ملخص
أرسى الاتفاق 10 مبادئ أساس لتعامل الدول الثلاث مع الملف، أبرزها التعاون على أساس حسن النيات والتفاهم المشترك وعدم التسبب بضرر "ذي شأن" والتعاون في الملء الأول وإدارة السد، وأن تستكمل إثيوبيا تنفيذ توصيات أمان السد، وأدى ذلك إلى موجة من الارتياح والتفاؤل بقرب انتهاء الملف الذي يؤرق المصريين
في الـ23 من مارس (آذار) 2015 تشابكت أيدي زعماء مصر والسودان وإثيوبيا عقب توقيع اتفاق إعلان المبادئ في شأن سد النهضة الإثيوبي في العاصمة السودانية الخرطوم، واعتبر الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في كلمته حينها الاتفاق "نقطة البداية على طريق الأمل" للتوصل إلى اتفاق يحقق تطلعات التنمية الإثيوبية، ويحافظ على تدفق نهر النيل المصدر شبه الوحيد للمياه في مصر، غير أنه بعد 10 أعوام على التوقيع تقف الدول الثلاث في طريق مسدود، مع وقف المفاوضات وتبادل التهم بغياب الإرادة السياسية للتوصل إلى حل قانوني ملزم.
ووفق خبراء مصريين على صلة بملف السد الإثيوبي، تحدثت إليهم "اندبندنت عربية"، فقد كان اتفاق إعلان المبادئ أحد عوامل إضعاف موقف مصر خلال أعوام التفاوض، بينما استخدمته إثيوبيا للحصول على شرعية لمشروعها الضخم، الذي تعتبره القاهرة "تهديداً وجودياً" لها.
توتر وانفراجة
أجواء ما قبل التوقيع كانت إيجابية بعد عامين من التوتر، فمنذ إعلان الحكومة الإثيوبية في فبراير (شباط) 2011 بدء تشييد المشروع الأكبر من نوعه في أفريقيا، أبدت مصر اعتراضها على إقامة المشروع من دون تشاور مع دولتي المصب، بما له من تأثير محتمل في تدفق المياه، وتطور الموقف إلى اتفاق مصر والسودان وإثيوبيا في سبتمبر (أيلول) من العام نفسه على تشكيل لجنة مستقلة من خبراء دوليين، خلصت في تقريرها في مايو (أيار) 2013 إلى وجود تحفظات واضحة تتعلق بسلامة السد والتأثيرات الاجتماعية والاقتصادية في الفئات الفقيرة بمناطق إنشاء السد، وكذلك تحفظات تتعلق بتأثيره في الموارد المائية لدولتي المصب.
وطالبت اللجنة إثيوبيا بإجراء مزيد من الدراسات التفصيلية لمنع الآثار السلبية للسد، وهو ما لم تتجاوب معه أديس أبابا، مما دفع الرئيس المصري السابق محمد مرسي إلى عقد اجتماع مع ممثلي القوى السياسية لبحث ملف السد الإثيوبي، شهد اقتراحات من رؤساء أحزاب بدعم معارضين إثيوبيين واستخدام القوة، وكان الاجتماع مذاعاً على الهواء مباشرة، مما سبب "حرجاً غير مقصود"، بحسب تعبير مساعدة الرئيس للشؤون السياسية باكينام الشرقاوي، التي اعتذرت عما حدث، وتبع ذلك فشل اجتماع وزراء مياه الدول الثلاث في يناير (كانون الثاني) 2014 بالخرطوم في تحقيق أي اختراق.
ومع تولي الرئيس عبدالفتاح السيسي الحكم في يونيو (حزيران) 2014، تحركت مصر سريعاً في ملف السد الإثيوبي، فعقد الرئيس المصري المنتخب حديثاً لقاءً مع رئيس وزراء إثيوبيا هايلي مريام ديسالين، على هامش القمة الأفريقية في غينيا الاستوائية، وأعلنا التوافق على الاستئناف الفوري لعمل اللجنة الثلاثية حول سد النهضة بهدف تنفيذ توصيات لجنة الخبراء الدولية، واحترام نتائج الدراسات المزمع إجراؤها خلال مختلف مراحل مشروع السد، كذلك جددت الحكومة الإثيوبية التزامها تجنب أي ضرر محتمل من سد النهضة على استخدامات مصر من المياه، وفي المقابل أكدت مصر التزامها الحوار البناء مع إثيوبيا.
