خلال معظم أيام عام 2019، سجلت رحلة الحافلات "إم 14 إيه" المخصصة لنقل الركاب على طول "الشارع 14" في مدينة نيويورك رقماً قياسياً في السير البطيء. إذ لم يتعدى متوسط سرعتها الستة كيلومترات في الساعة، خصوصاً لدى دخولها قطاع منطقة مانهاتن المكتظ بالسيارات. لذا لم يكن مستغرباً أن يطلق عليها مسؤولو قطاع النقل في المدينة لقب "ملكة حافلات نيويورك البطيئة".
لكن، مع مطلع أكتوبر الماضي، مُنحت حافلات هذا الشارع قُبلة الحياة. إذ أصدر مجلس المدينة قراراً حظر بموجبه على السيارات الخاصة السير ضمن حيزٍ من الطريق خُصص حصرياً لرحلة الحافلات "إم 14 إيه" مدة 16 ساعة يومياً. هكذا، وبجرة قلم، اختفى بحر من زحام السيارات بعوادمها الملوثة من الشارع وتذوقت الحافلات طعم حرية الحركة. أما نتائج الحظر فكانت مذهلة؛ فوفقا لأحدث الأرقام الصادرة عن "سلطة نقل نيويورك الكبرى"، ازداد عدد مستخدمي الحافلات بواقع 5000 شخص يوميا مباشرة عقب سريان قرار الحظر، كما تقلص وقت رحلة الحافلة في الجزء الأكثر ازدحاما من "الشارع 14"، بأكثر من 35 بالمئة. وبحلول ديسمبر 2019، أي بعد مرور شهرين فقط على قرار الحظر، تضاعف متوسط سرعة الحافلات إلى زهاء 10 كيلومترات في الساعة. أما المثير في الموضوع فهو أن تحويل "شارع 14" إلى شارع "غير صديق للسيارات" لم يتطلب أي تمويل أو جهد استثنائي أو حتى استعارة خيال كاتب علمي مستقبلي؛ وإنما مجرد علامات سير جديدة وطلاء أحمر اللون يوضح حيز الحافلات.
كسر هيمنة السيارات
في المدن والأماكن الحضرية المتنامية، حيث يُتوقع أن يستقر ويعيش عدد متزايد من السكان خلال السنوات المقبلة، لا ينبغي للسيارات أن تكون مهيمنة على المشهد لمجرد أنها كانت كذلك طوال الجزء الأكبر من القرن الماضي. صحيح أنه يمكن لحيز واحد من الطريق خدمة ما بين 600 إلى 1600 سيارة في الساعة، إلا أن حيزاً مخصصاً للحافلات يمكنه خدمة ما بين 4000 إلى 8000 شخص في الساعة، وفقا للرابطة الوطنية لمسؤولي النقل في نيويورك. ويقول ستيفن هيغاشيدي، مدير الأبحاث في "ترانزيت سنتر" إحدى هيئات النقل العام بالمدينة: "لقد تأخر قرار الحظر طويلًا. إذ لم ندرك إلا مؤخراً أنه يتعين علينا الحد من هيمنة السيارة لتوفير المساحة اللازمة لأنماط النقل الأخرى التي يمكن لها أن تخدم الناس بشكل أكثر نجاعة".
ما انفكت قرارات حظر مناطق حضرية أمام مرور السيارات في التمدد شيئاً فشيئاً حول العالم مثل بقعة زيت. فبعد أربعة أشهر من حظر مدينة نيويورك للسيارات في قطاع من "الشارع 14"، أغلقت سان فرنسيسكو امتدادا طويلًا من "ماركت ستريت"، شارع المدينة الرئيس، أمام السيارات الخاصة أيضا. وقبلها أغلقت مدينة سياتل، في عام 2018، جادتها الثالثة الصاخبة في وجه السيارات مدة 13 ساعة في اليوم. وفي أوروبا منعت العاصمة النرويجية أوسلو مرور السيارات في قلب المدينة منعاً باتاً، واستبدلت ممرات الدراجات بأماكن وقوف السيارات، فيما تحولت "الجادات العملاقة" الشهيرة في برشلونة من تقاطعات تسودها السيارات إلى مسارات جذابة يمكن للمشاة التجول فيها.
