ملخص
السلام الذي تسعى إليه إسرائيل ليس بالضرورة سلاماً متكافئاً بل سلام مشروط يضمن أمنها وتفوقها ويخضع الطرف الآخر لميزان الردع، وهذا ما يجعل من الحرب في العقيدة الأمنية الإسرائيلية وسيلة لفرض واقع أمني أكثر من كونها خياراً اضطرارياً، إذ تعتقد أن الأمن لا يتحقق إلا من خلال القوة والردع
منذ اندلاع أحداث السابع من أكتوبر (تشرين الأول) أو ما عرف بـ"طوفان الأقصى" تتوالى التأكيدات الإسرائيلية عن أنها ستغير وجه المنطقة، وخلال ديسمبر (كانون الأول) الماضي وبعد سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إن فصلاً جديداً في تاريخ الشرق الأوسط فتح أمس (الأحد الثامن من ديسمبر 2024)، "فنظام الأسد انهار بعد 54 عاماً من الحكم".
وأكد نتنياهو حينها أن إسرائيل تعمل بطريقة منهجية على تفكيك ما يسميه محور الشر، منوهاً بأن هضبة الجولان ستبقى إسرائيلية إلى الأبد، ومشدداً على أن "الجميع بات يدرك اليوم الأهمية البالغة لسيطرتنا على هضبة الجولان التي ستبقى إلى الأبد جزءاً لا يتجزأ من إسرائيل".
وتابع أن محور الشر لم ينته ولكن إسرائيل تغير الشرق الأوسط وتعزز موقعها كدولة مركزية في المنطقة، "فقد دمرنا حركة ’حماس‘ وضربنا ’حزب الله‘ في لبنان وقتلنا نصرالله"، واليوم (الأربعاء) أعاد نتنياهو ذلك التوكيد وقال إن "إسرائيل غيرت وجه الشرق الأوسط، وأن التغييرات مستمرة".
إسرائيل في حال حرب مستمرة منذ السابع من أكتوبر: معركة لتغيير قواعد اللعبة في الإقليم
الحقيقة ومنذ السابع من أكتوبر، لم تعرف إسرائيل الهدوء ولم تكن في حال دفاع بل دخلت في مشروع حربي طويل الأمد يهدف إلى إعادة رسم قواعد الاشتباك في المنطقة، وما بدأ كعملية رد على هجوم حركة "حماس" تحول إلى استراتيجية إقليمية لتثبيت الردع واستهداف الخصوم، وفرض توازنات جديدة بالقوة.
هذه ليست حرباً على غزة فحسب، بل معركة مفتوحة لتغيير ملامح الشرق الأوسط، والحرب التي اشتعلت إثر الهجوم المفاجئ تجاوزت كونها رداً عسكرياً على عملية أمنية، لتتحول إلى مشروع إقليمي مفتوح تسعى فيه إسرائيل إلى تغيير الواقع الاستراتيجي المحيط بها، ومن غزة إلى لبنان مروراً بسوريا والضفة الغربية وحتى البحر الأحمر، تخوض إسرائيل حرباً متعددة الجبهات لا تزال مفتوحة على كل الاحتمالات.
وفور اندلاع الحرب، تبنت إسرائيل خطاباً غير تقليدي يقوم على "تغيير الواقع بالكامل"، معتبرة ما حدث بمثابة "زلزال أمني" يستدعي إعادة تعريف الردع والمعادلات القائمة، ولم تكن غزة سوى البوابة نحو هدف أوسع يتمثل في استعادة صورة الردع الإسرائيلي داخلياً وخارجياً، وإعادة تشكيل البيئة الأمنية في محيطها الجغرافي خصوصاً في الجنوب (غزة وسيناء) والشمال (لبنان وسوريا)، وتوجيه رسائل مباشرة إلى إيران بأن يد تل أبيب ليست مكبلة.
