مع تصاعد العمليات العسكرية التركية على الحدود العراقية مرة أخرى، التي أدّت إلى مقتل ضابطَيْن رفيعَيْ المستوى في قوات حرس الحدود، تتزايد التساؤلات بشأن النفوذ التركي الذي بات يشكّل خطراً على سيادة البلاد وأمنها، فضلاً عن تساؤلات بشأن الموقف الرسمي للحكومة العراقية وخياراتها لحسم هذا الملف.
حزب العمال ذريعة للتدخل
يرى مراقبون أن أنقرة تستخدم وجود حزب العمال الكردستاني في الأراضي العراقية كذريعة تبرّر من خلالها عملياتها العسكرية المتكرّرة داخل البلاد، مستندةً إلى اتفاق مع النظام السابق يتيح لها إمكانية التوغّل داخل الحدود العراقية بنحو عشرة كيلومترات، لحفظ حدودها ومواجهة حزب العمال الكردستاني، إلّا أنّ العمليات التركية تجاوزت حدود الاتفاق إلى مساحة تصل إلى حدود 50 كيلومتراً.
ويقول خبراء قانونيون إن الاستناد إلى الاتفاق مع النظام السابق لا يوفر حجّة لتركيا لأنه يُعدُّ لاغياً، إذ يشير الخبير القانوني علي التميمي إلى أن "هذه الاتفاقية لم تُجَدَّد بعد عام 2003، فضلاً عن عدم إيداع نسخة منها في الأمم المتحدة وفق المادة 102 من الميثاق".
ويضيف في حديث لـ"اندبندنت عربية"، "يمكن للعراق إقامة شكوى في مجلس الأمن على تركيا"، واصفاً تكرار هذه الانتهاكات بـ"الاستهانة بالقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة".
احتلال بعيد المدى
ويوضح مراقبون أن أنقرة استغلّت الظروف الأمنية التي مرّ بها العراق بعد دخول تنظيم "داعش" إلى البلاد في توسيع نفوذها شمالاً، الأمر الذي يبدو أنه لن ينتهي حتى ترسّخ تركيا وجودها بشكل دائم داخل الأراضي العراقية، مستخدمةً ذرائع عدّة بينها حزب العمال الكردستاني والاتفاقية السابقة بين البلدين بشأن حماية الحدود.
وتشير التقارير الصحافية إلى وجود نحو 21 موقعاً عسكرياً في محافظتَيْ دهوك وأربيل في إقليم كردستان، فيما تكشف المصادر الرسمية التركية عن وجود 14 موقعاً فقط.
ويبدو أن أنقرة تحاول أن تجد لها نصيباً وموطئ قدم في العراق الذي بات يمثّل ساحة لتضارب الأجندات الدولية والإقليمية من دون روادع محلية.
في هذا السياق، يقول المستشار السابق في وزارة الدفاع العراقية معن الجبوري إن "الحديث المتكرّر عن الاتفاقية السابقة لا يعدو كونه سوى ذريعة تستخدمها أنقرة في تبرير انتهاكاتها، لأن الاتفاقية لا تسمح بالتوغّل في الداخل العراقي لحدود 50 كيلومتراً وتأسيس قواعد عسكرية"، مستدركاً "ما يجري تأسيس لاحتلال بعيد المدى وليس تنسيقاً عسكرياً بين الطرفين".
ووفقاً للجبوري، فإنّ الاتفاق السابق يلزم تركيا إخطار بغداد بأي عملية عسكرية على الحدود، ووصف ما يجري بأنه "يندرج ضمن مساعي أنقرة إقامة نفوذ عسكري دائم على غرار ما حصل في ليبيا وسوريا".
جبهة رخوة
وعن سبل الردّ العراقية على الانتهاكات التركية، يبين الجبوري أن "الحديث عن وضع البلاد وعدم تكافؤ القوى بين بغداد وأنقرة لا يجب أن يكون دافعاً إلى الانسحاب والاستسلام أمام الاعتداءات التركية"، لافتاً إلى أنه "يجب أن يكون للعراق موقف عسكري بالنسبة إلى تدعيم أمن حدوده، وأن لا يكون جبهة رخوة بإمكان تركيا التحرك بحرية فيها من دون روادع".