وفي بادرة تنم عن إعجاب لما حدث في "ماركت ستريت" بسان فرنسيسكو، دعا مجلس تحرير صحيفة "لوس أنجلوس تايمز" عمدة المدينة إلى تبني مبادرة شوارع خالية من السيارات في ثاني أكبر مدن الولايات المتحدة من حيث عدد السكان. وكتبت الصحيفة: "في سبيل محاربة التغير المناخي وتعزيز صحة المجتمع، يتعين على المدن استعادة الشوارع من السيارات". بعدها بفترة وجيزة، طلب أحد أعضاء مجلس لوس أنجلوس من سلطات المدينة، دراسة حظر مرور السيارات على امتداد 2.5 كيلومتر من جادة برودواي، الشريان الصاخب لمدينة لوس أنجلوس. وتقول سارة كوفمان، المديرة المساعدة لمركز رودن للنقل بجامعة نيويورك: "ثمة تغيير قادم، ويسعدني أن أراه شخصياً".
يوماً بعد يوم، يتبنى مزيد من المدن ثقافة حظر سير السيارات في الشوارع أملاً في التخفيف من حدة الانبعاثات، وإفساحاً في المجال أمام ساكنيها لممارسة حرية التنقل مشياً على الأقدام
تصحيح خطأ تاريخي
ولا تقتصر فائدة حظر السيارات في تأمين سرعة وسهولة انتقال الأفراد، وإنما كذلك الحد من وفيات المشاة نتيجة حوادث الصدم التي ترتفع أرقامها في الولايات المتحدة بشكل حاد، ناهيك عن اجتناب الأمراض المتعلقة بالرئة والقلب. أما أكبر المكاسب على الإطلاق فبيئي؛ إذ إن قطاع النقل في الولايات المتحدة يعد أكبر مصدر لانبعاث غازات الاحتباس الحراري التي تلوث جو كوكبنا. ويقول مارتن واكس، المؤرخ المتخصص في شؤون النقل بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس: "نحن في خضم فترة استيقاظ، بعد طول غفلة، حول مسائل السلامة ونوعية الحياة وطبيعة بيئتنا المادية".
إن إزاحة السيارات عن الطريق قد يبدو في جوهره أمراً تقدمياً. لكنه في الواقع أشبه بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، أي إلى ما قبل أن تندمج السيارات مع الشوارع. يقول دوغ غوردون، الذي انتقل إلى مدينة نيويورك عام 1998 ويستضيف حالياً بودكاست "الحرب على السيارات": "إننا نصحح خطأً تاريخياً". فقدكان المشاة من يهيمن على شوارع المدن الأولى، وليس السيارات، وكان السكان يسيرون ويلعبون ويتعاملون تجارياً وسط الطرق الترابية. وبعد ذلك اقتحمت العربات التي تجرها الخيول المشهد، وكانت أسوأ من السيارات. وبهذا الصدد يقول واكس: "كانت الشوارع مليئة بالخيول، والخيول النافقة، وذباب الخيول. لم تكن الشوارع جنة قبل مجيء السيارة". لقد جعلت الخيول المدن قذرة، وتسببت في بعض الأحيان بحوادث مروعة للمارة. وبعد فترة وجيزة، بدأت العربات التي تجرها الخيول تعج بالطرق، وذات يوم من عام 1885 أحصى مهندس 7811 عربة تجرها الخيول خلال وقوفه لدى زاوية طريق وسط مدينة مانهاتن. ثم وصلت السيارة. "عندما رحب الناس بالسيارات، ظنوا أنهم يرحبون بشيء أكثر نظافة وأكثر أمانًا"، يوضح واكس. لكن اتضح أن السيارات كانت ملوثة بشكل سيء للغاية، كما شكلت خطرا كبيرا على المشاة.
عندما يقود جاك مورس، وهو مراسل تقني، دراجته في شارع "ماركت ستريت" في سان فرنسيسكو متجهاً إلى عمله، فإنه يلاحظ فارقا كبيرا الآن. يقول مورس: "كان ماركت ستريت بمثابة قبضة موت تُشكل أصابعها سيارات الأجرة والسيارات الخاصة والحافلات والشاحنات وعربات ترام". صحيح أنه لا يزال هناك حافلات وعربات ترام بعد قرار الحظر، لكن الأهم أن السيارات أزيلت من المعادلة. ويضيف "إنه شعور مختلف بشكل ملحوظ، فأنا أشعر بأمان أكبر. لم نعد مضطرين لتفادي السيارات".