حرب متعددة الجبهات
وعلى رغم أن الأنظار تركزت على غزة، فإن إسرائيل خاضت ولا تزال تخوض حرباً مفتوحة على جبهات عدة، ففي الجنوب اللبناني المواجهة مع "حزب الله" لم تهدأ، ضمن تكتيك استنزافي وتكتيكي، لكنها قد تنقلب إلى مواجهة كبرى، وتتطور نحو حرب مفتوحة في حال لم يقدم الحزب على تسليم سلاحه، أو تقوم السلطات اللبنانية بطرح خطة دفاعية تناقش جدوى بقاء السلاح من عدمه بيد الحزب، وفي هذا الوقت تل أبيب لا تسعى إلى التهدئة، بل إلى توريط الحزب دون كسر التوازن بصورة كاملة.
وفي غزة استأنفت إسرائيل حربها، وذهبت إلى أبعد من العمليات الحربية، إذ صدق المجلس الوزاري الإسرائيلي للشؤون الأمنية والسياسية "الكابينت" على مقترح قدمه وزير الدفاع يسرائيل كاتس يقضي بإنشاء "مديرية خاصة لتهجير الفلسطينيين" من قطاع غزة، إذ تتعالى الأصوات في الحكومة الإسرائيلية التي تدعو لتهجير الغزيين وإعادة الاستيطان في القطاع.
وستتولى تلك المديرية ما وصفه كاتس بـ"الانتقال الطوعي لسكان قطاع غزة إلى دولة ثالثة لمن يبدون رغبة في ذلك"، أيضاً في الضفة الغربية هناك حملات عسكرية واعتقالات ومداهمات شبه يومية، في محاولة لتحييد الضفة كرافد داعم لجبهة غزة، وتتعامل معها كجزء من "الحرب الكبرى" على المنظومة الفلسطينية.
وفي سوريا كثفت إسرائيل من حدة غاراتها الجوية على مواقع تزعم أنها تابعة لإيران أو لـ"حزب الله"، في استمرار لاستراتيجية "المعركة بين الحروب"، كما أنها أطلقت على عملية توغلها في الجنوب السوري اسم "سهم باشان" وهي عملية عسكرية جوية وبرية شنتها إسرائيل يوم الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024، بعد ساعات من سقوط بشار الأسد إذ توغلت داخل المنطقة العازلة في القنيطرة وجبل الشيخ، بذريعة إنشاء منطقة عازلة بين الأراضي السورية والجولان السوري المحتل. ولم تتوقف حدود الغارات الإسرائيلية عند هذا الحد بل وصلت إلى البحر الأحمر، إذ انخرطت بصورة غير مباشرة في مواجهة مع الحوثيين، ضمن تحالفات إقليمية ودولية، مما وسع رقعة الاشتباك الجغرافي في الإقليم.
حرب بلا نهاية واضحة
وأحد أبرز ملامح هذه الحرب الإسرائيلية أنها لا تسير نحو تسوية، بل نحو فرض واقع جديد، وإسرائيل لم تظهر أي استعداد حقيقي لوقف إطلاق نار دائم، بل تواصل عملياتها العسكرية وتبقي على آلة الاستنفار، مع استدعاء متواصل للاحتياط وخطاب سياسي يلوح باستمرار الحرب "حتى تحقيق الأهداف"، إذ ما يجري منذ أكتوبر 2023 هو أكثر من معركة تقليدية، إنها محاولة إسرائيلية لإعادة ترتيب المشهد الأمني والسياسي في المنطقة، من خلال القوة العسكرية وليس عبر التفاوض أو التسويات، إذ إن الحرب لم تهدأ بل تتخذ أشكالاً جديدة يوماً بعد يوم، مما يجعل خطر التصعيد والانفجار الإقليمي الشامل أكثر احتمالاً من أي وقت مضى، ما لم تفرض تهدئة أو تسوية خارجية كبرى.
