ملخص
حروب المستقبل تعتمد على تراث قاتم، والحقيقة البدهية التي ترى أن السلام يبدو الخيار العقلاني لغالب البشر لم تنجح قط في كبت دافع القتال عندما يبدو ذلك ضرورياً أو مربحاً أو إلزامياً.
يطغى على العالم في أيامنا هذه، ومنذ أمد غير قريب، إحساس قلق بأن ما بيننا وبين نهاية العالم لا يعدو خطوة. وفي مقالة نشرت قريباً بصحيفة "ديلي تلغراف"، يدعونا المؤرخ البريطاني ريتشارد أوفري إلى أن نتخيل سيناريوهات لهذه الخطوة المرهوبة، فيدعونا إلى تصور ما يمكن أن يحدث إذا ما أعلنت إيران أنها تمكنت من تصنيع سلاح نوي وهددت باستعماله ضد إسرائيل.
يتخيل أوفري، بالنيابة عنا، أن الولايات المتحدة ستهدد بالتدخل العسكري مثلما فعلت من عامي 1991 و2003، فتعلن إيران في المقابل أنها لن تسمح بنشوب حرب ثالثة في الخليج. وتحتشد القوات الأميركية لدخول إيران، وتعلن الصين وكوريا الشمالية وروسيا دعمها لطهران، وينضم حلفاء غربيون إلى أميركا. و"تبدأ حرب عالمية ثالثة بتبادل إطلاق الأسلحة النووية، وما يلي ذلك معروف من التاريخ".
ويطلق أوفري العنان للتفكير في الخطوة الأخيرة في مسيرة الحضارة الإنسانية عبر سيناريوهين آخرين، أحدهما من الشرق وليس من الشرق الأوسط، إذ ينفد صبر الصين من وضع تايوان. وعلى رغم أن هذا السيناريو يخلو من احتمال نشوب حرب نووية، لكنه ينطوي طبعاً على انقسام العالم إلى حلفين كبيرين متصارعين، أما السيناريو الأخير فهو مواجهة محتملة بين الغرب الديمقراطي وتحالف الدول الاستبدادية في أوراسيا.
"دافع الموت"
ولعل بوسع البشر في كل منطقة ملتهبة من العالم، والكرة الأرضية كلها مناطق ملتهبة متجاورة ومتداخلة، أن يتخيلوا سيناريوهات أخرى، تتباين دوافعها بتباين أسباب الصراع في كل منطقة، لكن جميع هذه السيناريوهات ستتفق دائماً في احتوائها على الحرب، فلماذا الحرب؟
يكتب ريتشارد أوفري أنه "ربما يتعين علينا، إذ نسعى إلى التنبؤ باندلاع حرب في المستقبل، أن نطرح على أنفسنا سؤالاً آخر ’لماذا نخوض الحروب أصلاً؟‘. لقد كانت الحرب سمة حاضرة في التاريخ المسجل كله تقريباً، بل كان العنف الحربي سابقاً على إنشاء أولى الدول. ويظل سؤال أساسي مطروحاً، لماذا نشأت العدوانية في البشر جنباً إلى جنب قدرتهم على التعاون الاجتماعي؟ هذا هو اللغز الذي ظلت العلوم الإنسانية تصارعه في غالب القرنين الـ20 والـ21".
من واقع دراسة هذا اللغز دراسة وافية، خرج ريتشارد أوفري، المؤرخ المتخصص في الحرب العالمية الثانية والمشهود له بالدقة وسعة الدراية بها، بكتابه الصادر حديثاً بعنوان "لماذا الحرب؟"، طارحاً فيه مسحاً واسع النطاق للأدبيات المكتوبة في هذا الموضوع.
يكتب دومينيك غرين في صحيفة "وول ستريت جورنال"، والمنشور في الخامس من يوليو (تموز) 2024 مستعرضاً الكتاب، فيقول إنه "حدث ضمن مبادرة لعصبة الأمم في عام 1932 أن بعث ألبرت أينشتين إلى سيغموند فرويد بسؤال نصه، هل ثمة من سبيل تنجو به الإنسانية من خطر الحرب؟ فرد فرويد بقوله إن البشر لا ينفردون بالعنف، فالعنف سمة مطلقة في المملكة الحيوانية كلها.
