ملخص
يعكس غضب ترمب من زيلينسكي تحولاً استراتيجياً في السياسة الأميركية نحو التقارب مع روسيا، إذ يأتي دعمه لبوتين من استيائه من اتهامات التدخل الروسي بانتخابه لولايته الأولى وعدم تنفيذ الرئيس زيلينسكي لطلباته سابقاً. وهذه التغيرات تضعف التحالفات الغربية وتثير قلق أوروبا في شأن صدقية أميركا كحليف، كما أنها تعزز نفوذ الكرملين على الساحة الدولية.
في لحظة غضب عارم انحنى الرئيس الأميركي دونالد ترمب ولوح بإصبعه موبخاً زعيم دولة تتعرض لهجوم روسي، قائلاً "أنت تقوم بمغامرة وتخاطر بحياة ملايين البشر". لكن استياء سيد البيت الأبيض من الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لم يكن مجرد موقف سياسي رسمي، بل كان شخصياً إلى حد بعيد.
وكما في جميع قصص المافيا، فقد شاب العلاقة بين الزعيمين صراع المصالح وتحديداً ما يتعلق منها بروسيا. لكن الافتراض بأن دعم ترمب لموسكو محصور فقط بعدائه لزيلينسكي سيكون خطأ فادحاً. والواقع أسوأ من ذلك بكثير.
كثيراً ما أبدى دونالد ترمب إعجابه بفلاديمير بوتين، إذ جمعتهما مشاعر الاستياء مما وصفه بـ"الاحتيال" المتمثل في مزاعم عن حدوث تدخل روسي في الانتخابات الرئاسية عام 2016، التي أوصلته إلى البيت الأبيض. وفي المقابل، فإن ضغينة ترمب تجاه زيلينسكي تعود إلى رفض الأخير تقديم المساعدة له في حملته ضد منافسه جو بايدن بعد فشله في الفوز بولاية رئاسية ثانية.
"اسمحوا لي أن أخبركم بأن بوتين عانى كثيراً معي، فقد واجهنا سوية عملية ’مطاردة ساحرات‘ زائفة [اتهامات ذات دوافع سياسية]، عندما استخدموا اسمه مكررين الاتهامات ضده وضد روسيا" قال ترمب غاضباً في ما بدا يفقد أعصابه، عندما أطلق هو ونائبه جي دي فانس هجوماً حاداً على زيلينسكي الأسبوع الماضي.
أضاف "كانت تلك مؤامرة ملفقة دبرها الديمقراطيون أمثال هانتر بايدن وجو بايدن وهيلاري كلينتون و[السيناتور] آدم شيف المخادع. واضطر بوتين لتحمل كل ذلك، لكنه تجاوز المحنة. ولم ندخل في حرب [خلال ولاية ترمب الأولى]، وتخطينا الأزمة" [للتوضيح، كلينتون نافست ترمب خلال انتخابات 2016، فيما لعب شيف دوراً محورياً في التحقيقات المتعلقة بقضية التدخل الروسي وعزل ترمب للمرة الأولى بسبب فضيحة أوكرانيا].
وتابع الرئيس الأميركي "ألقوا عليه جميع هذه الاتهامات التي لا علاقة له بها. لقد لفقها هانتر بايدن وكان الأمر مقززاً للغاية".
وبتعبير آخر، يقول ترمب إن هناك علاقة طويلة الأمد بينه وبوتين، يعود تاريخها إلى المرحلة التي جرى فيها اتهام الكرملين بمساعدته على الوصول إلى البيت الأبيض عام 2016.
وفي المقابل، ينظر ترمب إلى زيلينسكي على أنه ناكر للجميل بعد أن فشل الرئيس الأوكراني في إجراء تحقيق في تعاملات تجارية قام بها هانتر بايدن داخل أوكرانيا خلال يوليو (تموز) عام 2019، في وقت كان فيه جو بايدن المرشح "الديمقراطي" المحتمل خلال انتخابات عام 2020.
يجدر التذكير هنا بأنه في تلك الفترة قام الكونغرس بعزل ترمب على خلفية اتهامات له بأنه هدد بحجب 400 مليون دولار من المساعدات العسكرية المخصصة لأوكرانيا، ما لم يساعده زيلينسكي في حملته ضد جو بايدن، إضافة إلى إجراءات أخرى كانت تهدف إلى تقويض "الديمقراطيين". وعلى رغم أن "مجلس الشيوخ" برأه في نهاية المطاف، فإن الضرر كان وقع.
من هنا فإن الصراع مع زيلينسكي هو بلا شك شخصي. لكن حملة ترمب ضد أوكرانيا تمتد إلى ما هو أبعد من هذا الصراع بكثير.
وكان ترمب أبلغ زعماء "مجموعة الدول السبع" G7 عام 2018 - قبل انتخاب فولوديمير زيلينسكي رئيساً لأوكرانيا - أنه يؤيد ضم روسيا غير القانوني لشبه جزيرة القرم، بحجة أن "جميع قاطنيها يتحدثون الروسية". وواصل الدفع في اتجاه إعادة روسيا إلى مجموعة الدول الكبار لتصبح "جي 8" G8 كما كانت قبل طرد روسيا منها.
