يستضيف متحف رينا صوفيا في العاصمة الإسبانية، مدريد، معرضاً يضم عشرات من أعمال الفنانين المغاربة من مختلف الأجيال تحت عنوان "الثلاثية المغربية". يوثق هذا المعرض الكبير للحركة الفنية المغربية منذ منتصف القرن الماضي حتى اليوم، وهو يعد أحد المعارض المهمة التي نظمت خلال الفترة الأخيرة، وتتطرق للحركات الفنية البارزة في شمال أفريقيا. ويغطي المعرض نحو أكثر من سبعين عاماً من الحركة الفنية المغربية، وتحديداً تلك الفترة الزمنية بين عام 1950 حتى الوقت الراهن. هذه الفترة التاريخية الممتدة التي يتم تسليط الضوء عليها من خلال هذا المعرض تتمثل عبر ثلاث محطات رئيسة، وهي محطات تعبر عن التنوع وحيوية النقاش الفني والتأثيرات المتعددة التي أسهمت في تشكيل ملامح الحركة الفنية المغربية، مع التركيز بشكل خاص على المراكز الحضرية الثلاثة في تطوان والدار البيضاء وطنجة.
وينظم هذا المعرض في إطار برنامج التعاون الثقافي بين إسبانيا والمغرب في مجال المتاحف، وبرعاية كل من المؤسسة الوطنية للمتاحف في المغرب ووزارة الثقافة الإسبانية. ويأتي هذا الحدث الفني في سياق توجه غربي بدت ملامحه واضحة خلال العقدين الأخيرين لدى المؤسسات الفنية الغربية، بالسعي نحو تجاوز المركزية الغربية التقليدية في السرد التاريخي للفن، عبر تسليط الضوء على التأثيرات والحركات الفنية خارج السياق الغربي.
خطاب الهوية
ويغطي القسم الأول من المعرض مرحلة مضطربة للغاية تمتد من سنوات الاستقلال حتى عام 1969، وهي الفترة التي ميزتها المراجعات والنقاشات التي أثارها تنامي الأفكار المتعلقة بالمد القومي والحاجة الماسة لبناء خطاب الهوية. وشكّل هذان الجانبان الخلفية المفاهيمية للفن المغربي الحديث في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، عندما بدأ الفنانون في مراجعة التعاليم الأكاديمية الفنية التقليدية المتبعة في تدريس الفن بالمغرب. في هذه الآونة كان هناك جيل من الشباب قد اختار دراسة الفن في الخارج، وقد عمل هؤلاء بعد عودتهم والتحاق بعضهم بمجال التدريس الأكاديمي على استحداث تغييرات جذرية في مناهج التعليم الفني في مدرسة الفنون الجميلة في الدار البيضاء، وهو ما أسهم في الانفتاح على مدارس الحداثة، ويبرز بين هؤلاء كل من محمد المليحي، ومحمد شبعا، وفريد بلكاهية، ومحمد حميدي، ومصطفى حفيظ.
وخلال الفترة نفسها فتحت مجلة "أنفاس" (souffles) التي كان يحررها الشاعر عبداللطيف اللعبي، باب النقاش على مصراعية حول التاريخ والواقع الاجتماعي الجديد، وهو النقاش الذي كان انعكاساً مباشراً للقمع المسلح لثورة الطلاب عام 1965. طاول هذا النقاش على صفحات المجلة، جميع مناحي الإبداع، بما فيها الممارسات الفنية الحداثية، حتى تم حظر المجلة في سبعينيات القرن الماضي.
مناهج جديدة
ويغطي القسم الثاني من المعرض الفترة التي شهدت صراعاً داخلياً في المغرب، وهو ما انعكس بشكل مباشر على الممارسات الفنية وعلى الشعر والأدب والمسرح. وقد شهدت هذه الفترة ظهور أسماء عدة لم تكن وليدة الدراسة الأكاديمية، ومن بينهم الفنان الشعبي طلال، والفنانة الشعبية فاطمة حسن. وفي أواخر الثمانينيات، بدأ اتجاه معاصر جديد في ترسيخ مكانته على الساحة الفنية المغربية، اعتماداً على مناهج فنية جديدة تبلورت في التسعينيات مع فنانين مثل محمد الباز ومنير فاطمي.
أما القسم الأخير من المعرض الذي يغطي العقدين الأخيرين، فيضم أعمال جيل الشباب الذين تمردوا على الممارسات التقليدية. وعلاوةً على ذلك، شمل هذا القسم عدداً كبيراً من الفنانات اللاتي أثارت أعمالهن عدداً من القضايا الإشكالية المتعلقة بالمرأة، كالهوية الأنثوية، وغيرها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذه الفترات الثلاث، كان لها، بميولها الشكلية، وقضاياها الأيديولوجية، وأحداثها التاريخية، تأثيرها الواضح بلا شك على الممارسات الفنية المغربية، وألهمت الأجيال المغربية المتعاقبة. ويعد معرض "الثلاثية المغربية" دراسة فنية عميقة ومهمة، تتيح للمهتمين نظرة شاملة إلى الحركة الفنية المغربية منذ فترة ما بعد الاستقلال، وتحليلاً مباشراً لإنتاجه المعاصر. عبر تنوع هذه الأشكال والممارسات الفنية التي يضمها هذا المعرض يتم تسليط الضوء على الدور النشط للفن في حياة الفرد وتأثيره المجتمعي، واشتباكه المباشر مع كثير من الأحداث والانعطافات الأساسية على صعيد الثقافة المغربية.