وأوعز سيغموند فرويد دافع الحرب لدى الإنسانية إلى الـ"تودستريب" أو "دافع الموت"، وذكر دومينيك غرين أن كلاً من سؤال ألبرت أينشتين ورد سيغموند فرويد ورداً في كتيب عنوانه "لماذا الحرب؟"، كان الإصدار الأول في سلسلة كتيبات تحت ذلك العنوان وصدرت لمؤلفين عدة بعد ذلك، وها هو ريتشارد أوفري يدلي بدلوه.
مستقبل واعد
يشتهر ريتشارد أوفري، بحسب ما يكتب لورنس فريدمن في "فورين أفيرز" خلال نوفمبر (تشرين الثاني) وديسمبر (كانون الأول) 2024، بأعماله التأسيسية في التأريخ للحرب العالمية الثانية، لكنه في كتاب "لماذا الحرب؟" لا يعني بدراسة صراع بعينه، وإنما يتأمل ظاهرة الحرب كلها، بأسبابها ودوافعها، وفي ظل وفرة الأسباب التي يرصدها في كتابه، يخلص أوفري إلى أنه كما أن للحرب تاريخاً مديداً فإن لها أيضاً مستقبلاً واعداً.
يستهل لورنس فريدمن استعراضه للكتاب برأي ألبرت أينشتين في رد سيغموند فرويد على سؤاله، إذ "لم يرض الأول عن إجابة الثاني"، ولم يعجبه أن يكون "الدافع إلى القتال والتدمير" مغروساً بعمق في النفس الإنسانية. ورأى أينشتين أنه "إذا أمكن إثبات أن الحرب ليست أمراً طبيعياً، وإنما هي مسألة تنظيم اجتماعي وخيار سياسي، فإن من الممكن من ثم أن نتخيل إمكان القضاء على الحرب". ويتدخل في الجدال كما يوضح أوفري "علماء الأنثروبولوجيا فيصرون أن المجتمعات الأقل تقدماً قادرة على تدبير أمورها تدبيراً حسناً دونما لجوء إلى الحرب، ولكن هذا الزعم يتهاوى أمام بحوث حديثة أظهرت أن هذه المجتمعات تبقى قادرة على ممارسة عنف قاتل".
قد يبدو غريباً أن يعمد مؤرخ إلى البحث عن أسباب الحرب لدى سيغموند فرويد رائد التحليل النفسي وألبرت أينشتين عبقري الفيزياء ولدى علماء الأنثروبولوجيا، ولكن أوفري، كما يكتب فريدمن، يبرع في رصد أسباب الحرب كما تحددها علوم من قبيل علم النفس والأحياء والبيئة قبل أن ينتقل إلى الدوافع العديدة المعروفة للحرب، من صراع على الموارد وتعارض بين المعتقدات وعوامل تتعلق بالسلطة والأمن والأرض، وشتى الدوافع الأكثر تقليدية وارتباطاً بالحرب كما نعرفها.
تشبيه بالنباتات
يكتب جيمس هولاند في صحيفة ديلي تلغراف يوم الـ13 من يناير (كانون الثاني) الماضي، قائلاً "يخطئ من يتصور أننا نعيش اليوم حقبة أميل إلى الصراع من أية حقبة أخرى في تاريخ الإنسانية، إذ كان الأمر على هذا النحو طوال الوقت. ومثلما يوضح ريتشارد أوفري فإنه لم يمر في القرن الـ20 كله عام واحد دونما حرب، وثمة أدلة على أن العنف والسلوك الحربي قائمان منذ ظهور سلالة الإنسان العاقل المعروف بالهومسابينز. فلماذا يحدث هذا؟ لماذا تنشب الحروب؟ وعلى رغم البساطة التي يبدو عليها هذا السؤال، فقد أدى إلى تأليف كتاب آسر وثري يغوص فيه أوفري بحثاً عن الإجابة في كل موضع محتمل أو بعيد الاحتمال".
ويقول هولاند إن "ريتشارد أوفري باعترافه فإنه مؤرخ، مؤرخ صراعات وليس عالماً، غير أن عقله العبقري قادر على تسريب العلم في كتابه، بل إنه يلتفت أول ما يلتفت إلى العلم بحثاً عن السبب الذي يحمل الإنسانية ـ ورجالها بالذات ـ على خوض الحروب مكرهين، فينقل عن عالم الأحياء السير آرثر كيث قوله عام 1931 إن ’الطبيعة تحافظ على سلامة بستانها البشري من خلال التقليم، والحرب هي أداة الطبيعة في التقليم’".
