ملخص
"تعرضنا لتعذيب نفسي وجسدي. لم تكن الشتائم تستهدفنا فقط، بل طاولت أهالينا وبلدنا. أما الضرب، فكان يزداد بعد كل ضربة جوية تستهدفهم، إذ كانوا يتهمون مصر بالوقوف وراءها، ثم يعاقبوننا. كانوا يضربوننا بأنابيب خضراء اللون مثل الخراطيم، وكان المنفذون عساكر تابعين لقوات الدعم السريع"
في 18 يونيو (حزيران) 2023، بعد شهرين من اندلاع الاقتتال في السودان، تغيّر واقع 12 مصرياً رأساً على عقب، حين اقتحمت قوة من قوات "الدعم السريع" المبنى السكني الذي كانوا يقيمون فيه في حي اللاماب ناصر بالخرطوم، واقتادتهم إلى حي الرياض، حيث احتجزوا في زنازين.
وبعد نحو 21 شهراً من الاحتجاز والتنقل بين أربعة مواقع احتجاز مختلفة، أطلقت قوات "الدعم السريع" سراح تسعة من المحتجزين، الذين عادوا إلى مصر الجمعة الماضي. ووفقاً لشهادات متطابقة لمصريين مفرج عنهم تحدثوا إلى "اندبندنت عربية"، فُقد ثلاثة من المحتجزين خلال تلك الفترة، ولا يزال مصيرهم غير معروف بعد فصلهم عن بقية المحتجزين في مركز الاحتجاز الأول بناءً على أوامر من أحد قادة "الدعم السريع"، الذي رفض نقلهم إلى الموقع التالي "بعد تدهور حالتهم الصحية".
"حياتنا تحوّلت إلى جحيم، كنا نقضي حاجتنا في جرادل، ونحصل على كمية محدودة من الرز مقسمة على وجبتين يومياً. وكانت قوات الدعم السريع تعاملنا كأننا مرتزقة". بهذه الكلمات، لخص أحمد عزيز، أحد المصريين المفرج عنهم، واقع الاحتجاز.
ما يقوله عزيز لم يكن سوى جزء من سلسلة انتهاكات تنوّعت في أشكالها بين التعذيب البدني والنفسي، وسوء التغذية، وانعدام الرعاية الطبية. وبحسب شهاداتهم، تفشت بينهم الملاريا عدة مرات، فيما كانوا يواجهون اتهامات متكررة: "أنتم مرتزقة، وجواسيس".
معاناة مع الملاريا
من بين تسعة مصريين مفرج عنهم، ينتمي ستة إلى قرى محافظة الفيوم، إذ ارتبط شبابها بالسفر إلى السودان منذ ما يقرب من عقدين. يقول أحمد عزيز، أحد أوائل المغادرين من قرية أبو شنب بالفيوم عام 2004، "كانت الوجبات تُقدَّم لنا بكميات محدودة، أصبحنا أشبه بالهياكل العظمية. أصبنا بالملاريا أكثر من مرة، البعض منا لم يتلقَّ أي علاج، بينما حصل آخرون على أدوية منتهية الصلاحية".
وأعلنت منظمة الصحة العالمية في تقرير نشرته عبر موقعها الإلكتروني نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أن السودان سجّل في عام 2023 أكثر من 3.4 مليون إصابة بالملاريا، أسفر عن وفاة نحو 7900 شخص.
يضيف عزيز، الذي كان حلقة وصل بين أهالي قريته وبقية المحتجزين، عبر إرسال مقاطع صوتية على فترات متباعدة من داخل الاحتجاز بمساعدة أفراد من قوات "الدعم السريع" مقابل المال، "تعرضنا لتعذيب نفسي وجسدي. لم تكن الشتائم تستهدفنا فقط، بل طاولت أهالينا وبلدنا. أما الضرب، فكان يزداد بعد كل ضربة جوية تستهدفهم، إذ كانوا يتهمون مصر بالوقوف وراءها، ثم يعاقبوننا. كانوا يضربوننا بأنابيب خضراء اللون مثل الخراطيم، وكان المنفذون عساكر تابعين لقوات الدعم السريع".