وبعد أسابيع من لقاء السيسي وديسالين، عقد وزراء المياه في البلدان الثلاثة اجتماعاً بالخرطوم في أغسطس (آب) 2014، بعد نحو ثمانية أشهر من الانقطاع، فاتفق على آلية لتنفيذ توصيات لجنة الخبراء الدولية في شأن سد النهضة، الذين كانوا طالبوا بإجراء مزيد من الدراسات حول السد، إلى جانب الاستعانة بشركة استشارية دولية لإجراء دراستين إضافيتين في شأن السد، الأولى تختص بمدى تأثر الحصة المائية المتدفقة لمصر والسودان بإنشاء السد، والثانية تتناول التأثيرات البيئية والاقتصادية والاجتماعية المتوقعة في مصر والسودان جراء إنشاء هذا السد، كذلك أقر البيان اختيار خبراء دوليين لحسم أي خلاف قد يظهر إبان النتائج النهائية.
تفاؤل بالاتفاق
وتوجت أشهر الانفتاح بين البلدان الثلاثة بتوقيع اتفاق المبادئ في الـ23 من مارس 2015 بالخرطوم، من جانب الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي والرئيس السوداني في ذلك الوقت عمر البشير ورئيس وزراء إثيوبيا حينها هايلي مريام ديسالين.
وأرسى الاتفاق 10 مبادئ أساس لتعامل الدول الثلاث مع الملف، أبرزها التعاون على أساس حسن النيات والتفاهم المشترك وعدم التسبب بضرر "ذي شأن" والتعاون في الملء الأول وإدارة السد، وأن تستكمل إثيوبيا تنفيذ توصيات أمان السد، وأدى ذلك إلى موجة من الارتياح والتفاؤل بقرب انتهاء الملف الذي يؤرق المصريين.
غير أن الخلافات عادت من جديد بعد غياب التوافق عن جولات التفاوض المتعددة، في مقابل استمرار إثيوبيا في خطوات بناء السد، مما دفع مصر إلى اتخاذ خطوة في تدويل الملف من خلال إثارة الرئيس السيسي على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2019، وتلا ذلك المحطة الأبرز في التفاوض وهو وساطة إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب التي كادت تسفر عن اتفاق، وقعته مصر بالأحرف الأولى في فبراير 2020، فيما رفض الوفد الإثيوبي التوقيع في اللحظة الأخيرة.
وخلال الأعوام الخمسة الماضية التي شهدت ملء بحيرة السد، كررت مصر اتهام إثيوبيا بمخالفة إعلان المبادئ، في حين أكدت أديس أبابا مراراً التزامها الإعلان.
وقال أستاذ الموارد المائية بجامعة القاهرة، نادر نور الدين، إن مصر أخطأت من البداية بتوقيعها على إعلان المبادئ لأنه ينص ضمنياً على الموافقة على إنشاء سد النهضة، ومن ثم عملت على التفاوض، مؤكداً أنه "كان من الطبيعي التفاوض أولاً، ومن ثم التوقيع"، مؤكداً لـ"اندبندنت عربية" أن أي اعتراض مصري لاحق فقد وزنه دولياً بالنظر إلى التوقيع على وثيقة تعترف بالسد.
ويرى نور الدين أن إثيوبيا الأكثر استفادة من الاتفاق، فبعدما جرى التوقيع على اتفاق ينص على أن "الغرض من سد النهضة هو توليد الطاقة، والمساهمة في التنمية الاقتصادية" توصلت إلى اتفاقات مع دول أخرى، و"كل الانتقادات المصرية لم تؤثر في شيء"، بخاصة بعد الإعلان رسمياً عن الانتهاء من السد العام الماضي.
وفي أغسطس من العام الماضي أعلن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد اكتمال بناء السد، وأن بحيرة الخزان ستمتلئ بـ71 مليار متر مكعب من المياه، من أصل 74 مليار هي السعة الإجمالية له.
ووصف نور الدين كل بنود الاتفاق بأنها في صالح إثيوبيا، وحتى النصوص التي قد تحمل إيجابيات لمصر فرغتها أديس أبابا من فحواها.
