Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.
يحدث الآن

القصر الجمهوري في الخرطوم... ماضي السودانيين وواقعهم

يكتسب رمزيته كونه جزءاً من تاريخ البلاد وصرحاً أثرياً يتجاوز عمره قرنين من الزمان

احتفظ القصر الجمهوري في الخرطوم بتفاصيل ثرية قبل اندلاع الحرب (حسن حامد)

ملخص

ظل القصر الرئاسي الأثري القديم الذي ضم مكاتب رئيس وأعضاء مجلس السيادة وإدارات الأمانة العامة لرئاسة الجمهورية في الخرطوم قبل أن يتم تشييد القصر الجديد داخل فناء القصر القديم نفسه عام 2015 مجاوراً للمبنى التاريخي هدية من الصين.

بخلاف كونه مقراً لرئاسة الدولة السودانية ورمزاً لسيادتها لأكثر من قرنين من الزمان، احتفظ القصر الجمهوري بتاريخ طويل لا ينفصل بأي حال عن التاريخ السياسي للبلاد. ولعل معركة الساعات الماضية وإعلان الجيش نجاحه في دخول القصر وطرد قوات "الدعم السريع" منه خير دليل على ذلك.

وعلى رغم ما أصابه من دمار وتشويه لكن الصراع حول القصر الجمهوري وتحريره حمل العديد من الدلالات السياسية والعاطفة الوطنية للسودانيين، بما يحمله من رمزية وتاريخية كبيرة، حيث يعتبر رمزاً للسلطة السياسية في السودان، ومركزاً لإقامة الرئيس والقيادات السياسية العليا في البلاد.

وعلى مدار تاريخ السودان شكل القصر الجمهوري رمزاً للسيادة الوطنية ومقراً رسمياً لرئاسة الجمهورية منذ تأسيسه قبل 199 عاماً، حيث كان مسرحاً لجميع الأحداث والتحولات السياسية الهامة في مسيرة البلاد، منذ عهود الاستعمار وحتى الفترات اللاحقة للاستقلال في 1956.

ظل القصر الرئاسي الأثري القديم الذي ضم مكاتب رئيس وأعضاء مجلس السيادة وإدارات الأمانة العامة لرئاسة الجمهورية، قبل أن يتم تشييد القصر الجديد داخل نفس فناء القصر القديم نفسه عام 2015 مجاوراً للمبنى التاريخي هدية من الصين.

 

 

يكتسب القصر الجمهوري الأثري أهميته ورمزيته الخاصة لدى السودانيين، كونه جزءاً لا يتجزأ من تاريخ وذاكرة البلاد وصرحاً أثرياً يتجاوز عمره ما يقارب القرنين من الزمان 199 عاماً.

تصنيف أثري

تصنف الهيئة العامة للآثار والمتاحف السودانية مبنى القصر الجمهوري ضمن المباني الأثرية التي تشكل جزءاً من تاريخ البلاد الحضاري والسياسي، وشاهداً على التحولات التاريخية ما قبل الثورة المهدية منذ تشييده أول مرة في مرحلة استعمار الحكم الثنائي التركي- المصري للسودان بين 1821 و1885.

نقشت صورة القصر على العملات الورقية والطوابع البريدية التذكارية وتصدرت النشرات الإعلامية كرمز سيادي وسياسي في السودان، وسمي الشارع الرئيس المحاذي لمدخله الجنوبي بشارع القصر بعد أن حمل خلال فترة الاستعمار اسم شارع الملكة فيكتوريا.

كذلك يعد القصر القديم من المعالم المعمارية المهمة في الخرطوم بإطلالته على الضفة الجنوبية للنيل الأزرق على مقربة من المقرن، ويطل عدد من شرفاته عليه، بالقرب من ملتقى النيلين الأزرق والأبيض، فضلاً عن كونه يمثل قلعة تاريخية أثرية من حيث نمط العمارة وطراز التصميم والنوافذ المقوسة رومانية الطابع وبواباته الواسعة وشرفاته ونوافذه البحر متوسطية ذات الملامح الإغريقية، على غرار تصاميم المعمار الأوروبي في القرن الـ17.

