ملخص
لا يتوانى الجيش الإسرائيلي عن إطلاق النار باتجاه اللبنانيين العائدين إلى قراهم، من أهلها أو سكانها، لا سيما إلى تلك الواقعة عند الحافة الأمامية، أو إلقاء القنابل الصوتية بينهم بواسطة الطائرات المسيرة لدفعهم على مغادرة قراهم أو منع الشاحنات المحملة بمواد البناء من الدخول إليها.
تترك الغارات الإسرائيلية المتكررة على لبنان، من جنوبه إلى بقاعه في الشرق على رغم وقف إطلاق النار المعلن منذ الـ 27 من نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 قلقاً ومخاوف كثيرة عند سكان المناطق الجنوبية الواقعة جنوب نهر الليطاني الخاضعة لبنود القرار الأممي 1701 أو شمال الليطاني من عودة الحرب، إذ تحلق المسيرات الإسرائيلية فوق رؤوسهم بشكل يومي وعلى علو مخفوض ثم تستهدف إلى جانب الطيران الحربي منازل بعينها أو سيارات متنقلة على الطرقات بين مختلف المناطق اللبنانية فتغتال من تسميهم إسرائيل بعناصر "قوات الرضوان" في "حزب الله" لكونهم يقومون بأعمال عسكرية وأمنية ضدها، كما تقول. وإذ تتصاعد وتيرة الأعمال الحربية الإسرائيلية في المدة الأخيرة بين جنوب الليطاني وشماله وصولاً إلى أبعد من مسافة 120 كيلومتراً عن الحدود الجنوبية في مناطق البقاع الشرقي والشمالي بين غارات مكثفة تستهدف الأودية والأحراج القريبة من الأماكن السكنية فتحدث رعباً في نفوس السكان، أو من خلال الغارات المتكررة للمسيرات الإسرائيلية على أفراد يستقلون سيارات مدنية فيغتالون أكثر من سبعة "عناصر" من الحزب بين السبت والإثنين الماضيين، ونحو 11 في الأسبوع الأخير، يلتزم "حزب الله" بعدم الرد، وأحياناً عدم التعليق على الحوادث المتكررة.
إضافة إلى ذلك، لا يتوانى الجيش الإسرائيلي عن إطلاق النار باتجاه العائدين إلى قراهم، من أهلها أو سكانها، لا سيما إلى تلك الواقعة عند الحافة الأمامية، أو إلقاء القنابل الصوتية بينهم بواسطة الطائرات المسيرة لدفعهم على مغادرة قراهم أو منع الشاحنات المحملة بمواد البناء من الدخول إليها.
90 قتيلاً منذ وقف النار
ما عزز من مخاوف عودة الحرب إلى لبنان هو استئنافها بقوة إلى قطاع غزة، حيث سقط خلال ساعات قليلة مئات الفلسطينيين بين قتلى وجرحى نتيجة الغارات الإسرائيلية.
في المقابل تبرر إسرائيل "خروقها" في لبنان بأنها تستهدف مواقع ومنشآت لـ"حزب الله"، و"أنها لن تسمح له بإعادة بناء قدراته بعد الحرب"، وكان يفترض أن يلزم الاتفاق المعقود بين إسرائيل و"حزب الله" من خلال الدولة اللبنانية برعاية أميركية وفرنسية الجيش الإسرائيلي الانسحاب من جنوب لبنان خلال 60 يوماً تنتهي في الـ 26 من يناير (كانون الثاني) الماضي، قبل أن يتم تمديدها حتى الـ 18 من فبراير (شباط) 2025، لكن مع انقضاء المهلة، أبقى الجيش الإسرائيلي على وجوده في خمس تلال استراتيجية في جنوب لبنان على امتداد الحدود الجنوبية، تخوله الإشراف على بلدات حدودية لبنانية ومناطق مقابلة في الجانب الإسرائيلي بحجة "التأكد من عدم وجود تهديد فوري".