واعتادت قوات "الدعم السريع" توجيه اتهامات إلى مصر بدعمها الجيش السوداني خلال الحرب، من بينها ظهور قائدها محمد حمدان دقلو في مقطع مصور يتهم القاهرة بشن ضربات جوية وتزويد الجيش السوداني بطائرات مسيرة، وهي مزاعم نفتها الخارجية المصرية.
وحينما اندلع الاقتتال بالسودان في أبريل (نيسان) 2023، أعلنت قوات "الدعم السريع" أسر جنود سودانيين ومصريين في مطار مروي. ولم يمض سوى أيام، حتى أعلنت القاهرة نجاح جهودها، بوساطة إماراتية، في تأمين وصول الجنود المحتجزين إلى سفارتها في الخرطوم.
بصوت مخنوق، روى عزيز، الذي كان يتاجر بالأجهزة الكهربائية في السودان قبل احتجازه على يد قوات "الدعم السريع" جانباً من معاناته، "فقدت نحو 30 كيلوغراماً خلال فترة احتجازي، كنت أزن 90 كيلوغراماً قبل الاعتقال، لكني خرجت بوزن لم يتجاوز 60 كيلوغراماً".
يضيف: "بالكاد تعرف إليّ أهل قريتي بعد عودتي. تحسنت حالتي فور وصولي إلى السفارة المصرية في بورتسودان، حيث بقينا ستة أيام تلقينا خلالها رعاية طبية، وأُجريت لنا فحوص، ونُقلت الحالات التي استدعت علاجاً مكثفاً إلى المستشفى".
وبسؤاله عن أماكن الاحتجاز أجاب، "كنا 12 مصرياً في زنزانة واحدة، تنقلنا بين عدة أماكن، بدءاً من موقعين في الرياض، ثم إلى سجن سوبا، الذي كان خاضعاً للجيش السوداني قبل أن تسيطر عليه قوات الدعم السريع، ثم إلى سجن الاحتياطي المركزي".
اختفاء 3 محتجزين مصريين
يقول المصريون المفرج عنهم وفق شهادات جمعناها منهم إن أصعب فترات الاحتجاز في سوبا والاحتياطي المركزي، حيث قلّ الطعام، وانعدم الوصول إلى دورات المياه، وافتقد المحتجزون إمكانية الاستحمام.
وحول مدى الضرر الذي وقع عليهم يؤكد عزيز: "تقلص عددنا إلى سبعة بعد فقدان ثلاثة مصريين في أول موقع احتجاز، بسبب إصابتهم بأمراض حادة، لم تصلنا أي معلومات عنهم حتى الآن. كانت أجسادهم متورمة. كما نُقل شقيقان من مجموعتنا إلى مكان آخر".
وتواصلت "اندبندنت عربية" مع أسرة عبد القادر عجمي، أحد المحتجزين المصريين في السودان، رجل خمسيني تزوج هناك، ولديه ثلاثة أبناء من سيدة سودانية، إضافة إلى خمسة أبناء في مصر. يعد الوحيد من بين الثلاثة المفقودين من قرية أبو شنب بالفيوم الذي لم ترد عنه أي أخبار حتى الآن.
يقول أحمد محمد عجمي لـ"اندبندنت عربية"، "نعتزم تقديم شكاوى إلى وزارة الخارجية المصرية، والسفارة المصرية في بورتسودان، والصليب الأحمر، بحثاً عن أي معلومات بشأنه. عاد تسعة مصريون، لكن لا يزال ثلاثة في عداد المفقودين، من بينهم عمي".
"تلقينا روايات متضاربة حول مصيره. أحد الأطباء أفادنا بوفاته، بينما أكدت مصادر أخرى أنه لا يزال على قيد الحياة. آخر معلومة مؤكدة وصلتنا أنه أصيب بحمى، ورفض قائد السجن نقله مع اثنين آخرين إلى السجن الجديد بسبب عدم توافر مستشفى هناك. منذ تلك اللحظة، انقطعت أخباره تماماً".
