها ليست بالأمر الاستثنائي، فمن الواضح اليوم أن العنصرية ورهاب الأجانب متأصلان في النسيج الأميركي".

في استعراضه الكتاب ["لوس أنجليس تايمز" - الـ13 من مارس (آذار) 2025]، يكتب كريس فونغار أن رايزن يحرص على إيضاح أن كثراً للغاية من الأميركيين انضموا إلى الحزب الشيوعي، وبخاصة في ثلاثينيات القرن الـ20 حين كانت الرأسمالية الأميركية على شفا الانهيار، "وكان بعض أولئك الناس يمثلون خطراً أمنياً جسيماً، وفي الوقت نفسه لم يكن من نقص في الأيديولوجيين والدجالين الذين استغلوا هذه الحقيقة للقضاء على المعارضة الأميركية البارزة، ولا تنفي أي من الحقيقتين الأخرى، فما يؤرخ له رايزن، في حقيقة الأمر، هو أن الهستيريا الوطنية قد تكون لها حياتها الخاصة، كأنها حلم قاتل محموم يسيطر على الوعي العام".

 

ومثلما أشار كل مقال تقريباً من المقالات التي استعرضت كتاب "الفزع الأحمر" إلى شعار ترمب الخاص باستعادة عظمة أميركا، يستهل بيفرلي كيج استعراضه المطول القيم ["ذي نيويوركر" – الـ10 من مارس 2025] بسؤال "متى بالضبط كانت أميركا عظيمة؟ منذ أن بدأ دونالد ترمب يروج شعار (ماغا) وهو عازف عن الإجابة، لكن الأسابيع الأخيرة تشي ببعض الإجابات المحتملة، ومن هذه الإجابات ما يعرف بــ(العصر الذهبي) the Gilded Age في أواخر القرن الـ19 عندما كانت التعريفات الجمركية ورأسمالية المحاسيب والتراتبية العرقية هي التي تمثل جوهر النظام السياسي الأميركي، وثمة إجابة محتملة أخرى هي أن أميركا كانت عظيمة حقاً في حقبة الفزع الأحمر في ما بعد الحرب العالمية، حينما تحول الحكم الأميركي إلى سلاح مشهر في وجه اليسار الأميركي".

ويمضي بيفرلي كيج فيكتب أن "ترمب تعهد منذ أمد بعيد باستئصال كل من مجانين اليسار المتطرفين والمساواة الماركسية من أحشاء الدولة الأميركية، ويبدو أن غالب أعضاء إدارة ترمب الآن يشاركونه هذا الالتزام، فقد أعلن إيلون ماسك أن الوكالة الأميركية للتنمية الدولية - السابقة - تمثل ’وكراً للماركسيين اليساريين المتطرفين‘ وتستحق التدمير، كذلك فإن وزير الدفاع بيت هيغسيث قد وعد بتخليص الجيش الأميركي من (الماركسية الثقافية)، ففي تحديث للأسطورة اليهوبلشفية (أي اليهودية والبلشفية) القديمة، باتت الماركسية الثقافية الآن هي المصطلح المفضل لدى اليمين للالتفاف على حقيقة بديهية هي أن هناك ندرة متلاشية من الماركسيين العقديين، وشبه غياب تام لحزب شيوعي نشط في الولايات المتحدة اليوم. والماركسية الثقافية، خلافاً للماركسية الفعلية، تضم تقريباً أي صورة للتقدمية والتعددية الثقافية والمساواتية، لذلك فإن الحرب على مبادرات التنوع والمساواة والاحتواء وتظاهرات الجامعات والصفقة الجديدة الخضراء هي في واقع الأمر الحرب القديمة نفسها على الشيوعية، لذلك فقد يكون الوقت الآن ملائماً لأن نراجع جميعاً معلوماتنا التاريخية عن الفزع الأحمر".

عقود من الأسرار

وهنا يثني بيفرلي كيج على كتاب رايزن ثناءً واضحاً، إذ يقول إن موضوع الفزع الأحمر لم يلق تقريباً دراسة تاريخية حقيقية من قبل، فـ"خلال النصف الثاني من القرن الـ20، كان الموضوع شديد الاشتعال بحيث إنه لا يتلاءم مع الدراسة التاريخية، لم يكن بوسع أحد إلا أن يكون مع جو مكارثي أو ضده، ومع ألجر هيس أو ضده، ومع آل روزنبرغ أو ضدهم، ثم جاءت نهاية الحرب الباردة بموجة من العمل الرامي إلى تقييم بدايات جديدة على المستويات السياسية والأرشيفية والمفاهيمية، وللمرة الأولى بات ممكناً لمؤرخين غير ماركسيين أن يكتبوا بإعجاب عن الحزب الشيوعي ومواقفه من الحقوق المدنية ومعاداة الفاشية دونما اضطرار إلى إدانة ستالين في كل صفحة مما يكتبون، وفحص المؤرخون المواد السرية التي كشفتها أجهزة الاستخبارات الأميركية بل والوثائق التي كشفتها لفترة وجيزة الحكومة ما بعد السوفياتية بهدف الوصول إلى عمق عقود من الأسرار".

ثم انتهت تلك الموجة وتبدد ما كان فيها من الطاقة، وانتقلت الحمية الأكاديمية إلى قضايا أخرى باعتبارها أكثر إلحاحاً وعلاقة بالقرن الـ21، فحتى الأكاديميون الذين يصفون أنفسهم بالماركسيين لم يبدوا اهتماماً يذكر بقضايا من قبيل أعمال الحزب الشيوعي الأميركي السرية في ذروة حقبة المكارثية، وكان من نتائج ذلك أن بات يصعب على الأجيال الأحدث أن تفهم أسباب كل ذلك الانفعال الشديد الذي اعتري الجميع، وهذا ما يأتي كتاب رايزن الجديد ليعالجه.

العنوان: RED SCARE: Blacklists, McCarthyism, and the Making of Modern America 

تأليف: Clay Risen 

الناشر: Scribner

المزيد من ثقافة