اعتبر لبنان بقاء الوجود الإسرائيلي في هذه التلال احتلالاً ودعا الأمم المتحدة والدول الراعية لوقف إطلاق النار إلى إلزام إسرائيل بالانسحاب الفوري، واستناداً إلى بيانات رسمية لبنانية، منها بيانات وزارة الصحة اللبنانية والجيش اللبناني، فإن إسرائيل منذ سريان اتفاق وقف إطلاق النار في الـ 27 من نوفمبر الماضي ارتكبت أكثر من ألف انتهاك طاولت الجنوب والبقاع، وتوزعت بين غارات جوية واستهداف مباشر بالرصاص وتفجير منازل، مما أسفر عن سقوط نحو 90 قتيلاً بينهم مدنيون، ومنهم 44 قتيلاً بين الـ 26 من يناير الماضي والـ 18 من مارس (آذار) الجاري في الجهة اللبنانية و290 جريحاً على الأقل.
إسرائيل لم توقف الحرب
يرى الباحث السياسي والمحاضر في الجامعة اللبنانية نسيب حطيط "أن الحرب لم تتوقف إلا من الجانب اللبناني، وهناك التباس عند الجمهور العام الذي يتساءل إذا كانت الحرب ستقع، هذا المفهوم خاطئ لأن إسرائيل لم توقف الحرب من جهتها ولم تزل مستمرة بوتيرة الاغتيالات وليس بالقصف الشامل على المدنيين أو ضاحية بيروت الجنوبية وغيرها، أما قصف المراكز العسكرية واغتيالات عناصر من ’حزب الله‘ في سيارات مدنية، فلم يتوقف، هو ليس استعراضاً للقوة بقدر ما هي حرب مفتوحة تواصلها إسرائيل على لبنان".
ويضيف حطيط "كان البعض في لبنان يقولونها مواربة، لكن الشعور العام عند أميركا وإسرائيل ومن معهما أن ثمة لحظة تاريخية ذهبية إن لم نستفد منها الآن، في إشارة إلى إنهاء الحزب وسحب سلاحه، ولن تطول بطبيعة الحال، نكون قد خسرنا هذه الفرصة الذهبية".
يظن حطيط أن "حزب الله" اختار "التضحية بالمفرق من عناصره قبل أن يقوم بحرب غير مستعد لها وتكون التضحية بالجملة، هو الآن يضحي بشباب وكوادر ويكظم غيظه لأن البديل هو فتح الحرب، وفتح الحرب الآن ليس لمصلحة الحزب وجمهوره بخاصة أنه يسعى إلى استعادة أنفاسه، بخاصة بعد الضربات التي حصلت لقياداته وأهله ومخزونه الصاروخي".
لبنان ومحاولات التطبيع
ويشير المحاضر إلى أن "ثمة خيارين أمام ’حزب الله‘، إما أن يُجر إلى الانفعال تحت عنوان العاطفة أو الاستفزاز أو ما يتعرض له من إهانات، أو أن يبقى ساكتاً وصامتاً بدلاً من أن يذهب إلى حرب غير مهيئة ستعطي إسرائيل ما تريده، وما لم تستطع له في الجولة الأولى من اجتثاث الحزب بحرب غير مهيئة لها وجاهزة لها، أن تعطي إسرائيل هذه الورقة، لذلك الحزب اليوم مع خيار السكوت والتضحية، لكن الأمور سواء في سوريا أو في لبنان أو في المنطقة لن تدوم سنوات عدة، أقصاها سنة، واليوم إذا كانت أميركا برأس الهرم والذروة ونحن وصلنا إلى أسفل القعر، لا بد من أن نصعد شيئاً فشيئاً وأميركا سوف تنزل قليلاً".
ويتوقع الباحث حطيط أن هناك "ضغطاً على لبنان لجره إلى التطبيع، فلبنان تاريخياً هو دينمو ما يسمى بحركة التحرر أو الرفض العربي، على مستوى النخب الثقافية والعسكرية لذلك نشهد اليوم هذا الضغط من أجل موافقتنا على التطبيع والسلام وما يشبه اتفاق الـ 17 من مايو (أيار) 1983 الذي فرض على لبنان بعد اجتياح إسرائيل لبنان ووصولها إلى العاصمة بيروت عام 1982".