وخلال الآونة الأخيرة، تبنى الرئيس الأميركي تقريباً جميع الشروط التي وضعتها موسكو لإبرام السلام مع أوكرانيا، حتى قبل أن يجري دبلوماسيوه أية مناقشات مباشرة مع المسؤولين الروس. واستبعد عودة جميع الأراضي التي استولى الروس عليها في أوكرانيا أو دعم مهمة حفظ سلام بقيادة "حلف شمال الأطلسي" (ناتو)، ورفض مشاركة كييف في محادثات السلام، وعارض انضمامها المحتمل إلى حلف "ناتو" في المستقبل.
وذهب ترمب إلى أبعد من ذلك، عندما أشار بصورة عرضية (من خلال هزّ كتفيه) إلى أن أوكرانيا ربما "تصبح روسية يوماً ما". وعبر عن دعمه لرغبة فلاديمير بوتين في إعادة بناء العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة، وناقش علناً معاودة الأعمال التجارية مع النظام الروسي الذي يخضع خلال الوقت الراهن لعقوبات شديدة.
ولمح ترمب إلى أنه قد لا يهبّ تلقائياً للدفاع عن دول حلف شمال الأطلسي إذا ما تعرضت لهجوم روسي. وفي الوقت نفسه عمل فانس بتصميم وبصورة مستمرة على إضعاف العلاقات مع أوروبا والمملكة المتحدة، مطلقاً ادعاءات غريبة بأن الزعماء الأوروبيين يعارضون حرية التعبير في دولهم.
وأشار مؤيدو ترمب إلى أن هذه المواقف قد تكون جزءاً من استراتيجية طويلة الأمد تهدف إلى دفع أوروبا لتحمل مزيد من الأعباء المادية المتعلقة بالدفاع عن دولها، مع السعي في الوقت نفسه إلى محاولة إبعاد روسيا من اصطفافها الطبيعي مع الصين.
ويرون أن مثل هذا التحول لن يشكل تهديداً، وأنه ربما يصب في مصلحة الغرب على المدى الطويل، ويشكل توازناً مع النفوذ الاقتصادي المتنامي والمهيمن الذي تتمتع به الصين.
لكن المشكلة تكمن في أن هذا ليس ما يحدث فعلاً على أرض الواقع. والأرجح - ولأسباب غير واضحة تماماً - أن الرئيس الأميركي ينحاز سواء عن قصد أو عن غير قصد إلى ما يراه الكرملين مفيداً له، بينما يسهم في المقابل في إحداث شرخ بين الولايات المتحدة وأوروبا.
فالرئيس الروسي يسعى إلى إضعاف الغرب وشرذمة كتلة "حلف شمال الأطلسي"، ويهدف إلى إبعاد الولايات المتحدة من تحالفاتها التقليدية.
وقد سبق لزعيم الكرملين أن أعرب عن ارتياحه لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مما أضعف الكتلة، وعبر عن ترحيبه بمواقف كل من المجر وسلوفاكيا المناهضة لسياسات الاتحاد الأوروبي، وهما دولتان عضوان فيه.
والآن يتعامل القادة الأوروبيون مع الفكرة التي لم يكن من الممكن تصورها خلال وقت سابق، والمتمثلة في أنه لم يعد في استطاعتهم الاعتماد على الولايات المتحدة كحليف موثوق، وفي أن الرئيس الأميركي يرى في روسيا بوتين نموذجاً للنهج الذي يرغب في تطبيقه في حكمه.
ويراقب القادة الأوروبيون ما يتكشف في الولايات المتحدة ويرون دولة تُقوَّض من جانب رئيسها المنتخب حديثاً. وإذا كان هدف الرئيس الروسي إضعاف الولايات المتحدة فربما كان ليرغب في إزاحة المسؤولين الرئيسين عن أجهزة الاستخبارات كما فعل ترمب، وتفكيك القيادة العسكرية كما فعل ترمب أيضاً.
وأطلق قطب الأعمال إيلون ماسك حليف ترمب - وهو شخصية أخرى تدافع عن بوتين وتدعم الحركات اليمينية المتطرفة المناهضة للاتحاد الأوروبي في المملكة المتحدة وأوروبا - حملة لإعادة تشكيل البيروقراطية الفيدرالية داخل الولايات المتحدة.
وعمل ماسك أيضاً على تقويض القوة الناعمة الأميركية والقدرة الأميركية على تعزيز القيم الغربية من خلال حل "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية". وتسلل فريق ماسك إلى المعلومات المالية الأكثر حساسية لملايين الموظفين الفيدراليين.
ومن المعلوم أن الديمقراطيات في العالم تعتمد على عقد اجتماعي بين الإدارات الحكومية ومواطنيها. وعندما يتآكل هذا العقد، يبدأ النظام في الانهيار. وهذا أيضاً أمر من المرجح أن يرحب به بوتين.
لقد تعرض بيتر ماندلسون بصفته دبلوماسياً [وعضو "مجلس اللوردات" البريطاني وشخصية بارزة في حزب "العمال"] لانتقادات محقة، بسبب خروجه عن الموقف الرسمي للحكومة البريطانية بقوله إن زيلينسكي في حاجة إلى إصلاح علاقته مع ترمب. كما أنه فشل في فهم المغزى الحقيقي لما حدث داخل البيت الأبيض.
أخيراً، في ما بدا الأمر وكأنه مواجهة بين شخصين، إلا أنه كان أكثر من ذلك بكثير. لقد كان صدام حضارات تمثل في تحول الولايات المتحدة نحو الفلك الروسي. لم يكن الأمر شخصياً فحسب بل كان تحولاً استراتيجياً.
© The Independent