ويكمل حديثه "من بين المفقودين أيضاً محمد حسين، وهو من المنيا ويقيم في بني سويف (جنوب)، وخالد الفلاح من المنوفية (شمال). لم تصلنا أي أخبار عن عمي منذ عامين، وانتشرت أنباء عن وفاته، لكن لا يوجد أي تأكيد رسمي. بدأنا البحث عنه منذ إطلاق سراح أول محتجزين مصريين، ونحاول الوصول إلى أي معلومة بشأنه". موضحاً أنه كان يعمل في تجارة البضائع بالجملة مع مصريين في السودان، وسافر قبل اندلاع الحرب بشهرين.
زنازين برائحة الموت
يستذكر أحمد عزيز كيف عانى جميع المصريين المحتجزين لدى "الدعم السريع"، "قبل إطلاق سراحنا، نُقلنا إلى غرفة كبيرة في الطابق الأرضي بسجن الاحتياطي المركزي، حيث كان يقبع أكثر من 100 سوداني في مساحة بالكاد تكفي للوقوف. لم يكن لكل منا سوى كوبين من الماء يومياً ووجبة واحدة تتكون من بضع ملاعق من الرز. منذ الليلة الأولى، أدركنا سبب تدهور حالتهم الصحية وتحولهم إلى هياكل عظمية".
وأكمل، "قضينا أطول فترة في منطقة الرياض، حيث مكثنا نحو عشرة أشهر في أحد المواقع بشارع عبيد ختم، ثم نُقلنا إلى منشأة تابعة للأدلة الجنائية، وبقينا هناك قرابة ثمانية أشهر. كان العذاب حاضراً منذ اليوم الأول، لكنه ازداد سوءاً مع كل انتقال. في البداية، حاولنا التواصل مع أهالينا عبر جنود من قوات الدعم السريع مقابل مبالغ مالية، لكن الأمر كُشف لاحقاً".
وانتقل المصري المفرج عنه إلى تفاصيل اللحظات الأخيرة من الاحتجاز "قبل إطلاق سراحنا بشهر ونصف، بدأنا نسمع عن تحركات للإفراج عنا. خرج أول شخصين منا، وهما شقيقان، وبعد أسبوع جاءني أحد جنود الدعم السريع ليبلغني أن القائد يريدني. وعند وصولي إلى مكتبه، أخبرني بوجود مكالمة لي، وطلب مني الإجابة عن الأسئلة المطروحة فقط من دون أي إضافة".
يضيف عزيز، "كان المتصل يتحقق من هُويتي، يسأل عن اسمي، وبياناتي الشخصية، ومعلومات عن عائلتي. استمرت المكالمة بعض الوقت، ثم قال لي إنه سيتصل مجدداً بعد خمس دقائق". ومضى مسترسلاً في حديثه: "في الاتصال الثاني، طلب مني ألا أقلق، وأن أطمئن من معي في الزنزانة. حينها، علمنا أنه يتبع المخابرات المصرية. منذ تلك اللحظة، بدأنا نشعر بتحرك جاد بعد أن فقدنا الأمل، خصوصاً أن قوات الدعم السريع وعدتنا مراراً بإطلاق سراحنا وإنهاء قضيتنا، لكن ذلك لم يحدث حتى جاء هذا الاتصال".
وحول تأثير الحرب على نشاطه التجاري، قال أحمد عزيز، "كانت البضائع مخزّنة في أربعة مستودعات كبيرة. كنا نستعد لتوزيعها في السوق، لكن المخازن نُهبت بالكامل، والديون ضاعت، لأن التجار أنفسهم لم يعودوا قادرين على السداد". واختتم حديثه، "لولا تدخل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لما خرجنا من هذه المقبرة التي كنا نعيش فيها وكأننا موتى."
تحت التعذيب
حين تواصلنا مع عماد محمد معوض، الذي رافق شقيقه ماجد طوال فترة الاحتجاز وكانا أول من أطلق سراحهما ووصل إلى السفارة المصرية في السودان أكد، أنهما قضيا عشرة أشهر في المعتقل الأول، قبل نقلهما إلى معتقل آخر. وأضاف: "عند وصولنا إلى المعتقل الجديد، طلب القائد إعادة المرضى والمصابين إلى المعتقل السابق، وكان شقيقي قد أصيب في ذراعه اليسرى بشظايا قذيفة خلال أول 45 يوماً من الاحتجاز. طلبت من القائد السماح لي بالبقاء معه فوافق".