كان "اتفاق 17 مايو" مشروع اتفاق سلام تم التوصل إليه في 17 مايو 1983 بين الحكومة اللبنانية وإسرائيل إلا أنه ألغي قبل المصادقة عليه بعد أقل من عام أمام الرفض الشعبي اللبناني والاعتراض السوري.
ويستند حطيط إلى كلام مبعوث الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف، إذ أعرب عن تفاؤله حيال إمكانية انضمام سوريا ولبنان إلى التطبيع مع إسرائيل بعد الضربات القوية التي تعرضت لها القوى المدعومة من إيران، في إشارة إلى "حزب الله" وسقوط نظام بشار الأسد، ويقايضنا "بالذهاب إلى التطبيع بجملة من الوصايا والشروط، بانسحاب إسرائيل من هذه ’المسامير‘ الخمسة (التلال التي لم تزل محتلة في جنوب لبنان) وبقاء شبعا وكفرشوبا في عهدة الأمم المتحدة، يعني يعطينا السلام والتطبيع وممنوع سلاح ’حزب الله‘ بأي مكان في لبنان حتى البقاع مقابل رضى إسرائيل في أن نأكل ونشرب".
ويطرح المتحدث جملة من الأسئلة "ماذا سيتحقق لو استسلم لبنان؟ هذا فرض استسلام وليس اتفاق وقف النار، وما الضمانة بعد تسليم السلاح والتطبيع مع إسرائيل ألا يفعل بنا الإسرائيلي ما فعله بغزة ليل أمس؟ وأنا لا أستبعد بأن يقوم بضربة في لبنان مثل ضربة غزة في الأيام المقبلة".
مكشوفون أمام عدونا
وينتقد حطيط "أننا ما زلنا نتصرف وكأن شيئاً لم يحصل، وكأن الحرب انتهت، إنها ما زالت قائمة ونحن أقنعنا أنفسنا بأنها توقفت، ليس صحيحاً هذا الكلام، ولماذا نتصرف وكأن الأمور انتهت وهي لم تنته؟ لم نزل نمارس الأمور عينها مثل الأيام السابقة للحرب ونستخدم السيارات عينها التي ما زالت إسرائيل تستهدفها أو تنظر إليها كأهداف محتملة، وندخل إلى قرانا وكأن شيئاً لم يحصل، ونقيم مجالس العزاء ونبثها مباشرة على الهواء فيعتمدها العدو في اختيار أهداف جديدة، ألم نتعلم من هذه الحرب؟ نحن مكشوفون أمام عدونا ونتباهى بأننا مكشوفون، لماذا هذا التراخي؟ نقدم التسهيلات إلى الإسرائيلي كي يقتلنا ويغتالنا وما حصل في غزة أمس خير دليل على أن لا أمان للإسرائيلي".
ويعتبر الباحث السياسي أن "أسوأ أيام معدومة الأمن هي أيام وقف النار في جميع الحروب، فكيف أمام عدو غادر؟ الحرب لم تزل قائمة ويمكن في أي لحظة لالتقاط الفرصة أن ينقض عدونا علينا، أميركا أمام لحظة تاريخية لم تصل إليها منذ 70 عاماً في المنطقة، وترى أنها تستطيع حصاد ما تستطيع من نتائج على الأرض ضمن شروط مرتفعة، إن لم تصل إليها قبل نهاية العام الجاري فلن تلتقط هذه الفرصة ثانية، إذ إن أموراً كثيرة سوف تتبدل على مستوى المنطقة برمتها، ومن ذهبوا بالصدمة سوف يستفيقون منها، ومن تعرض لضربة ما سينهض من جديد".