حِقب وقادة

تعاقب على القصر الجمهوري منذ الاستقلال عام 1956، خمسة مجالس سيادة برئاسة كل من عبد الفتاح المغربي، وعبد الحليم محمد، وإسماعيل الأزهري مرتين، ثم أحمد علي الميرغني، ومن رؤساء الجمهورية إبراهيم عبود، وجعفر محمد نميري، وعبد الرحمن سوار الذهب، وعمر حسن أحمد البشير، وكان أطولهم مكوثاً في القصر القديم عمر البشير، (26 عاماً) وانتقل في الأربع سنوات الأخيرة من حكمه إلى القصر الجديد، بينما أمضى جعفر نميري فترة (18 عاماً) بالقصر القديم.

وإلى جانب مكاتب الرئيس ونوابه، يضم القصر أجنحة سكنية مخصصة لاستضافة رؤساء الدول الأجنبية عند زياراتهم الرسمية للبلاد، إلى جانب صالة مراسيم فخمة مخصصة لتقديم أوراق اعتماد سفراء الدول الأجنبية، كما تتم فيها الاحتفالات بالمناسبات الرسمية للبلاد.

 

 

وكان القصر القديم شاهداً على الأحداث السياسية الداخلية كافة، التي تلت إعلان الاستقلال منذ تشكيل أول حكومة وطنية عام 1953، كمكان لصناعة القرارات المصيرية للبلاد، وشهدت ردهاته تفاصيل كثير من الصراعات السياسية على السلطة، أبرزها احتجاز الرئيس جعفر محمد نميري داخله لبضعة أيام بعد إعلان الإطاحة به من السلطة إثر الانقلاب الفاشل بقيادة الضابط الرائد، هاشم العطا، إذ تم تهريب النميري بقفزه من أعلى جدران سور القصر الشاهق ليعلن عودته إلى الحكم من جديد.

عواصم وأسماء

يعود التاريخ البعيد للقصر القديم إلى فترة الحكم الثنائي التركي- المصري للسودان (1821 - 1885)، وذلك عقب استيلاء محمد علي باشا على السودان عام 1821 تحت ولاية مصر، وكان الحاكم حينها يلقب بـ " حكمدار عام السودان". وقد قام محمد علي بتحويل العاصمة من (سنار) عاصمة دولة الفونج بعد الانقضاض عليها بين فترة 1504 و1821، إلى مدينة ود مدني وسط السودان عاصمة ولاية الجزيرة حالياً.

في عهد الحكمدار عثمان بك جركس 1824، نقلت عاصمة البلاد إلى الخرطوم لتصبح مقراً للدواوين الحكومية كافة ومقراً للحاكم، بعدها بدأ الحكمدار التالي محو بك أُورفلي عام 1825، بوضع اللبنات الأساسية للقصر القديم الذي عرف بقصر الحكمدارية وأيضاً (السراي) سراي الحاكم العام، بني في البداية من الطين اللبن على موقع مميز في العاصمة السودانية ضفة للنيل الأزرق الجنوبية، وأنجز عام 1834 خلال عهد خورشيد باشا بعد أن أدخلت عليه بعض الإضافات والتحسينات.

اقرأ المزيد

وفي عام 1851، قام الحكمدار عبد اللطيف باشا عبد الله بهدم المبنى وأعاد تشييده ببقايا طوب مدينة سوبا الأثرية، عاصمة مملكة علوة القديمة شمال شرقي الخرطوم، وبعض المباني منطقة أبي حراز القديمة على الضفة الشرقية للنيل الأزرق ليتخذ بعدها شكله الحالي المكون من طابق أرضي وطابقين آخرين.