وفي الولايات المتحدة، بات المشاة أكثر تعرضاً للحوادث على الطرق التي تجوبها السيارات. فقد ارتفعت وفيات المشاة منذ عام 2009 بنسبة هائلة بلغت 53 بالمئة. وفي عام 2018 وحده، قتلت السيارات 6283 شخصا. وفي مدينة لوس أنجلوس، وبعد أربع سنوات من محاولات القضاء بشكل كامل على حوادث الدهس، شهدت المدينة مقتل 134 شخصا و19 راكب دراجة في عام 2019.
وفي عالم اليوم، يواجه المشاة بشكل متزايد مركبات كبيرة الحجم، رباعية الدفع، شبيهة بالعربات المدرعة. وتكمن خطورة هذا النوع من السيارات، في أنه عندما تضرب سيارة السيدان شخصا ما، يكون لديه فرصة للتدحرج فوق غطاء محركها والتخفيف من وطأة الصدمة، لكن مقدمة سيارة الدفع الرباعي قد تقتله من فوره. لقد بات حظر مرور السيارات خطوة جادة من جانب كل مدينة تحاول وضع مصلحة مواطنيها فوق أي اعتبار.
الحافلات هي الحل
ليس خطأنا أن السيارات أصبحت مهيمنة للغاية. ففي العديد من الأماكن، تعد قيادة السيارة الطريقة الوحيدة للوصول إلى مكان ما. ويقول جاكوب واسرمان، الباحث في معهد دراسات النقل بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس: "أنا باحث في مجال النقل العام، لكنني لن ألوم شخصا ما على قيادته سيارته للوصول إلى عمله لأن المهندسين صمموا مدننا بهذه الطريقة". يضيف الباحث: "كانت لوس أنجلوس، على سبيل المثال، عاصمة الترام في البلاد منتصف القرن الماضي". إذ كانت شبكة الترام فيها أكبر شبكة نقل كهربائية في البلاد. مع ذلك، تم التخلي عن هذه الشبكة واستعيض عنها ببناء متاهة من الطرق الخرسانية السريعة. والآن، تحاول لوس أنجلوس اللحاق بماضيها الكهربائي؛ فقبل أربعة أعوام فتحت خط عربات ترام جديداً يصل الشاطئ، وتأمل ببناء خط آخر يمر بالقرب من الطريق السريعة 405 التي تعد الأكثر ازدحاماً في البلاد.
لكن بناء خطوط سككية يتكلف مليارات الدولارات، وقد يستغرق أعواماً إن لم يكن عقودا. ما يجعل الحافلات أكثر من ضرورية، لا سيما تلك التي تُخصص لها خطوط خاصة، مثل شارعي 14 وماركت.
ويقول واسرمان: "يمكن للحافلات أن تعمل مثل أي خط سكة حديد، لكن من دون قضبان". وقد لا تكون الحافلات مثيرة تماما مثل فنتازيا سيارات الأجرة الطائرة، والسيارات ذاتية القيادة، وتلك فائقة السرعة، لكن للحافلات ميزة كبيرة تفوق هذه النزوات التقنية المستقبلية: إنها موجودة، والابتكار الذي نحتاجه ليس تقنياً، وإنما يتعلق بالتخطيط العام.
