في حادثة لا تزال تثير الجدل حتى اليوم، شكل اغتيال الرئيس الأميركي جون كينيدي في الـ22 من نوفمبر (تشرين الثاني) 1963 واحدة من أكثر الجرائم السياسية غموضاً في التاريخ الحديث.
قتل كينيدي أثناء موكبه الرئاسي في دالاس بتكساس، ووجهت التهمة إلى لي هارفي أوزوالد مباشرة، الذي لم يتح له المثول أمام القضاء، إذ قتل بعد يومين على يد جاك روبي داخل مركز شرطة دالاس، مما زاد من الشكوك والتكهنات حول أبعاد الحادثة.
وعلى رغم مرور عقود، لا تزال بعض الوثائق المتعلقة بالتحقيقات سرية، مما عزز نظريات المؤامرة حول ملابسات الاغتيال وإمكان تورط أجهزة استخبارية.
في خطوة أعادت الجدل حول القضية، نشر الأرشيف الوطني الأميركي مساء أول من أمس الثلاثاء أكثر من 80 ألف وثيقة متعلقة باغتيال الرئيس الأميركي السابق جون كينيدي، تنفيذاً للوعد الانتخابي للرئيس دونالد ترمب بالكشف عن جميع الملفات المرتبطة بهذه الحادثة التاريخية. ويتوقع أن تسهم هذه الوثائق في تسليط الضوء على بعض الجوانب الغامضة التي أحاطت بالقضية، وأسهمت في إعادة تشكيل المشهد السياسي الأميركي.
1- ما أبرز المعلومات التي كشفت عنها وثائق كينيدي التي نشرها ترمب؟
كشفت الوثائق عن عمليات تنصت واسعة قامت بها وكالة الاستخبارات المركزية "سي آي أي" الأميركية في مدينة مكسيكو، إذ كانت تراقب اتصالات الدبلوماسيين السوفيات والكوبيين.
كما كشفت عن لقاء جمع لي هارفي أوزوالد بضابط استخبارات سوفياتي يدعى فاليري كوستيكوف، الذي كان مرتبطاً بالقسم 13 في جهاز الـ"كي جي بي"، المسؤول عن تنفيذ الاغتيالات.
وقللت وثائق أخرى من شأن صلة أوزوالد بالاتحاد السوفياتي.
كما تناولت الوثائق تفاصيل محاولات "سي آي أي" اغتيال الزعيم الكوبي فيدل كاسترو، إضافة إلى الصراع الداخلي بين وزارة الخارجية ووكالة الاستخبارات المركزية حول السيطرة على العمليات الخارجية.
وكشفت وثيقة أخرى أن صحيفة بريطانية تلقت اتصالاً مجهول المصدر قبل 25 دقيقة فقط من اغتيال كينيدي، يحذرها من "خبر كبير" قادم من الولايات المتحدة.
كما تضمنت بعض الشهادات التي تدعم نظرية وجود مطلق نار ثان في حادثة اغتيال كينيدي، وهو ما يتناقض مع التقرير الرسمي للجنة وارن.
2- ما لجنة وارن؟
لجنة "وارن" هي الهيئة التي شكلتها الحكومة الأميركية للتحقيق في اغتيال الرئيس جون كينيدي، وتأسست في الـ29 من نوفمبر (تشرين الثاني) 1963 برئاسة رئيس المحكمة العليا إيرل وارن. جرى تكليف اللجنة بدراسة جميع الأدلة المتعلقة بالحادثة، وإصدار تقرير نهائي يوضح حقيقة ما حدث.
خلصت لجنة "وارن" بعد تحقيقات مكثفة إلى أن لي هارفي أوزوالد تصرف بمفرده عندما أطلق النار على الرئيس الأميركي جون كينيدي من الطابق السادس لمستودع الكتب المدرسية في دالاس بتكساس. غير أن تقرير اللجنة، الصادر عام 1964، لم يضع حداً للجدل المستمر حول ملابسات الاغتيال، إذ استمرت الشكوك في شأن احتمال وجود مؤامرة أوسع، لا سيما مع ظهور وثائق جديدة تشير إلى فرضيات لم تبحث بصورة كافية في ذلك الوقت.
وأدى مقتل أوزوالد بعد يومين على يد مالك ناد ليلي يدعى جاك روبي إلى تغذية هذه الشكوك، إذ تعددت النظريات حول الجهة التي قد تكون وراء الاغتيال.
وبينما يعتقد بعضهم أن الاتحاد السوفياتي أو كوبا قد يكونان متورطين، يرى آخرون أن الحادثة جاءت نتيجة مؤامرة دبرتها المعارضة الكوبية المناهضة لفيدل كاسترو، بدعم من أجهزة الاستخبارات الأميركية أو أطراف معارضة لكينيدي داخل الولايات المتحدة.