ويشير معوض إلى أن شقيقه ماجد يصغره بعشر سنوات، إذ يبلغ 34 سنة، ويقول: "كنت أغسل له ملابسه وأساعده في كل شيء بسبب إصابته، وكنت مسؤولاً عن تلبية جميع حاجاته. كنت أتحدث مع عناصر (الدعم السريع) على رغم مخاطر ذلك، وأسألهم عن التهمة الموجهة إلينا، وأؤكد لهم أننا مواطنون مصريون، لكنهم كانوا يروّجون أننا مرتزقة. نحن توافدنا من الفيوم إلى السودان بأعمار تتراوح بين 17 و60 سنة، وننتشر في مختلف دول أفريقيا، ولديّ عمل آخر في تشاد".
"كنت أخشى أن أعود إلى بلدي من دونه، وأكثر ما كان يرعبني أن أفقده. كان يعاني ألماً دائماً في ذراعه. خرجنا قبل الآخرين، إذ لم نمكث سوى 19 شهراً في الزنازين، وكنا أول من أطلق سراحهم". وأضاف بتحفظ: "تعرضنا لإساءة معاملة من قبل قوات (الدعم السريع)، ما حدث لا يمكن سرده".
وعن بداية الأزمة، حكى معوض، "في اليوم الذي اندلعت فيه الحرب، كنت أمتلك تذكرة سفر عبر مطار الخرطوم للعودة إلى القاهرة قبل العيد بستة أيام، لكن عمليات النهب في مناطق الاشتباكات عطّلت مغادرتي. كان لدي بضاعة كبيرة في المخازن، وعلى رغم إرسال مصر طائرات حربية لإجلاء رعاياها، بقيت هناك، وساعدت في عمليات الإجلاء. كنت أساعد في تأمين خروج المصريين من الفيلا التي كنا نقيم فيها، فنحن أكثر من ستة آلاف مصري نعمل في تجارة الأدوات المنزلية. كنت أنسق نقل المصريين على دفعات إلى المطار".
"تمنيت المغادرة معهم، لكن كنت أمتلك بضائع ضخمة من الصين ومصر، ولم أتمكن من تصريفها. لدي 15 حاوية بضائع بقيمة ملايين الدولارات، وعلى رغم مساعدتي في إجلاء الآخرين، لم أتمكّن من إجلاء نفسي. حجزت تذكرة جديدة لحافلة، لكن في اليوم نفسه، داهمت قوات (الدعم السريع) منزلنا".
البحث عن أسلحة
ومن أجل الإلمام أكثر بتفاصيل واقعة الاحتجاز، تواصلنا مع محمد شعبان علي، أحد المصريين الذين أطلق سراحهم من قبل قوات "الدعم السريع". وقال "ذهبت إلى السودان للعمل براتب 5 آلاف جنيه، لم تكن هناك فرص عمل أخرى. عملت أمين مخزن لدى أصحاب عمل من الفيوم، كنت أتسلم البضائع الآتية من مصر وأم درمان والصين وأضعها في المخازن، إضافة إلى تسليم الفواتير. وصلت في فبراير 2023، واستمر عملي حتى جرى احتجازنا في يونيو (حزيران). كنا نأمل في أن تهدأ الأوضاع ونعود إلى العمل، لذلك بقينا نحرس المخازن. كنا نقيم في فيلا استأجرها عماد معوض وأحمد عزيز، وكانت تضم السكن والمخازن".
وأضاف، "عند اقتحام المكان، فتشوا المخازن معتقدين أنها تحتوي على أسلحة. أوضحنا لهم أننا نعمل في السودان منذ عام 2004، لكنهم لم يستجيبوا وتعاملوا معنا بقسوة. جرى نقلنا إلى أربعة أماكن احتجاز، أصعبها كان في سوبا والمركزي، حيث استمرت إقامتنا هناك أربعة أشهر. خلال هذه الفترة، واجهنا نقصاً في الطعام بسبب صعوبة وصول الإمدادات، وجرى عزلنا في زنزانة واحدة من دون فرش، مما أدى إلى إصابتنا بأمراض متكررة. أصبت بالملاريا أربع مرات."