السلام بشروطها
على رغم أن إسرائيل تعلن باستمرار رغبتها في السلام، فإن سلوكها العسكري يتناقض مع هذا الخطاب، مما يكشف عن مفارقة جوهرية في سياستها، فهي تخاطب المجتمع الدولي بلغة السلام والدفاع عن النفس، لأنها تدرك أن صورتها كـ"دولة ديمقراطية محبة للسلام" مهمة للحصول على الدعم السياسي والعسكري وبخاصة من الولايات المتحدة، ولكنها في الواقع تسلك طريق القوة والحروب، خصوصاً في غزة وجنوب لبنان، وعندما تقول إسرائيل "نريد السلام"، فهي تقصد سلاماً يحقق أمنها الكامل ويخضع الطرف الآخر لشروطها، السلام بالنسبة لها يعني "الهدوء مقابل الهدوء" مع بقاء الطرف الآخر ضعيفاً ومحاصراً.
السلام الذي تسعى إليه إسرائيل ليس بالضرورة سلاماً متكافئاً، بل هو سلام مشروط يضمن أمنها وتفوقها، ويخضع الطرف الآخر لميزان الردع، وهذا ما يجعل من الحرب في العقيدة الأمنية الإسرائيلية وسيلة لفرض واقع أمني أكثر من كونها خياراً اضطرارياً، إذ تعتقد أن الأمن لا يتحقق إلا من خلال القوة والردع، لذلك، ترى الحرب أحياناً وسيلة لـ"فرض السلام"، أو في الأقل "منع الحرب الأكبر".
القوة تصنع الواقع
وهكذا، يتحول شعار "نريد السلام" إلى أداة خطابية تستخدم لتبرير العنف وامتصاص الضغط الدولي، دون تغيير فعلي في السياسات على الأرض. وهذا التناقض، حرب باسم السلام، هو أيضاً جزء من مأزق أخلاقي عميق تعيشه إسرائيل، هي دولة تدعي الديمقراطية، لكنها تمارس الاحتلال والعنف الممنهج. ولتخفيف هذا التوتر، تستخدم لغة السلام كنوع من التبرير أو التجميل، ومنذ تأسيسها اعتمدت إسرائيل في علاقاتها مع جيرانها على مبدأ مركزي غير مصرح به بصورة دائمة، وهو "القوة تصنع الواقع" ويتجلى هذا في نهجها القائم على استخدام الحرب كوسيلة لتثبيت موازين قوى جديدة، ثم محاولة فرض صورة من "السلام" أو "التطبيع" على هذا الأساس.
هنا يُطرح سؤال جوهري نفسه، هل تسعى إسرائيل فعلاً إلى فرض السلام عبر القوة العسكرية؟
القوة كأداة لصناعة "السلام الإسرائيلي"
في العقل الأمني الإسرائيلي، الحرب ليست مجرد رد على تهديد، بل وسيلة لإعادة تشكيل البيئة الاستراتيجية، عام 1948 قامت الدولة بالقوة وفرض "الواقع الإسرائيلي" بالقوة، ثم طرحت معادلة: من يريد السلام عليه أن يعترف بذلك الواقع.
عام 1967 توسعت إسرائيل في الجولان وسيناء والضفة والقدس، ومن ثم أتاحت لها نتائج الحرب التفاوض من موقع القوة على أراض محتلة، ثم بدأت بعدها مفاوضات "سلام الأمر الواقع".
وفي عام 1982 جاء اجتياح بيروت كمحاولة لإعادة تشكيل الخريطة السياسية في لبنان بالقوة، وحاولت إسرائيل تغيير ميزان القوى في لبنان عبر ذلك الاجتياح، تمهيداً لسلام مع أطراف لبنانية معينة.
هذا النمط يدل على أن السلام الإسرائيلي لا يبنى على تفاهمات متكافئة، بل على إخضاع الطرف الآخر وتحييد إرادته السياسية.
الحرب الجارية... مشروع سياسي بالقوة؟
وفي الحرب الدائرة على غزة منذ أكتوبر 2023 يتكرر النمط نفسه، فالعملية العسكرية الواسعة لم تطرح فقط كوسيلة ردع، بل كمدخل لتغيير سياسي جذري عبر تحييد "حماس" وضرب صدقية "محور المقاومة"، وإعادة رسم معادلة الردع في الإقليم.