كانت وزارة الخارجية الإثيوبية قد أكدت، في بيان عام 2021، أن ملء السد تزامناً مع استمرار البناء يتوافق مع اتفاق إعلان المبادئ، بينما اتهم وزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إثيوبيا بانتهاك الاتفاق بعد الملء الرابع للسد في سبتمبر 2023.
ولم يصدق البرلمان المصري حتى الآن على اتفاق إعلان المبادئ، إذ لم يعرض على مجلس النواب خلال الأعوام الـ10 الماضية، وكان نور الدين أحد الداعين قبل أعوام إلى إعلان البرلمان رفضه الاتفاق كي يصبح غير ملزم لمصر، لكنه الآن يرى تلك الخطوة قد تجاوزها الزمن، بعدما استمرت مصر في التفاوض أعواماً بينما أكملت إثيوبيا السد.
وأعلنت القاهرة في ديسمبر (كانون الأول) 2023 انتهاء المسار التفاوضي في شأن السد الإثيوبي بسبب "استمرار المواقف الإثيوبية الرافضة عبر الأعوام الماضية الأخذ بأي من الحلول الفنية والقانونية الوسط التي من شأنها تأمين مصالح الدول الثلاث"، وفق بيان لوزارة الري المصرية.
منطق "حسن النية"
مساعد وزير الخارجية المصري السابق للشؤون الأفريقية، السفير وائل نصر، قال لـ"اندبندنت عربية" إنه عندما طرحت فكرة اتفاق إعلان المبادئ كان التصور أن إثيوبيا ستتعامل معه بمنطق "حسن النية" الذي كان الدافع وراء طرح الاتفاق من الجانب المصري، لكن إثيوبيا استغلته بصورة مغايرة لتحقيق مصالحها فحسب، حين وجدت أن مصر والسودان تقدمان فرصة "على طبق من فضة" لاستكمال مشروع السد.
واعتبر الدبلوماسي المصري السابق طرح إعلان المبادئ قبل توقيعه بأنه كان معبراً عن حسن نية "يزيد على الحد"، إذ لم ينص على مدى زمني للتفاوض، لذا فإثيوبيا استمرت أعواماً من دون نتيجة في التفاوض حتى أنهت مصر التفاوض، مشيراً إلى عدم ارتياحه لنص الإعلان بعد توقيعه، بسبب توقعه أن يعمل الإثيوبيون على التفاوض "إلى ما لا نهاية"، وهو ما حدث بالفعل، وبالتوازي مع ذلك تستمر أديس أبابا في بناء وملء السد.
وقال نصر إن توقيع الاتفاق عام 2015 كان "نقطة تحول" أضعفت موقف مصر التفاوضي في ملف سد النهضة، مشيراً إلى أنه قبل ذلك كانت مصر قد اتفقت مع مكتب محاماة دولي في إنجلترا لمقاضاة إثيوبيا في الخارج للضغط باتجاه إحباط مشروع السد، وهو أحد أكبر مكاتب المحاماة في قضايا الأنهار الدولية، وكانت هناك مؤشرات إيجابية على قوة الموقف المصري قانوناً، لكن بعد توقيع إعلان المبادئ أصبح لا يمكن الاستمرار في هذا المسار.
وأكد أنه في حال التسليم بفكرة توقيع إعلان المبادئ فإن النصوص كان يجب أن تكون بصيغة فضلى، إذ يرى أنه لم يكن صائباً النص على عدم اللجوء إلى المحاكم الدولية في حال الخلاف بين الدول الثلاث، بالنظر إلى توقيع إثيوبيا اتفاقات دولية سابقة يمكن استخدامها أساساً للتقاضي الدولي مثل اتفاق عام 1902.
وعن مراحل التعامل المصري مع السد منذ بدء العمل فيه، ذكر السفير وائل نصر أن حكومة الرئيس السابق محمد مرسي قبلت دعوة لمشاركة وزير الري المصري في حفل تحويل مسار النهر إيذاناً ببدء العمل في السد عام 2013، وبالفعل شارك الوزير على رغم الاعتراض الشديد من مسؤولي وزارة الخارجية المصرية، لأن ذلك كان يعني اعترافاً ضمنياً من القاهرة بالموافقة على السد، مضيفاً عقب إطاحة حكم الإخوان المسلمين لم تتح الظروف الدولية اتخاذ مصر رد فعل عنيفاً تجاه مشروع السد، واستدرك أنه يرى أن المخاوف من رد الفعل الدولي تجاه أي تحرك مصري عنيف "جرى تضخيمها"، بالنظر إلى الأهمية النسبية لمصر لدى المجتمع الدولي بالمقارنة مع إثيوبيا.