3- ما طبيعة الصراع الذي كشفت عنه الوثائق بين وزارة الخارجية الأميركية ووكالة الاستخبارات المركزية في ما يخص إدارة العمليات الخارجية؟
أظهرت الوثائق أن هناك صراعاً داخلياً بين وزارة الخارجية الأميركية ووكالة الاستخبارات المركزية حول تنفيذ العمليات السرية في الخارج، لا سيما في كوبا وأميركا اللاتينية، إذ تمحور الخلاف حول مدى استقلالية الوكالة في التخطيط والتنفيذ من دون العودة لوزارة الخارجية.
إحدى الوثائق كشفت عن أن توتراً نشأ بين الطرفين في شأن إدارة العلاقات مع الدول الحليفة، إذ حاولت "سي آي أي" تجنيد موظفين أجانب من دون علم الخارجية، مما أثار مخاوف من تأثير ذلك في السياسة الدبلوماسية الأميركية.
وفي وثيقة أخرى، أبلغ المساعد آرثر شليزنغر الرئيس جون كينيدي بأن اعتماد الوكالة على مصادر أميركية خاضعة للرقابة يمثل تجاوزاً لمهمات وزارة الخارجية التقليدية. كما اشتكت السفارة الأميركية في باريس من محاولات "سي آي أي" احتكار قنوات الاتصال مع شخصيات سياسية فرنسية بارزة، من بينها رئيس الجمعية الوطنية الفرنسية.
وتشير الوثائق أيضاً إلى أن بعض مسؤولي الخارجية كانوا يرون أن أنشطة الوكالة قد تؤدي إلى تصعيد دبلوماسي غير مرغوب فيه، خصوصاً إذا جرى الكشف عن تفاصيل بعض العمليات السرية.
وفي المجمل، بينت هذه الوثائق أن "سي آي أي" عملت بصورة شبه مستقلة، مما تسبب في احتكاكات دائمة مع وزارة الخارجية، إذ سعت الأخيرة إلى الحد من نفوذ الوكالة، بينما حاولت الأخيرة تعزيز سيطرتها على العمليات الاستخبارية، خصوصاً في أميركا اللاتينية.
4- ما دور العميل السوفياتي فاليري كوستيكوف في لقاءاته مع لي هارفي أوزوالد، وكيف فسرت الوثائق انتقاله للبنان عام 1978؟
أوضحت الوثائق أن فاليري كوستيكوف، ضابط الاستخبارات السوفياتي المتخصص في العمليات السرية عضو القسم الـ13 في "كي جي بي" المسؤول عن تنفيذ الاغتيالات، التقى لي هارفي أوزوالد في السفارة السوفياتية في مكسيكو سيتي قبل شهرين من اغتيال الرئيس الأميركي جون كينيدي.
وذكرت الوثائق أن أوزوالد زار السفارة في سبتمبر (أيلول) 1963، إذ التقى بكوستيكوف، في محاولة للحصول على تأشيرة لدخول الاتحاد السوفياتي، لكنه لم ينجح.
كما أشارت إحدى الوثائق إلى أن "سي آي أي" اعترضت مكالمة هاتفية كشف فيها أوزوالد عن اسمه الحقيقي أثناء الاتصال بالسفارة السوفياتية، مما أثار تساؤلات حول سبب عدم اتخاذ السلطات الأميركية إجراءات ضده قبل تنفيذ الاغتيال.
وفي سياق آخر، كشفت الوثائق عن أن كوستيكوف انتقل إلى بيروت عام 1978، إذ شغل منصب سكرتير أول في السفارة السوفياتية، وهو ما أثار قلق "سي آي أي" التي اشتبهت في تورطه بأنشطة تخريبية تستهدف السفارات الغربية، إضافة إلى دوره المحتمل في تعزيز النفوذ السوفياتي في المنطقة.
5- ما الأدلة الجديدة التي تدعم نظرية وجود أكثر من مطلق نار في حادثة اغتيال كينيدي؟
أشارت بعض الوثائق إلى أن هناك تقارير تفيد بإطلاق نار من "المرتفع العشبي"، وهو موقع أمام موكب كينيدي، مما يتناقض مع الرواية الرسمية التي قالت إن أوزوالد كان المسلح الوحيد وأطلق جميع الطلقات من مبنى مستودع الكتب المدرسية.
6- كيف سلطت الوثائق الضوء على أنشطة التجسس التي نفذتها "سي آي أي" في أميركا اللاتينية؟
أكدت الوثائق أن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية لعبت دوراً في شؤون أميركا اللاتينية من خلال دعم الانقلابات والتجسس على شخصيات سياسية في دول مثل تشيلي والمكسيك وكوبا، كما تجسست على السفارات السوفياتية والكوبية في المكسيك، وسعت إلى تجنيد عملاء مزدوجين ضمن عملياتها السرية.
وأوضحت الوثائق أن "سي آي أي" نفذت عمليات تنصت واسعة على الهواتف في مدينة مكسيكو بين ديسمبر (كانون الأول) 1962 ويناير (كانون الثاني) 1963، بهدف مراقبة السفارتين السوفياتية والكوبية. واستخدمت الوكالة مواد كيماوية خاصة لتمييز أجهزة الهاتف بعلامات غير مرئية لا يمكن كشفها إلا بالأشعة فوق البنفسجية، مما مكن العملاء الأميركيين من تحديد الخطوط المستهدفة بالمراقبة.
