تشكّلت الخريطة الحزبيّة الحالية في تونس، في مخاض سياسي عسير برزت فيه تيارات سياسية وسطع نجمها، وضمُرت فيه تيارات أخرى وأفل بريقها.
وشهدت الأحزاب الناشئة، بعد 2011، انشقاقات وصراعات داخليّة، جعلت المشهد متحوّلاً، لا يعرف الاستقرار من محطة انتخابية إلى أخرى، لكون الانتخابات هي امتحان الأحزاب ومتانة نسيجها الداخلي وقدراتها على خوض تلك المحطات.
وتُعزى الصّراعات داخل الأحزاب إلى فتوّتها وحداثتها في العمل السياسي. لذا، تحطّم بعضها إثر فشلها في دخول البرلمان، أو إخفاقها في الوصول إلى كرسي الرئاسة، فيما اختفت أحزاب عدّة من الساحة السياسية.
وقد أُصيبت تونس بخيبة أمل نتيجة ما أفرزته الانتخابات التشريعية والرئاسية في 2019، إذ قلّصت هذه الانتخابات "الجبهة الشعبية"، وهي ائتلاف يساري مكوّن من أكثر من عشرة أحزاب. كذلك الشأن بالنسبة إلى "نداء تونس"، الذي تصدّر انتخابات 2014، مقابل صعود تيارات وأحزاب جديدة منها "قلب تونس" و"ائتلاف الكرامة" المقرّب في خطابه وتوجّهاته من "حركة النهضة" و"الدستوري الحر".
وتؤلّف مختلف هذه الأحزاب إلى جانب "حركة الشّعب" ذات التوجّه العروبي الناصري، و"التيار الديمقراطي" وهو حزب ديمقراطي اجتماعي، و"تحيا تونس" الذي أسسه رئيس الحكومة السّابق والقيادي السابق في "نداء تونس" يوسف الشاهد، الخريطة الحزبية التونسية في شكل فسيفساء، من تيارات فكرية متنافرة، لا تجمع بينها رؤية موحّدة، ولا أهداف مشتركة. لذلك تعطّل مسار تشكيل الحكومة لأكثر من أربعة أشهر.
وتعاني الحكومة الحالية، برئاسة الياس الفخفاخ، هشاشة في الحزام السياسي الداعم لها، وتطالب "حركة النهضة" بإدخال تعديل حكومي، إثر خلافاتها السياسية مع "حركة الشعب".
"نداء تونس" كان نجماً فهوى
أسّس الرّئيس الرّاحل الباجي قائد السبسي حزب "نداء تونس" سنة 2012، وضمّ الحزب نخباً سياسية من مختلف المشارب الفكرية والسياسية (يسارية ونقابية ودستورية وشخصيات مستقلة). وقدّم الحزب نفسه كمعارض لتيّار الإسلام السياسي المتمثل في "حركة النهضة" التي تحصّلت على التأشيرة القانونية للعمل في تونس بعد الثورة في مارس (آذار) 2011. واستثمر "نداء تونس" في تخوّف التونسيين من "تغوّل" الإسلام السياسي ومن احتمال التراجع عن المكتسبات الوطنية، لا سيما في مجال حقوق المرأة.
وبعد سنتين فقط على تأسيسه، خاض "نداء تونس" أولى المحطات الانتخابية سنة 2014، وحصل على المرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية، حاصداً 86 مقعداً في البرلمان. ورشّح الحزب السّبسي إلى الانتخابات الرئاسية، وفاز في الدور الثاني بـ55.68 في المئة من الأصوات، أمام منافسه المنصف المرزوقي بـ44.32 في المئة من الأصوات.
انشقاقات
بعد هذه النتائج، لم يصمد "نداء تونس" في المشهد السياسي، وتكدّست مشاكله الداخلية بسبب الصّراعات "الزّعاماتية"، وظهرت إلى العلن انشقاقات عميقة. فالحزب يضم قيادات بارزة من تيارات فكرية وسياسية متنوّعة، جمع بينها الراحل السبسي. وترى أستاذة الإعلام والاتصال في الجامعة التونسية الدكتورة سلوى الشرفي في حديث إلى "اندبندنت عربية" أن "فكرة مناهضة حركة النهضة هي التي جلبت العديد من النخب والقيادات والمواطنين إلى الحزب. لكن النداء خذل منتسبيه بعد تحالف السبسي مع زعيم النهضة، راشد الغنوشي، إذ اهتزت أركان الحزب الذي بدا قوياً في البداية".
تراجعت ثقة الناخبين في الحزب، وكذلك قياداته، فتصدّع الحزب وانشقّ عنه محسن مرزوق ليؤسّس "حركة مشروع تونس"، سنة 2016. وظهرت انشقاقات إلى العلن وفشل النّدائيون في تجميع صفوفهم. وكانت وفاة المؤسّس اللّحظة المفصلية في "موت" "نداء تونس" سياسياً.
واستبعدت الشرفي بروز حزب سياسي جديد، يوحّد العائلة الديمقراطية الحداثية، على الرغم من الوزن القوي لهذه الفئات في السّاحة السياسية التونسية. وتعتبر أن "القادة الحاليين عاجزون عن تشكيل حزب من هذا النوع، بسبب النزاعات الفئوية والمصلحية الضيّقة والانتهازية السياسية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ظهور "الدستوري الحر"
هذا الفراغ الكبير في المشهد السياسي، ساهم في اشتداد عود "الحزب الدستوري الحر"، بقيادة عبير موسى، الذي دخل المعركة السياسية بأدوات "نداء تونس"، ورفع شعارات مناهضة لـ"النهضة" ومتمسكة بالدولة الوطنية ومكتسباتها.
ولأنّ الطبيعة تأبى الفراغ، برز "الدستوري الحر" خصماً لدوداً لـ"حركة النهضة"، وهو اليوم يتقدّم المشهد السياسي في مناهضة الإسلام السياسي.
وتعتبر الشرفي أنّ "خطاب عبير موسى يستند إلى حجج موضوعية. ما يجعلها مسموعة في الساحة السياسية"، مؤكدة أن موسى "هي من تصنع أجندة السّاحة السياسة اليوم في تونس".
وفيما تسأل الشرفي عن عدم وجود شخصيّات وقادة آخرين في الحزب، تعبّر عن مخاوفها من هذه الناحية. وتقول إن "ذلك يذكّر التونسيين بعهد الحبيب بورقيبة، الذي كان الزعيم الأوحد في الحزب"، داعية الحزب إلى "تقديم قيادات أخرى كي يعرف التونسيون هذا الحزب ومكوّناته ليطمئن إليه".
فالتونسيون الذين خذلهم "نداء تونس"، يبحثون اليوم عمّا فقدوه تحت جلباب "الدستوري الحر"، إلا أن حالة الاستقطاب الحادّ بين هذا الحزب و"حركة النهضة"، لا تعزّز دعائم المشروع التونسي الديمقراطي الفتيّ. وهو ما يجعل البلاد مهدّدة بالعودة إلى العنف السياسي، إذ تؤكد رئيسة "الدستوري الحر" عبير موسى تلقيها تهديدات جديّة بالاغتيال.