في معظم الحفلات التي تبث من على العديد من شاشات التلفزة العربية في أيامنا هذه وتقدم لمشاهدين لا شك أن عددهم يزداد باستمرار ولا سيما في أوساط الشباب الذين ولد معظمهم بعد رحيل أم كلثوم، وبالتحديد في تلك الحفلات الكلثومية، لا يفوت المشاهدين أن يدهشوا لمرأى عازف عود عجوز يبدو دائما متأملا لا تبارح عيناه نقطة محددة في المكان ويعزف على آلته بكل ثقة بل حتى بقدر لا بأس به من اللامبالاة. يعزف وكأنه يفعل هذا منذ مئات السنين ويعزف من دون أن يكون في حاجة إلى نوتة يضعها نصب عينيه ومن دون أن ينظر حتى إلى السيدة التي تغني أو حتى يتابع غناءها. يعزف بالسليقة وكأنه يلعب لعبة يتقنها وقد لا يتقن غيرها. وربما يستبد الفضول بمشاهدي البث فيتحرون الأمر ليكتشفوا أن ذلك العازف الآتي من اللامكان ليس سوى الكبير محمد القصبجي أحد أكبر الموسيقيين في تاريخ الأغنية العربية الحديثة. والموسيقي الذي غنت أم كلثوم من ألحانه، في النصف الأول من مسارها الغنائي على الأقل، بعض أجمل روائعها.
عازف لألحان الآخرين
غير أن الغريب في الأمر هو أنه نادراً ما يكون القصبجي، على الأقل من الحفلات المتوافرة لأهل التلفزة، صاحب الألحان التي يشارك بالعزف فيها. ولعل السبب هو أن التصوير الجيد للحفلات الكلثومية لم يصبح عادة متبعة إلا بعدما كفت "الست" عن الاستعانة بألحان القصبجي مكتفية بالاستعانة به كعازف، استثنائيّ على أية حال، في تأدية أغانيها. وهو رضي بذلك المصير الذي يمكننا اعتباره أقرب إلى الإهانة، من دون أن يرف له جفن ومن دون معرفة السبب. وفي هذا السياق يقال إن كوكب الشرق ظلت طوال السنوات الباقية من حياة القصبجي "تعاقبه" لكونه جرؤ على أن يلحن لمنافسات لها بين الحين والآخر، لا سيما لأسمهان التي كانت لسنوات وقبل مقتلها منافسة أم كلثوم الرئيسية، غير أن هذا القول يبقى في خانة الإشاعات ليظل سرّ القطيعة التلحينية بين القصبجي وأم كلثوم عصياً على الفهم على رغم زمالتهما الطويلة والتي تعود إلى ما قبل توقفه عن التلحين لها بعقود.
اللقاء الأول
ولنعد هنا إلى لقائهما الأول. وكان ذلك عند نهاية عام 1923. والمكان: مسرح "بابلوت باسك" الذي كان يعرف سابقاً باسم تياترو برنتانيا، في القاهرة. والمناسبة: أول ظهور لـ"مطربة السيرة النبوية" أم كلثوم إبراهيم في حفلة عامة في العاصمة المصرية. في ذلك الحين كانت شهرة أم كلثوم قد سبقتها، وكان الكثيرون متشوقين لمشاهدة وسماع تلك الصبية الريفية التي تُروى الحكايات عن عجائب صوتها وعن أسلوبها الغنائي وعن... ظهورها في ملابس الشبان العرب ووضعها العقال على رأسها، في زمن كانت فيه المطربات مجرد عوالم، أو "شيخات" أو ما شابه ذلك. بين حضور تلك الحفلة التاريخية كان هناك مبدع موسيقي شاب في الحادية والثلاثين من عمره، سبق له أن كوّن اسماً لا بأس به في أجواء القاهرة الفنية، منذ عام 1911 حين تخرج من مدرسة المعلمين ليتخلى بسرعة عن التدريس منصرفاً إلى هوايته الأولى وحبه الأسمى: الموسيقى والغناء. كان ذلك الفنان يدعى محمد القصبجي ولد عام 1892 في حي عابدين، لأب مقرئ ومنشد، وأم ما كانت تحلم لابنها بأقل من أن يصبح "أفندياً" مثقفاً "يتكلم الفرنسية والإنجليزية ويختال بالبدلة والطربوش"، بحسب ما يروي لنا المؤرخ المصري عبدالحميد توفيق زكي.
