جمهورية الملالي أعادت فتح الطريق الذي أغلقته قبل أشهر إلى المفاوضات النووية في فيينا. وإدارة الرئيس جو بايدن على نار للعودة إلى اتفاق "5+1" مع إيران، الذي خرج منه الرئيس دونالد ترمب. أما الشركاء الأوروبيون الثلاثة في الاتفاق، وهم الفرنسي والبريطاني والألماني، فإنهم عجزوا ومعهم العقوبات الأميركية عن اتخاذ موقف جدي يردع طهران عن خرق إلتزاماتها حيال الاتفاق أو أقله فرض عقوبات عليها. وأما الشريكان الروسي والصيني، فإنهما مارسا نوعاً من تغطية الموقف الإيراني وانتقاد الموقف الأميركي، واستمتعا بالتفرج على تلاعب الملالي بأعصاب الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا والشرق الأوسط. خلال إغلاق الطريق بحجة الانتخابات وتغيير الرئاسة وإعداد الفريق الجديد للتفاوض، عملت طهران على خرق منهجي للاتفاق النووي: تخصيب اليورانيوم بنسبة 20 في المئة ثم 60 في المئة بحيث اكتملت عندها المعرفة وكادت تكتمل العناصر الكافية لصنع قنبلة نووية. التضييق على مراقبي المنظمة الدولية للطاقة الذرية التي قال مديرها رافاييل غروسي "إننا نطير بين الغيوم"، دفع الدول الأوروبية إلى تنظيم آلية لحماية تجارتها من العقوبات الأميركية، مع استمرار المرشد الأعلى علي خامنئي في القول "لا تثقوا بأوروبا". وتطوير الصواريخ الباليستية وزيادة التمدد في نفوذها الإقليمي والدفع نحو خروج أميركا من المنطقة. وعلى الطريق إلى فيينا، ستحاول تشديد قبضتها على أوراقها الإقليمية.
في المقابل، فإن واشنطن بدت كأنها تستجدي طهران العودة إلى المفاوضات غير المباشرة، واستمرت في التركيز على الحل الدبلوماسي مع كلام مجاني على "إبقاء كل الخيارات على الطاولة". ذلك أن رجال الصف الأول في إدارة بايدن كانوا رجال الصف الثاني في إدارة الرئيس باراك أوباما. وهم تعلموا درس "القيادة من المقعد الخلفي". وإن أعلن بايدن أن "أميركا عائدة إلى القيادة". وشاركوا في تنفيذ طريقة أوباما وجون كيري في التفاوض، فالحرص على الاتفاق مهما تكُن نواقصه بأي ثمن، كما على الصمت عما تفعله إيران في المنطقة من "أنشطة مزعزعة للاستقرار" وعدم القيام بأي شيء يزعجها أو يعرقل التوصل إلى الاتفاق، فضلاً عن أن أوباما بلع كلامه على ربط الاتفاق بتفاهم على الملف الصاروخي وملف النفوذ الإقليمي، لقاء وعد إيراني بالبحث في الملفين لاحقاً. وكان الكل يعرف أن الوعد كاذب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والسيناريو يتكرر. بايدن ووزير الخارجية أنتوني بلينكن ومستشار الأمن القومي جايك سوليفان أصروا في البدء على "اتفاق أوسع وأكثر ديمومة" وربطه بالتوقف عن تطوير البرنامج الصاروخي وعن "السلوك المزعزع للاستقرار". وحين رفضت طهران البحث في أي موضوع خارج العودة إلى الاتفاق النووي ورفع العقوبات، لأن التخلي عن الملف الصاروخي وملف النفوذ الإقليمي هو نهاية مشروعها الإمبراطوري، فإن الإدارة الأميركية تراجعت. كان غطاء التراجع هو تغيير المقاربة: من البحث في كل شيء دفعة واحدة بما يأخذ وقتاً طويلاً إلى ما سمّاه سوليفان "العودة إلى الامتثال المتبادل في الاتفاق، ثم الانطلاق على أساسه إلى التعامل مع مجموعة كاملة من المخاوف". وهذا ما انتقده السيناتور الديمقراطي جيم ريش، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ، وأصر على الربط بين الملفات، وإلا كانت إيران الرابحة في كل شيء. لا بل إن المنسق المخضرم للألعاب الأميركية في الشرق الأوسط دنيس روس أوحى أنه يعبّر عن أوساط مؤثرة حين كتب في "فورين بوليسي" أن "طهران لم تعُد تنظر بجدية إلى واشنطن وإحياء الاتفاق النووي، وباتت التهديدات بالحرب الوسيلة الوحيدة للتوصل إلى السلام معها".
ومن جديد، كرر وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان رفض بلاده "إضافة ملف الأنشطة الإقليمية إلى المباحثات النووية". والانطباع السائد لدى "محور الممانعة" بقيادة إيران أن أميركا صارت من الماضي، وهي منسحبة من المنطقة عاجلاً أم آجلاً كما فعلت في أفغانستان. وأخطر نظرية خيالية في جمهورية الملالي هي أن المتغيرات تجاوزت أميركا ودورها، وصارت "الصين وروسيا وإيران هي القوى الكبرى في العالم".
لكن الواقع أن العودة إلى الإتفاق النووي لم تعُد تكفي لأن طهران تجاوزت ضوابطه. فهي تبيع ما لا تملكه وما تدّعي أنها لا تريده، أي السلاح النووي، مقابل الحصول على التسليم بنفوذها وهيمنتها على اليمن والعراق وسوريا ولبنان. وهي تمد يدها إلى ما يتجاوز إمكاناتها من دون أن تتعلم درس الاتحاد السوفياتي الذي كان أقوى منها وأكبر وأهم، لكنه انهار تحت ضغط المصاعب الاقتصادية والإنفاق على سباق التسلح والحلفاء في العالم. ولا أحد يعرف إلى أي مدى يمكن أن يعيش في القرن الحادي والعشرين نظام ثيوقراطي مذهبي يصرّ على "تصدير الثورة" إلى العالم.
ذات يوم غنّت أسمهان "ليالي الأنس في فيينا". اليوم نشهد أيام اللعب في فيينا.