ويضاف أن "الإجراءات العسكرية الممكنة هي نشر قوات عسكرية من صنوف القوات المتوفرة على الحدود مع تركيا، فضلاً عن طلب دعم من التحالف الدولي لضبط تلك الحدود"، موضحاً أن "وجود هذه القوات على الشريط الحدودي سيكون عامل ردع لأنقرة".
ويردف أن "هناك قواعد أميركية في كردستان قريبة من تركيا وإيران، وعلى واشنطن اتّخاذ موقف مع العراق لأن ذلك سيعطيه دعماً عسكرياً ومعنوياً ولوجستياً، ويجعل تركيا تعيد حساباتها عندما تقرّر التجاوز مرة أخرى".
الانفتاح على دول الخليج
يبدو أن ملفات عدّة بإمكان العراق استخدامها في ردع انتهاكات أنقرة، مثل تسليط ضغط عليها من خلال إعادة النظر بقضايا التبادل التجاري والتعاون الاقتصادي، فضلاً عن رؤية تتضمّن إعطاء مساحة أكبر للانفتاح على دول الخليج وعدم حصر حراك بغداد اقتصادياً في مجالَيْن محدودَيْن هما تركيا وإيران.
ويشير رئيس المجموعة المستقلة للأبحاث منقذ داغر إلى خيارات عدة أمام العراق لردع الاعتداءات التركية، من ضمنها الانفتاح على دول الخليج التي تبدو مستعدة لعدم تركه يعود إلى الحضن الإيراني مجدداً، مبيناً أن "تفعيل ملفات ربط الطاقة والانفتاح الاقتصادي مع دول مجلس التعاون الخليجي سيسهمان بشكل فاعل في عدم ترك البلاد مساحة مفتوحة أمام تدخلات إيران وتركيا، اللتين تعوّلان على بقائه معزولاً عن محيطه".
ويضيف لـ"اندبندنت عربية"، "أنقرة وطهران أعلنتا منذ مدة عن تحالف بينهما، والعراق ضمن المجال الحيوي لفاعلية هذا التحالف"، معبّراً عن اعتقاده بأنه "على بغداد معرفة كيفية استثمار التناقضات بين اللاعبين الإقليميين للحصول على أكبر قدر من المصالح الوطنية".
وبشأن الرد العراقي على الاعتداءات التركية، يعتبر داغر "إلغاء زيارة وزير الدفاع التركي ردّاً مناسباً"، مردفاً "الرسالة التي وصلت إلى تركيا مفادها بأن التصعيد المقبل سيكون بقطع العلاقات معها، ما قد يدفعها للجلوس إلى طاولة مفاوضات مع بغداد، لأنها لا تريد خسارة هذه الأخيرة، نظراً إلى المصالح الاستراتيجية الكبيرة لها في البلاد".
ويرجّح أن تشتمل الاتفاقات المقبلة مع أنقرة على إعادة تفعيل اتفاقية حماية الحدود الموقَّعة في فترة حكم النظام السابق، شرط أن تجري كل العمليات العسكرية المقبلة ضمن حدود الاتفاق ومن خلال التنسيق المشترك بين الطرفين.
التحالف الدولي ومواجهة الانتهاكات التركية
في غضون ذلك، تتصاعد التساؤلات بشأن دور التحالف الدولي في التنسيق مع العراق لدرء الانتهاكات التركية المستمرة لسيادته، إلّا أنّ مراقبين يرون أن حدود تدخل التحالف لا تتعدّى مسائل التنسيق والمعلومات الاستخبارية لعدم وجود اتفاقية دفاع مشترك بين الطرفين.
ويشير داغر إلى أن "الاتفاق مع التحالف يتضمّن مكافحة تنظيم داعش فقط، ولا يشتمل على اتفاقية دفاع مشترك"، مبيناً أنه "بإمكان واشنطن أن تدعم العراق لجهة حفظ أمن حدوده وتوفير معلومات استخبارية بهذا الشأن"، ومرجّحاً أن يكون هذا الملف ضمن ما سيناقشه الكاظمي في زيارته المرتقبة إلى واشنطن.
ويستبعد رئيس المجموعة المستقلة للأبحاث إمكانية عقد اتفاقية دفاع مشترك بين بغداد وواشنطن، مرجعاً ذلك إلى النفوذ الإيراني الكبير في البرلمان العراقي من جهة، والحفاظ على موقف الحياد الإقليمي للبلاد من جهة أخرى.