تعددت أسماء القصر الجمهوري عبر تاريخه الطويل، قبل أن يستقر على مسماه الحالي، إذ كان أول اسم له هو "سرايا الحكمدار"، ثم "السرايا" و"سرايا الحاكم العام" في فترة الحاكم العام ما بعد الحكمدراية وخلال فترات الحكم الثنائي، ثم أطلق عليه أسم "القلعة" لبعض الوقت (1898-1956)، وأخيراً سمي بعد الاستقلال بـ "القصر الجمهوري" وعلى رغم أن الرئيس جعفر نميري غير اسمه إلى "قصر الشعب" عام 1972، ولكن عاد الاسم القديم بعد سقوط النميري مرة أخرى حتى اليوم، ومع كل تلك التغييرات في الاسم ظل "القصر القديم" دائماً مقراً للرئاسة إلى أن هجره الرئيس السابق عمر البشير في عام 2015 بعد اكتمال بناء القصر الجديد المجاور له.

مقتل غوردون

من الأحداث التاريخية الكبيرة التي شهدها القصر القديم هو مقتل الجنرال الإنجليزي تشارلز جورج غوردون المعروف بـ"غوردون باشا" حكمدار عام السودان وقتها، على أيدي الثوار أنصار الإمام المهدي قائد الثورة المهدية، وهو يهم بالنزول من درج السلم الحجري للقصر في 26 يناير (كانون الثاني) عام 1885.

لا يزال الدرج الداخلي المقابل لغرفة الجلوس في الطابق الثاني (حيث كان يسكن غوردون) من أشهر معالم وأجزاء القصر وملامحه الأثرية، وتم تجسيد مشهد طعن الجنرال الإنجليزي وتخليد تلك اللحظة في لوحة زيتية رسمها الفنان الإيرلندي جورج وليام جوي، توجد حالياً في متحف مدينة ليدز البريطانية.

 

 

تعرض القصر لفترة طويلة من الإهمال والهجر، بعد اختيار أنصار الإمام المهدي مدينة أم درمان عاصمة للسودان وقتها، لكن الجنرال الإنجليزي كتنشر باشا أول حاكم بريطاني للسودان، أعاد تشييد القصر بعد سقوط دولة المهدية عام 1899، وكان كتنشر خطط لإقامة مدينة حديثة على النمط الأوروبي البريطاني الذي ظهر جلياً في تخطيط الشوارع على نسق العلم البريطاني، وهندسة المباني الجديدة على الطراز الفيكتوري الفاخر، كان القصر يسمى حينها بـ"سراي الحاكم العام"، واستمر كذلك حتى نال السودان استقلاله ليتحول اسمه إلى القصر الجمهوري.

هدية الصين  

في عام 2007 تم الاتفاق على إنشاء القصر الرئاسي الجديد داخل نفس الفناء الواسع للقصر القديم، وتكفلت دولة الصين ببناء القصر الرئاسي كمنحة وهدية للسودان، عرفاناً تاريخياً في ما يشبه المكافأة والانتقام المعنوي من الجنرال غوردون، جلاد الثوار المزارعين الصينيين الذي قتل على سلالم القصر القديم، وبدأ تنفيذ المشروع في مارس (آذار) 2011.

 

 

ومعلوم أن الجنرال غوردون كان قد سحق ثورة الفلاحين الصينيين (التانينغ) ونكل بهم أبشع تنكيل، إبان فترة الاستعمار البريطاني (الصين)، قبل أن ترسل به الإمبراطورية البريطانية لقمع الثورة المهدية في السودان، لكنه لقي حتفه على يد أنصار الثورة المهدية في الخرطوم تحريراً لبلدهم وقصاصاً لثوار الصين"، وفق أنصار الثورة.

لاحقاً تم تحويل مبنى الكنيسة الكاتدرائية، أحد المباني الأثرية، التي افتتحت عام 1912 إلى متحف للقصر أفتتح رسمياً ليلة 31 ديسمبر (كانون الأول) 1999.

المزيد من تقارير