وأوضح نصر، الذي يحمل درجة الماجستير من جامعة سان فرانسيسكو الأميركية في دراسة عن الصراع على المياه في الشرق الأوسط مع التركيز على نهر النيل، أن سد النهضة ليس نتاج فكر إثيوبي، بل هو أحد أربعة سدود على النيل الأزرق في إثيوبيا اقترحها عالم أميركي يدعى "جونسون" في دراسة من سبعة أجزاء أصدرها عام 1957، بناءً على تكليف من الإدارة الأميركية للضغط على مصر عقب قرار إنشاء السد العالي، مشيراً إلى أن سد النهضة بموقعه الحالي كان آخر تلك السدود، وبدأ طرح العمل فيه نظراً إلى التوقع بأن "تضربه" مصر، إلا أن عدم وجود رد فعل مصري قوي دفع أديس أبابا إلى الاستمرار.
وأكد نصر أن سد النهضة إضافة إلى السدود الثلاثة الأخرى إذا ما شرعت إثيوبيا في بنائها ستشكل منظومة بالغة الخطورة، مما يعني أن السدود الأربعة سيمثلون "محبس المياه" عن مصر.
وكثيراً ما اعتبرت القاهرة السد "تهديداً وجودياً"، إذ يقع على نهر النيل المصدر شبه الوحيد للمياه لأكثر من 107 ملايين مصري، فيما تعاني مصر عجزاً مائياً يصل إلى نحو 50 في المئة من حاجاتها، بحسب ما أكده وزير الخارجية المصري أمام الأمم المتحدة في سبتمبر 2023.
قصور النص وعوار التطبيق
ومن الناحية القانونية، أوضح المتخصص في مجال القانون الدولي، محمد مهران أن أسباب عدم تحقيق نتيجة إيجابية في المفاوضات المبنية على إعلان المبادئ، تكمن في جانبين هما النص والتطبيق معاً، مشيراً إلى أن النص يعاني قصوراً أساساً يتمثل في غياب آلية ملزمة لتسوية المنازعات، إذ كان من الضروري تضمين آلية تحكيم أو إحالة النزاعات إلى محكمة العدل الدولية، وهو ما رفضته إثيوبيا بشدة للتهرب من أي التزام قانوني حقيقي.
أما على صعيد التطبيق فإن إثيوبيا انتهجت سياسة التسويف والمماطلة على مدى أعوام، وفرضت سياسة الأمر الواقع من خلال الملء الأحادي للسد من دون اتفاق مع دولتي المصب، مؤكداً أن هذا السلوك يتعارض تماماً مع مبدأ حسن النية في تنفيذ الاتفاقات الدولية، وفق تصريحات مهران لـ"اندبندنت عربية".
وفي ما يتعلق بمدى إنصاف نصوص الاتفاق الأطراف الثلاثة، أكد المتخصص في مجال القانون الدولي أن الاتفاق من الناحية النظرية يتضمن مبادئ متوازنة، مثل التعاون والتنمية المشتركة وعدم الإضرار، لكنه افتقر إلى الضمانات والآليات التنفيذية الملزمة، مشيراً إلى أنه كان هناك نقص واضح في تفاصيل ملء وتشغيل السد، التي تركت للمفاوضات اللاحقة، مما أتاح لإثيوبيا المناورة والتهرب من التزاماتها.
ولفت مهران إلى أن إعلان المبادئ لم يضف جديداً لمنظومة القانون الدولي للمياه، بل أعاد صياغة المبادئ المنصوص عليها من الأساس في اتفاقية الأمم المتحدة للمجاري المائية الدولية لعام 1997، مشيراً إلى أن الفارق الوحيد هو أن إثيوبيا ليست طرفاً في اتفاقية 1997، بينما وقعت على إعلان المبادئ.
وقبل أيام من الذكرى الـ10 لتوقيع إعلان المبادئ، دعا رئيس الوزراء الإثيوبي مصر والسودان إلى حوار في شأن سد النهضة، مؤكداً أن السد سيضمن تدفق المياه على مدى العام بعد اكتماله، ولن يلحق ضرراً بدولتي المصب، ولم يصدر رد رسمي مصري على تصريحات آبي أحمد.