ويمضي في تفسيره، "التقليم ـ كما يعرف الفلاحون ـ هو نزع بعض أغصان النبات لصالح بقية الأغصان كي تجد كفايتها من الغذاء وتتعرض لضوء الشمس بالقدر الذي تحتاج إليه، فتصح وتثمر ويطيب ثمرها. فيا له من تشبيه كريه يساوي أرواح البشر بالنباتات، ويحملنا في نهاية المطاف على أن نرى في الحرب خيراً".
غير أن ريتشارد أوفري لا يجد في علمي الأحياء والتحليل النفسي الفرويدي ضالته أو الإجابات الشافية التي يبحث عنها "وإن يكن لعلم النفس شأن آخر، فالعوامل السيكولوجية في نهاية المطاف تلعب دوراً أكيداً في ضمان أن تنزع مجموعة من البشر صفة الإنسانية عن مجموعة أخرى من البشر لتبرر لنفسها ارتكاب عنف لا يوصف بحقها دونما إحساس بوخز الضمير، بل وبإحساس بالفضيلة في أكثر الأحيان، سواء أكان هذا العنف بين الهوتو والتوتسي (حرب أهلية بين قبيلتين في رواندا) أو بين الكاثوليك والهوجنوتيين البروتستانت في فرنسا، أو بالطبع بين النازيين واليهود والسلاف".
دور المناخ
كما أن علم البيئة أيضاً يلعب دوراً، من خلال تغير المناخ والجفاف ومن خلال برودة الشتاء بصفة خاصة، فهذه لحظات يكون فيها اكتساب الطعام ـ ومن ثم البقاء على قيد الحياة ـ أمراً عصيباً لا يسهل إلا بالاستيلاء عليه من الآخرين. ومن المعلومات البديعة المتناثرة في الكتاب ما يخبرنا به أوفري من أنه على مدار ألف عام من تاريخ الصين أثمرت 453 عاماً مثلت فترة باردة على البلاد عن 603 حروب في مقابل أن 459 عاماً من الفترة الحارة أنتجت فقط 296 حرباً".
يحذرنا جيمس هولاند من فصل علم الأحياء في الكتاب فـ"هو صعب في بعض المواضع، وهذا أمر مؤسف، لأنه الفصل الأول في الكتاب، لكن لا تجعلوا هذا يوقفكم، فسرعان ما تقوى بعد ذلك حجج أوفري وتتضح سرديته، إذ يبلغ الكتاب ذروته فور أن يصل إلى الفصول المتعلقة بالموارد والسلطة والأمن، والإيمان بصفة خاصة، فلعله الفصل الأكثر إقناعاً في الكتاب. فثمة ملخصات وافية وغنية للحروب الصليبية والحروب الدينية في فرنسا، بل ولظهور المتطرفين المحدثين من أمثال ’القاعدة‘ و’داعش‘".
ويقول "تأتي هذه الدراسات في نطاق رائع، بخاصة بالنسبة إلى كتاب قصير، من سينتاشتا القديمة إلى قرطاجة وروما، والأزتيك والقبائل الأميركية الأصلية، وألمانيا النازية وروسيا في عهد الرئيس فلاديمير بوتين. ويقدم الكتاب أيضاً تاريخاً لدراسات الحرب ـ ابتداء بسكيبيو والبابا أوربان الثاني وتوماس هوبز، وحتى المفكرين المعاصرين".
ينقل جيمس هولاند عن الروائي إل بي هارتلي قوله إن "الماضي بلد أجنبي"، ويعلق على ذلك بقوله إن كتاب "لماذا الحرب؟" يفند هذا القول فـ"من الصعب ألا تبهتك وأنت تقرأ الكتاب تلك الخطوط الطويلة الممتدة في التاريخ، وذلك الإحساس بالاستمرارية. فما أوهى الاختلافات بين دوافع الحرب الصليبية الأولى، وحرب هتلر التوسعية، وأهداف ’داعش‘، من حيث قوة الإيمان الذي يحركها جميعاً. والتاريخ لا يكرر نفسه ولكن أنماط السلوك البشري تكرر نفسها من دون شك، سواء أكان دافعها الجشع الفردي إلى السلطة، كما في حالات الإسكندر الأكبر ونابليون وهتلر وبوتين، أم هي عوامل خارجية تهدد أمن شعوب معينة، أو اختلافات ثقافية تقنع جماعة معينة بقبول تدمير جماعة أخرى. ويفلح أوفري في الإقناع بأن ثمة دروساً هنا يمكن استخلاصها حتى من أعماق التاريخ، وقد تساعدنا هذه الأنماط أيضاً في النظر إلى المستقبل".