"تياترو فرح" مدرسة حقيقية
قبل حفلة الآنسة أم كلثوم إبراهيم الأولى تلك، كان محمد القصبجي قد شق لنفسه، طريقاً لا بأس بها في عالم الفن متتبعاً في ذلك خطى والده الذي كان قد اعتاد اصطحابه إلى "تياترو فرح" للاستماع إلى الشيخ سلامة حجازي في مسرحياته الغنائية. بعد ذلك توجه محمد القصبجي مباشرة لاحتراف الموسيقى والغناء، لا سيما العزف على العود الذي ظل حرفته الرئيسية حتى آخر حياته. وهكذا لحن لنفسه وغنى أغنيات نالت بعض النجاح مثل "يا قلب ليه سرك تذيعه للعيون" و"الحب له في الناس أحكام". وفي عام 1919 انضم القصبجي، كعازف عود إلى فرقة محمد العقاد التي كانت واحدة من أشهر الفرق المصرية في ذلك الحين. واستمر في ذلك العمل عامين على الأقل، بدأ بعدهما يفكر بسلوك طريق جديدة في حياته، بادئاً بتلحين بعض المقطوعات والطقاطيق التي راح يكتبها له الشيخ محمد يونس القاضي. غير أن الانعطافة الحقيقية حدثت خلال حفلة أم كلثوم المشار إليها.
... ولقاء فني أول
فالقصبجي - ودائماً بحسب ما يروي لنا عبد الحميد زكي - "كان ممن أسعدهم الحظ بسماع المغنية الريفية الجديدة، فسمع للمرة الأولى في حياته صوتاً له وقع السحر في النفس (...) فأعجب الموسيقي الشاب بحلاوة صوتها ورقة أدائها، وغمرته موجة من الفرح لأنه اهتدى إلى الصوت الذي يستطيع أن يؤدي أسلوبه الجديد في التلحين على النحو الذي يجيش في خياله". وظل القصبجي يحلم بأم كلثوم وغنائها حتى عادت عام 1924 لتستقر في القاهرة، وحدث أن اتفقت معها شركات الأسطوانات على تسجيل عدد من الأغنيات معظمها من تلحين أحمد صبري النجريدي والشيخ أبو العلا محمد. وكانت المفاجأة أن يعهد إلى القصبجي، ضمن إطار تلك المناسبة بتلحين ما يعتبره الكثيرون أول أغنية خاصة بأم كلثوم وهي أغنية "قال حلف ما يكلمنيش". ومنذ ذلك الحين، وحتى رحيل محمد القصبجي في 25 آذار (مارس) 1966 لم يتوقف التعاون بين المطربة الكبيرة والموسيقي المبدع، بحيث بلغ عدد الأغاني التي لحنها لها نحو 70 أغنية، أي تقريباً ربع الأغاني التي أنشدتها أم كلثوم طوال حياتها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إيقاعات غربية
صحيح أن ألحان محمد القصبجي لم تقتصر على أم كلثوم، بل أن عدداً كبيراً من المغنين أنشدوا من ألحانه عدداً من أجمل أغانيهم، وفي مقدمتهم منيرة المهدية (التي لحن لها العديد من المسرحيات الغنائية عند نهاية سنوات العشرين) وأسمهان وليلى مراد، وصحيح أن القصبجي الذي سيعتبر من كبار المجددين في الموسيقى العربية ومن أبرز من أدخلوا الإيقاعات الغربية فيها، عرف أيضاً بوصفه واحداً من أعظم عازفي العود الذين عرفتهم مصر، هو الذي درّس العزف لعدد من كبار العازفين بمن فيهم محمد عبد الوهاب ورياض السنباطي وفريد الأطرش وعبد الفتاح صبري، لكن ارتباط اسم القصبجي باسم أم كلثوم كان نهائياً، حتى وإن كانت فورة تلحينه لها قد همدت منذ نهاية الأربعينيات بعد أن بدأت أم كلثوم بالتعاون مع رياض السنباطي وشددت تعاونها مع زكريا أحمد، ثم راحت خلال سنوات الخمسين والستين "تكتشف" ضرورة التنويع والتعاون مع كمال الطويل ومحمد الموجي وبليغ حمدي ثم مع محمد عبدالوهاب.
من أروع أغاني "الست"
مهما يكن فإن بعض أجمل أغنيات أم كلثوم التي لا تزال حية بيننا حتى اليوم يحمل توقيع وبصمات محمد القصبجي التجديدية، من "إن كنت أسامح" إلى "رق الحبيب" ومن "قلبك غدر بي" إلى "سكت والدمع اتكلم"، مروراً بـ "أخذت صوتك من روحي" و"زارني طيفك في منامي" و"إن حالي في هواك عجب" ونصف أغاني أوبريت "عايدة" و"أحبك وأنت مش داري" و"يللي شغلت البال" و"فايتني وأنا روحي معاك" و"ليه تلاوعيني" و"نامي نامي يا ملاكي" و"طاب النسيم العليل" وخاصة "ما دام تحب بتنكر ليه" تلك الأغنية الجميلة التي كانت خطوة تجديدية متميزة في مسار التلحين الغنائي في مصر. ومن هنا حين رحل القصبجي عن عالمنا بقيت منه طبعاً أغانيه الكبرى ولكن بقيت كذلك جلساته الغريبة وراء أم كلثوم في حفلات تنشد فيه ألحان غيره من المبدعين من دون أن تنم نظراته عن رأيه في تلك الألحان أو عن أي حقد على الفنانة الكبيرة التي لا شك أن الأسباب الحقيقية التي حدت بها إلى حرمان الجماهير العربية العريضة من إبداعات القصبجي ستظل خفية وغامضة إلى الأبد...