وحين سألناه عن تفاصيل إطلاق سراحهم، أجاب شعبان، "عدنا تسعة أشخاص، ستة من الفيوم وثلاثة من أسوان وسوهاج والمنصورة، بينما بقي ثلاثة آخرون ممن كانوا معنا في المعتقل الأول، بينهم عبد القادر عجمي من قرية أبو شنب، الذي تدهورت حالته بسبب الملاريا وتورم جسده، فكنا نحمله إلى الحمام".
كما ألقى شعبان الضوء على معاناتهم في الزنازين، وقال "تعرضنا للسباب والضرب بمواسير المياه والسياط. أغلب الوقت كنا نعيش في ظلام دامس، وعندما نخرج إلى الحمام، كنت لا أحتمل الضوء". كما وصف الطعام الذي كان يقدم لهم، "وجبة واحدة يومياً كانت عبارة عن عصيدة من دون أي إضافات. في بعض الأيام، كانوا يعطوننا رزاً، ولكن بكميات ضئيلة جداً".
ودق مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) ومنظمة الأغذية والزراعة (الفاو) ناقوس الخطر خلال جلسة لمجلس الأمن الدولي بشأن الوضع في السودان، ملقياً الضوء على تدهور الأمن الغذائي إلى أسوأ مستوياته في تاريخ البلاد.
لم تقف المعاناة عند هذا الحد حيث حكى الشاب الأربعيني، "كنا ننام بجوار الجرادل المخصصة لقضاء الحاجة، مع انتشار الحشرات. في الفترات الأخيرة في الاحتياطي المركزي، تدهورت صحة بعض المحتجزين بشكل ملحوظ".
وعن ظروف النقل، أوضح أنه جرى نقلهم عبر عدة مراحل. بدءاً من نقطة ارتكاز في شرق النيل، حيث تواصل ضابط من "الدعم السريع" مع المخابرات المصرية، ومن ثم جرى تصوير مقطع فيديو لإثبات ذلك وإرساله إلى السفارة المصرية. "بعدها نقلونا إلى منطقة عد بابكر، التي تخضع للجيش السوداني، حيث مكثنا هناك ليلة واحدة. ثم نقلونا إلى معسكر حطاب، وهناك حصلنا على الطعام. بعد ستة أيام في معسكر آخر تابع لمنطقة بحري، كان التعامل أفضل".
أنهى معوض حديثه، "عند دخولي المعتقل، كان وزني 105 كيلوغرامات، وعند خروجي أصبح 60 كيلوغراماً. ولا أفكر في العودة إلى السودان مجدداً".
ناجون من الأسر
بينما نجا محمد عزيز من تلك الدائرة الجهنمية، إذ غادر السودان قبل أسبوع من الحادثة. وقال لـ"اندبندنت عربية" إنه ظل على تواصل مع أفراد من قوات "الدعم السريع" في محاولة لإنقاذ شقيقه المحتجز. "كنت أبذل جهداً كبيراً للحصول على رسائل صوتية منهم، لكن الصعوبة تكمن في أن هؤلاء العناصر كانوا من غرب السودان وعلاقتنا كانت محدودة في الخرطوم. كنا نتواصل معهم مرة كل شهرين أو ثلاثة، ونتبادل المال مقابل صورة أو رسالة صوتية."
وأضاف عزيز، "صرفنا نحو 520 ألف جنيه منذ بداية احتجازهم، في محاولة للتواصل معهم وتسهيل إخراجهم. كان أحد أفراد الدعم السريع يساعدنا في الحصول على رسائل من عماد معوض، لكننا تعرضنا للاحتيال، حيث كان الاتفاق أن المبلغ الأكبر من المال يُدفع مقابل إطلاق سراحهم."