في مقالته المنشورة بـ"ديلي تلغراف"، والمأخوذة على الأرجح من كتابه "لماذا الحرب؟"، يكتب ريتشارد أوفري أن "حروب المستقبل تعتمد على تراث قاتم. والحقيقة البدهية التي ترى أن السلام يبدو الخيار العقلاني لغالب البشر لم تنجح قط في كبت دافع القتال عندما يبدو ذلك ضرورياً أو مربحاً أو إلزامياً. وهذا الإرث هو السبب الأساس الذي يجعل من الممكن لنا أن نتخيل حرب المستقبل. لقد راج في فترة ما بعد الحرب الباردة القول إن الحرب أمر عفا عليه الزمن، ولو كان لذلك أن يحدث، لعلنا كنا الآن نعيش في عالم بلا أسلحة وبلا خوف. وفي حين أن قليلين منا هم الذين يسعون نشطاء إلى حرب عالمية ثالثة، فقليل من أسلافنا أيضاً هم الذين كانوا يتصورون الحربين العالميتين السابقتين أو يريدونهما. والحقيقة المؤسفة هي أن فهمنا لأسباب نشوب الحروب لم يسهم كثيراً حتى الآن في تنحية التحارب باعتباره عنصراً دائماً من عناصر الشؤون الإنسانية".
سياق مختلف
فلماذا إذاً هذا الكتاب؟ لماذا "لماذا الحرب" لو أن وعينا بأسباب نشوب الحروب لا يقلل من احتمالية نشوبها؟ لعلنا نعثر على ما يشبه إجابة في ما ينهي به روبرت شيلز استعراضه للكتاب في "ذي آيريش ليجال" المنشور في الـ19 من يوليو 2024، إذ يقول إنه من الواضح أن كتاب "لماذا الحرب"، "ليس تاريخاً للحرب، لكنه يطرح سياقاً لمختلف المناهج التي حاولت تفسير أسباب الحرب بوصفها ملمحاً عاماً من ملامح السلوك الإنساني، إذ قدم الأستاذ أوفري ملخصاً وافياً للمناهج المختلفة في تناول ظاهرة الحرب وهذا الموجز نفسه يمثل قراءة ضرورية".
ربما تأتي ضرورة قراءة هذا الكتاب من اقتراح يطرحه، فالكتاب بكل ما فيه من تفسيرات وأسباب، سواء قدمها الفيزيائيون مثل أينشتين أو علماء النفس مثل فرويد، أو علماء الأحياء والبيئة والأنثروبولوجيا، فضلاً عن علماء السياسة والمحللين الاستراتيجيين، يقترح تحليل استجاباتنا نحن للحرب، أعني غير المؤثرين في اتخاذ قرارات الحرب، غير القادرين على تحريك الجيوش أو إيقافها، عسى أن يكون في هذا التحليل مزيد من التمكين لنا، لا لمنع الحروب بالضبط ولكن لترشيدها.
لقد عورضت حروب كثيرة، فمنها ما عورض قبل نشوبه مثل حرب أميركا في العراق عام 2003 التي حاولت إيقافها مظاهرات حاشدة في الولايات المتحدة والغرب وفي العالم كله، وفشلت هذه المعارضة في منعها، ومن الحروب ما عورض بعد نشوبه مثل حرب فيتنام التي تعرضت لانتقادات واعتراضات واسعة النطاق في الولايات المتحدة، لعلها كانت من أهم أسباب إنهائها.
وأخيراً فإن كتاب "لماذا الحرب" يلفت نظرنا إلى طرق أخرى لتقليل الحروب، إذ يجعل مثلاً لمناصرة السياسات الخضراء وحماية البيئة ومقاومة التغير المناخي دافعاً آخر هو منع حروب مستقبلية طاحنة، ويضيف إلى المكافحين من أجل الديمقراطية دافعاً آخر شديد الأهمية، بل إنه يجعل من تربية الآباء لأبنائهم إسهاماً آخر في منع العنف والحرب والوحشية، فقط إذا علموهم أنه حتى ألد الأعداء يبقون بشراً، قد يستحقون العقاب المناسب لأخطائهم، لكن لا يمكن مهما تكن الظروف نزع الإنسانية عنهم.
العنوان: ?Why War
تأليف: Richard Overy
الناشر: Pelican Books