وفي حال تحقيق هذه الأهداف فإن إسرائيل ستحاول عرض لـ"نموذج غزة ما بعد الحرب" كورقة ضغط إقليمية، وذلك لإقناع بعض الدول العربية بجدوى التطبيع ولتهديد جبهات أخرى (كجنوب لبنان) بمصير مماثل إذا لم تقدم تنازلات سياسية، من ثم فإن الحرب ليست فقط لأجل الأمن بل لأجل "سلام مفروض" بمقاييس إسرائيلية.
التطبيع أداة استراتيجية
ما تسعى إليه إسرائيل في هذه المرحلة يتجاوز مفهوم السلام، فالتطبيع الذي تحاول تسويقه للدول العربية لا يقوم على مصالح متبادلة، بل على معادلة إخضاع سياسي وأمني تلزم الطرف العربي بالاعتراف بإسرائيل وتطبيع العلاقات معها، دون معالجة جوهر القضية الفلسطينية أو ضمان حقوق الفلسطينيين، وهذا النوع من التطبيع يخدم تعزيز موقع إسرائيل الاستراتيجي في المنطقة، وشرعنة تفوقها العسكري والسياسي، أيضاً يذهب إلى حد تقويض فكرة (المقاومة) كخيار شرعي للشعوب التي تعاني الاحتلال.
في المقابل، هذا "السلام المفروض" يفتقد الشرعية الشعبية، وهو ما يجعله هشاً ومعرضاً للانهيار عند أول صدمة إقليمية، كما ظهر في ردود الفعل الشعبية الجارفة خلال حرب غزة الأخيرة، حتى من داخل دول مطبعة.
عقبات أمام "السلام بالقوة"
على رغم ما تملكه إسرائيل من تفوق عسكري ودعم غربي فإن هناك ثلاث عقبات جوهرية تعرقل فرض رؤيتها للسلام عبر القوة، أولاها الوعي الشعبي العربي المتنامي، إذ إن الشعوب العربية وبخاصة بعد الثورات والانتكاسات باتت أكثر وعياً بمفهوم "السلام المشوه"، وأكثر رفضاً لأية علاقة طبيعية مع دولة تواصل الاحتلال والقتل.
ثانية تلك العقبات هي قوة الرواية الفلسطينية، إذ استطاعت (المقاومة) في غزة وعلى رغم الخسائر إعادة تقديم الرواية الفلسطينية إلى الواجهة، وزعزعة صورة "الجيش الذي لا يقهر"، وهذا يضعف منطق "السلام مع الأقوى".
وثالثة تلك العقبات هي عدم قابلية فرض واقع دائم دون تسوية عادلة، إذ أثبتت التجارب التاريخية أن أي سلام لا يستند إلى العدالة والقبول الشعبي مصيره الفشل، من (كامب ديفيد) إلى (أوسلو)، بقي السلام هشاً لأن جذور الصراع لم تعالج.
لكن هل الهدف النهائي هو فرض السلام؟
قد يكون أكثر دقة أن نقول إن إسرائيل تريد فرض "استسلام سياسي" يشبه التطبيع، لكنه لا يقوم على شراكة بل على إذعان، وقد تسعى إسرائيل لدفع بعض الدول العربية لإعادة النظر في مواقفها أو تسريع مسارات التطبيع تحت ذريعة "منع الفوضى"، وقد تحاول خلق "نموذج غزة ما بعد الحرب" ليستخدم كورقة ضغط على لبنان مثلاً، أو على إيران بطريقة غير مباشرة، من هنا فإن إسرائيل تستخدم القوة ولكن ليس لحماية أمنها فحسب، بل لإعادة تشكيل البيئة السياسية في المنطقة وفرض "سلام قهري" يشبه أكثر حال استسلام منه اتفاق شراكة، غير أن هذا النهج محفوف بالأخطار، لأنه يتجاهل عمق الهوية والصراع، ويتعامل مع الشعوب وكأنها كيانات يمكن هندستها بالإكراه.
والواقع أثبت أن السلام الحقيقي لا يفرض بالقوة بل يُبنى بالعدالة والاعتراف المتبادل، واحترام الحقوق التاريخية، وكل ما سوى ذلك سيبقى هشاً يتهاوى عند أول تصعيد، ويعيد المنطقة إلى دوامة الصراع من جديد.