هذا ما أكده أيضاً حسين عبد الوهاب، الذي غادر السودان قبل خمسة أيام من وقوع الحادثة. وقال: "آخر مرة تواصلنا معهم كانت قبل خمسة شهور من إطلاق سراحهم عبر رسائل (واتساب) من عساكر تابعين لقوات الدعم السريع. استقبلنا أول رسالة بعد ثلاثة أشهر من احتجازهم، وكنا ندفع أموالاً مقابل كل رسالة، وكان أقل مبلغ للرسالة 5 آلاف جنيه مصري". مضيفاً "تعرضنا للاحتيال من شخص حصل على مبلغ كبير من الدعم السريع على أساس أنه سيفرج عنهم، واكتفى بتسهيل الرسائل".
وبالنسبة إلى أسباب توجههم إلى السودان، أوضح عبد الوهاب أن أهل الفيوم يقسمون أنفسهم إلى مجموعات؛ مجموعة تتجه إلى ليبيا، وأخرى إلى دول أفريقية مثل مالي والسنغال. وقال: "كل شخص يختار وجهته بناءً على الفرص المتاحة، وليس وفقاً لظروف البلد. كنا أكثر من 2000 شخص من قريتنا منتشرين في مختلف مناطق السودان".
وثّق تقرير أممي حديث، استنادًا إلى 34 مقابلة مع محتجزين سابقين وشهود عيان، انتشار نمط من الاحتجاز التعسفي لعشرات الآلاف دون تهم، في مرافق مكتظة مع محدودية أو انعدام الاتصال بعائلاتهم، إضافة إلى التعذيب وسوء المعاملة والظروف اللا إنسانية من قبل قوات الدعم السريع والجيش السوداني في ولاية الخرطوم.
وبحسب التقرير، الذي يستند إلى روايات موثوقة تغطي الفترة من اندلاع النزاع في السودان في 15 أبريل (نيسان) 2023 حتى يونيو (حزيران) 2024، توفي عدد من المعتقلين رهن الاحتجاز بسبب الحرمان من العلاج في مراكز الاحتجاز التابعة لقوات الدعم السريع والجيش السوداني.
وقدّم محتجزون سابقون شهادات حول تعرضهم للضرب المتكرر، ومحدودية الوصول إلى خدمات الصرف الصحي، وعدم كفاية الغذاء والماء، إضافة إلى تعرضهم لمعاملة تمييزية على أساس العرق والانتماء المفترض لأحد أطراف النزاع.
كما سلّط التقرير الضوء على انتهاكات جسيمة ارتكبتها قوات الدعم السريع، شملت العنف والتعذيب، لا سيما في سجن سوبا. مشيراً أيضًا إلى تلقي مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان تقارير تفيد بقيام قوات الدعم السريع بنقل محتجزين من أماكن احتجاز كانت تحت سيطرتها إلى مواقع أخرى، مع استعادة الجيش السوداني السيطرة على بعض المناطق.
تواصلت "اندبندنت عربية" مع إبراهيم مخير، مستشار قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو، لمواجهته بالاتهامات التي وجهها المصريون المحررون بشأن الانتهاكات التي تعرضوا لها خلال فترة احتجازهم التي استمرت قرابة عامين.
ورد مخير قائلاً: "المعتقلون لدينا حاولنا أن نقدم لهم ما نستطيع من خدمات في ظل ظروف صعبة، إذ منع الجيش السوداني وصول الإغاثة، وواصل القصف الجوي، ورفض جميع محاولات وقف إطلاق النار".
وأضاف مخير، "استبسل (مقاتلونا) في الحفاظ على حياة المعتقلين بشجاعة، وأطلقنا سراحهم في أول فرصة لاحت لنا، بعد أن تعهدت السلطات المصرية بعدم إرسال (جواسيس) إلى بلادنا مجدداً". وفق تعبيره.
واعتبر مخير أن شهادات المصريين المفرج عنهم "يبدو أنهم مجبرون على الإدلاء بها". مضيفاً "هذه الشهادات تظل من جانب واحد فقط، والهدف منها تشتيت الانتباه حول الوجود العسكري المصري في السودان، لكنها لن تنجح". مشدداً على أن "الدعم السريع لا يزال يرحب باللجان الدولية، التي منع البرهان ومجموعته دخولها إلى السودان".
وحول مصير المحتجزين المصريين الثلاثة الذين لم يُفرج عنهم، دعا مخير السلطات المصرية إلى تسليمهم أسماء المفقودين ليتم البحث عنهم والرد عليها.