كما كشفت الوثائق عن عمليات تجسس مكثفة على السفارة الكوبية في المكسيك، في سياق مساعي الرئيس جون كينيدي إلى الإطاحة بفيدل كاسترو، وهي الجهود التي عززت التكهنات حول احتمال تورط كوبا في اغتياله.
7- ما عملية النمس؟
كشفت وثائق رفعت عنها السرية أن "عملية النمس" كانت حملة سرية أميركية للإطاحة بنظام فيدل كاسترو، بعد فشل غزو خليج الخنازير عام 1961. أطلقت في نوفمبر (تشرين الثاني) 1961 بإشراف الجنرال إدوارد لانسديل، وشاركت فيها وكالة الاستخبارات المركزية ووزارة الخارجية والبنتاغون.
جندت "سي آي أي" معارضين كوبيين، دربتهم على التخريب والتجسس، وزودتهم بأسلحة لتنفيذ عمليات داخل كوبا، شملت تفجير مصانع، وإحراق حقول قصب السكر، وإفساد الإمدادات الغذائية، وحتى تلويث مصادر المياه. كما استخدمت الدعاية السرية، وفرق الكوماندوز، ومحاولات اغتيال كاسترو بأساليب غير تقليدية، منها سيجار مسموم ومتفجرات في قواقع بحرية.
كما تضمنت الخطة تضليل الاتحاد السوفياتي بمعلومات مزيفة لدفعه لاتخاذ قرارات خاطئة في شأن دعم كاسترو، لكن العملية فشلت في تحقيق أهدافها.
8- لماذا فشلت "عملية النمس" وماذا كشفت عنه؟
على رغم جهود "سي آي أي" المكثفة، فشلت العملية بسبب يقظة الأمن الكوبي ودعم الاتحاد السوفياتي، مما ساعد في كشف العملاء الأميركيين، كما أثرت الخلافات داخل واشنطن وتردد كينيدي في التصعيد العسكري خشية الحرب مع موسكو. لاحقاً، غيرت أزمة الصواريخ الكوبية الأولويات الأميركية نحو الحل الدبلوماسي.
رفع السرية عن وثائق "النمس" كشف عن حجم العمليات السرية خلال الحرب الباردة وأثار تساؤلات عن دور "سي آي أي" في مخططات مشابهة. في النهاية، بقي كاسترو في السلطة، وظلت "النمس" من أكثر العمليات الأميركية إثارة للجدل.
9- هل فعلاً الحكومة الأميركية لها علاقة بمقتل الرئيس كينيدي؟
لم تكشف الوثائق التي نشرها ترمب عن دليل قاطع يثبت تورط الحكومة الأميركية في اغتيال كينيدي، لكنها أثارت شكوكاً حول دور الاستخبارات في الحادثة، سواء بصورة غير مباشرة أو من خلال تجاهل مؤشرات تحذيرية.
أظهرت الوثائق أن "سي آي أي" راقبت لي هارفي أوزوالد وعرفت بزياراته إلى سفارات سوفياتية وكوبية في المكسيك، لكنها لم تتخذ أي إجراءات لمنعه. كما كشفت عن اتصالات مريبة سبقت الاغتيال، من بينها مكالمات مجهولة المصدر جرى اعتراضها من دون تحرك جاد.
إضافة إلى ذلك، حاولت الوكالة التعتيم على تقارير صحافية تشير إلى احتمال تورطها، مما عزز نظريات المؤامرة حول مسؤولية داخلية في اغتيال كينيدي.
10- لماذا تأخرت الحكومة الأميركية في الإفراج عن هذه الوثائق، وما الوثائق التي لا تزال سرية؟
على مدى عقود، سعت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية إلى إبقاء هذه الوثائق سرية، خشية كشف أساليبها في التجسس، فيما أجلت الحكومات المتعاقبة نشرها بحجة الحفاظ على "الأمن القومي".
وعلى رغم إصدار ترمب قراراً برفع السرية عن معظمها، لا تزال آلاف الملفات غير منشورة، ويعتقد أنها تحتوي على تفاصيل حساسة حول جهات قد تكون متورطة في العملية.
وخلال السنوات الأخيرة، نشرت إدارة الأرشيف والوثائق الوطنية الأميركية عشرات آلاف السجلات المتعلقة باغتيال كينيدي، مشيرة إلى أن 97 في المئة منها باتت متاحة، وتشمل نحو 5 ملايين صفحة.
ومع ذلك، لا تزال ثلاثة في المئة من الوثائق سرية، مما يثير تساؤلات حول محتواها، وما إذا كانت تخفي أدلة حساسة قد تكشف عن حقائق جديدة عن واحدة من أكثر الجرائم السياسية إثارة للجدل في التاريخ الأميركي.