الحل بتطبيق اتفاق وقف النار
في المقابل، يرى العميد الركن المتقاعد في الجيش اللبناني سعيد قزح أن "الإسرائيلي يحاول فرض إرادته في تنفيذ وقف إطلاق النار، وهو يلاحق جميع الأهداف التي يمكن أن تشكل خطراً عليه حالياً أو مستقبلاً، يقوم بتصفية القيادات التي شاركت في الحرب أو كان لها دور فيها وليبرهن أن وقف إطلاق النار أعطاه الحق بالتدخل على جميع الأراضي اللبنانية لإزالة أي خطر يواجهه أو يمكن أن يشكل مساساً بأمن إسرائيل".
ويوضح قزح أن "المنطق يقول بأن ’حزب الله‘ يجب أن يلتزم بالاتفاق الذي وقعه مع أميركا بشخص رئيس مجلس النواب نبيه بري ووافق عليه بحكومته التي كانت برئاسة نجيب ميقاتي، وأن يلتزم بتطبيق الاتفاق وبتطبيق الدستور اللبناني وينخرط في الدولة اللبنانية وبحل الميليشيات العسكرية التابعة له كي ينزع الذريعة من يد الإسرائيلي الذي يتابع حربه ويغتال كل كوادر الحزب".
ويتساءل الخبير العسكري "لماذا يموت هؤلاء؟ أليس حراماً؟ وما هو الثمن؟ يذهبون بالرخيص ولا أحد يعلق أو يستنكر بالحد الأدنى أو يرفع الصوت، إذا أردنا تغليب المنطق يجب على ’حزب الله‘ بحكمته أن ينخرط في الدولة اللبنانية وينزع الذرائع من يد إسرائيل".
وينتقد قزح "الفترة السابقة التي جسد فيها ’حزب الله‘ اللامنطق وأدخلنا في حرب الإسناد مع غزة، وأدخلنا في هذه الحرب التي جلبت الدمار على لبنان وعلى الحزب وعلى بيئته وقياداته، وكل هذه الخسائر التي تكبدها الحزب منذ 2006 وليس في الحرب الأخيرة، إذ تكبدت البيئة الشيعية نحو 20 ألف ضحية بين حرب 2006 وحرب سوريا وصولاً إلى حرب 2023- 2024، كل هذه الحروب تعبر عن اللامنطق الذي كان ’حزب الله‘ يسير في خطه وأدخل بيئته والبلاد فيه وتكبد هذه الخسائر من دون أي ثمن".
ونسأله عن الاتفاق الذي يلزم إسرائيل بوقف النار منذ الـ 27 من نوفمبر 2024، لماذا لم تلتزم إسرائيل به؟ يجيب العميد قزح "من يعرف ما هو الاتفاق الذي حصل بين الرئيس نبيه بري والمبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط آموس هوكشتاين؟ الحكومة التي وقعت على الاتفاق هل تعرف ما هو؟ وعلامَ ينص؟ إن الضمانات الأميركية التي طال الحديث حولها وقت توقيع الاتفاق هل هناك من يعرف تفاصيلها؟ لكن، أكان هذا الاتفاق أو لم يكن، كلما أسرع ’حزب الله‘ في إعلان انخراطه في الدولة وتسليم سلاحه أو تسفيره، أو التخلي عن سلاحه وتحوله إلى حزب سياسي، كل هذه الحوادث سوف تتوقف وتمنع إسرائيل من تكرارها".
ويعتقد العميد قزح في امتناع "حزب الله" عن الرد على استهداف كوادره بأنه "يحاول استعادة أنفاسه، وإيران لن تسلم بخسارة "حزب الله" وخسارة سوريا وخسارة الحشد الشعبي في العراق والميليشيات العراقية بعد المحادثات بينهم وبين المرجع الديني الأعلى علي السيستاني لانخراطهم في إطار الدولة هناك، ولا بخسارة الحوثيين الذين أتت إليهم المقصلة حتى لا يعود لهم تأثير على حركة التجارة العالمية أو يشكلون خطراً على المضائق والمياه الدولية، إيران لن تسلم ويبقى الخوف من أن يأتي الدور عليها".