وعلى سبيل المثال، ستظل السيارات ذاتية القيادة التي يتم إطلاقها في بيئات فوضوية ضمن المدينة، تتسبب بالزحام حتى لو أثبتت أنها تستطيع يوما ما قيادة نفسها بنفسها بشكل أكثر أمانا أو أكبر سرعة أو أشد كفاءة من البشر. وعلى الرغم من أن شركات مثل (Waymo) حصلت على تصاريح من ولاية أريزونا لاختبار مركبات ذاتية القيادة بالكامل، في مناطق محلية تم تحليلها بشكل مكثف ومحددة بعناية ومحدودة النطاق، إلا أن المتخصصين في هذه التكنولوجيات يقولون إن الأمر قد يستغرق عقودا قبل أن نتمتع بثمار هذه التقنية. وكدليل على ذلك، كشفت صحيفة "واشنطن بوست" عام 2019، أن برامج الكمبيوتر ذاتية القيادة لم تقترب من التنبؤ بشكل موثوق بكيفية تصرف المشاة، كما اتضح إثر حادثة سيارة تابعة لأوبر صدمت وقتلت إيلين هيرزبرغ أثناء عبورها شارعا في أريزونا خلال ليلة صافية عام 2018. (منذ وقوع الحادث، تطلب أوبر من اثنين من "المتخصصين" المدربين الجلوس في المقاعد الأمامية لسيارات اختبار القيادة الذاتية، ولم تعد السيارات تسير بنفسها). ويقول رودني بروكس، عالم الروبوتات المخضرم، إنه لوضع السيارات ذاتية القيادة في نصابها الصحيح، علينا تصميمها لتكون ذكية مثل الإنسان، وطبعاً سيستغرق ذلك وقتا غير محدد. وبدلاً من التأمل في الحصول على علاجات تقنية، يمكن للمدن أن تؤمن ممرات للنقل العام، سواء الحافلات أو الترام أو القطارات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
نتائج إيجابية للحظر
لم ترصد عيوب كبيرة لحظر سير السيارات في مدينتي نيويورك وسان فرنسيسكو. ويقول هيغاشايد إن حظر السيارات "كان له تأثير ضئيل" على الشوارع المتفرعة من "الشارع 14". ومن المتوقع أن يكون الأمر مماثلاً بالنسبة لـ"ماركت ستريت". وتجادل بعض الشركات، بأن حظر السيارات أو تحويل الشوارع إلى ممرات للمشاة قد يدفع العملاء بعيدا عن المراكز التجارية. لكن هذا يبدو غير منطقي، إذ يؤدي إغلاق الشوارع أمام السيارات عادة إلى زيادة حركة المشاة من وإلى المتاجر. يقول كاميل كامغا، الباحث المتخصص بوسائل النقل في كلية مدينة نيويورك: "إن الحظر يعيد الشوارع إلى الناس". عندما أغلقت مدينة نيويورك بشكل دائم أجزاء من أشهر ميدان في العالم، "تايمز سكوير"، أمام السيارات، تعالت الأصوات المعارضة. والآن، ثمة المزيد من المتسوقين الذين يدخلون متاجر الميدان. "الناس تخشى الأفكار الجديدة"، يقول كامغا، "أما الآن، فالكثير منهم يحبون ذلك".
وسيستمر اختبار حظر مرور السيارات في "الشارع 14" لمدة عام ونصف، وهو "مشروع رائد" ضخم يهدف إلى معرفة ما إذا كان الأمر يسير بشكل جيد ومستدام بالفعل. وحتى الآن، تبدو نيويورك سعيدة بهذه التجربة. فقد حققت حافلات "الشارع 14" نجاحات كبيرة؛ فقد ازداد عدد ركابها، وباتت رحلاتها أكثر انتظاماً، أما منطقة "الشارع 14" فأصبحت أكثر متعة وحيوية لكل من يعبرها. وفي أعقاب نجاح حظر مرور السيارات في "ماركت ستريت" بسان فرنسيسكو، دعا مسؤول كبير في قطاع النقل هناك إلى "تطهير" فالنسيا من السيارات، وهو شارع آخر مفعم بالحانات والمخابز ومحلات بيع الكتب.
ينتاب المرء في "الشارع 14" شعور غريب خلال ساعة الذروة، حسب العديد من المارة؛ إذ لم يعد الجو ملوثا بضوضاء المحركات والأبواق. ويقول غوردون من البودكاست في السيارة "كنت أسير في الشارع وسمعت طفلاً يبكي داخل عربة على الطريق، يمكنك حتى سماع أداء فناني الشوارع". وقد يكون حظر مرور السيارات مصدر قلق لبعض السائقين الذين ربما أمضوا حياتهم بأكملها غير مدركين أن "الشارع 14" وشارع "ماركت ستريت" تم تصميمهما لحركة المشاة خصيصا قبل وقت طويل من زحف أول سيارة على الطريق. ويقول غوردون: "يعتقد السائقون بأحقيتهم في استغلال كل شبر من المساحة العامة.. وسيكافحون لاستغلال حتى آخر قطعة منها".
بعد قرن من هيمنة السيارات على الطرق، أدرك المواطنون والحكومات على حد سواء، حول العالم، أن ثمة طريقة أفضل للعيش. لكن لماذا لم يدركوا ذلك في وقت سابق؟ "سؤال جيد"، يقول واكس من جامعة كاليفورنيا؛ أما الإجابة فهي أن الشوارع الآمنة والرغبة في بيئة غير ملوثة، أصبحا أمراً مطلوباً بإلحاح لدى البشر بشكل متزايد، وهذه المطالب ما هي إلا استمرار للطريقة الطبيعية التي يتطور بها المجتمع منذ آلاف السنين.