ملخص
بعد فقدانه شقيقه غاري بسبب الانتحار، سرعان ما بدأ الكاتب الاسكتلندي جون نيفن بتدوين ملاحظاته. يخبرنا هنا عن مذكراته الجديدة "يا أخي" التي تتابع حياة غاري الصعبة وموته: ألم خسارة شقيقي جعلني ضليعاً في الانتحار
في الثالث من سبتمبر (أيلول) من عام 2010، كان الروائي جون نيفن يسهر لحراسة شقيقه غاري المستلقي في سريره، برفقة والدته جانيت وأخته ليندا. قبل أربعة أيام فقط، اتصل غاري بخدمة الطوارئ بعد محاولته الانتحار في المنزل. نقلته سيارة إسعاف إلى المستشفى حيث رآه أحد الأطباء ووضع في غرفة بمفرده. حاول الانتحار في المستشفى مرة أخرى. عندما وجده الموظفون فاقداً للوعي، تقرر إدخاله في غيبوبة طبية.
مع عدم وجود أمل في الشفاء، حان وقت إطفاء أجهزة دعم الحياة. بينما أخبرت جانيت غاري بأنها تحبه، وأمسكت ليندا بيده، همس نيفن في أذن أخيه قائلاً إنه آسف لعدم بذل جهد أكبر لمساعدته. ثم، عندما فارقت الروح جسد أخيه، توجه إلى أقرب حمام وأخرج دفتراً وشرع في تدوين كل ما حدث.
يخبرني نيفن البالغ من العمر 57 سنة: "أعتقد أن الكتاب، والروائيين بكل تأكيد، لا بد أن يمتلكوا ما سماه غراهام غرين ’شريحة جليدية في القلب‘. أقول في الكتاب إنني أشاهد المشهد مثل ابن وأخ، ولكن أيضاً ككاتب يعرف أنه سيخرج إلى الممر لتدوين كل شيء. لن أقول إنني شعرت بالخجل، لكنني أدرك أن هناك جانباً لكونك كاتباً ليس مستساغاً تماماً".
الكتاب الذي يتحدث عنه هو "يا أخي" O Brother ويقوم فيه نيفن - الذي وصل إلى الشهرة سنة 2008 بفضل كتابه الأكثر مبيعاً الساخر من صناعة الموسيقى "اقتل أصدقاءك" Kill Your Friends – بتوثيق موت غاري و"حادثة تشيرنوبيل الروحية" الوحشية التي تعرضت لها عائلته بعد ذلك. يروي القصة بمزيج من الفكاهة والشفقة إذ يتذكر سنوات نشأته مع غاري على الساحل الغربي لاسكتلندا والمسارين المختلفين تماماً اللذين اتخذاهما كبالغين. قبل فترة طويلة من أن يصبح كاتباً، عمل نيفن في صناعة الموسيقى وعاش حياة مرفهة في لندن براتب ممتاز أنفقه على المخدرات والإسراف في الشراب. في هذه الأثناء، كان شقيقه يقيم في مسقط رأسهما، بلدة إيرفاين في مقاطعة آيرشير، إذ كافح للبقاء في وظيفة واحدة وكان يمضي أربعة أيام يتناول المخدرات بشكل متواصل. مكث غاري بعد ذلك لمدة ثلاث سنوات في سجن بارليني على أطراف غلاسكو بسبب الاتجار بحبوب مخدرة. بحلول وقت وفاته، كان يعاني صداعاً عنقودياً مزمن واكتئاب شديد.
عندما ينظر نيفن إلى الماضي، يرى بوضوح أن غاري كان عبارة عن مأساة تنتظر الحدوث. يقول متأملاً: "أنا أشبه قليلاً إدوارد سميث، قبطان تيتانيك الذي يرى أضواء الإنذار الحمراء تومض في كل مكان على متن الباخرة. أخي يبلغ من العمر 42 سنة، أي أنه حرفياً في الفئة العمرية المتوسطة للانتحار. إنه عاطل عن العمل، أعزب، يعيش بمفرده ويواجه صعوبات مالية. لديه تاريخ مع تعاطي المخدرات والكحول. لكن من حقائق الحياة أيضاً أنك تصبح ضليعاً في الانتحار فقط بعد تأثرك به".
يحدثني نيفن عبر مكالمة مصورة من منزله في مقاطعة باكينغهامشير إذ تتسرب أشعة الشمس من خلفه عبر نوافذ جميلة مجزأة. إنه مسترخ، ورفيق مسل، يتسم بالخجل والمرح الذكي في آن معاً - وهو بالتأكيد أكثر خبرة حياتية من شخصية آلان بارتريدج الذي يصر أنه كان مثله لما كان تلميذاً في المدرسة "يحب ارتداء سترة وربطة عنق إلى المدرسة". كان من المفترض أن يأخذ قسطاً من الراحة قبل إصدار الكتاب، لكن الواجبات الترويجية تعيده لجهاز الكمبيوتر الخاص به. يقول نيفن إنه يجد الحديث عن غاري مؤلماً أكثر من الكتابة عنه، موضحاً "يبدو الأمر غريباً، لكن عندما أكون جالساً إلى مكتبي يكون الأمر برمته عملاً جافاً". يتذكر كيف أنه، ولدهشته، واجه صعوبة في الحفاظ على رباطة جأشه أثناء قراءة مبكرة للكتاب أمام الجمهور، يقول: "قرأت المقطع الذي يصف موت غاري، وعندما وصلت إلى السطر الذي يتناول حديث والدتي معه، قلت لنفسي ’قد أفقد السيطرة على نفسي هنا‘ واضطررت إلى غرس قدمي في الأرض وأخذ نفس".
استغرقت كتابة "يا أخي" ثلاث سنوات ونصف سنة، وهي أطول فترة قضاها نيفن في أي من مؤلفاته. إنه غزير الإنتاج، فقد كتب 10 روايات في 19 عاماً، هذا علاوة على مشاركته في كتابة سيناريو الفيلم الكوميدي النرويجي "الرحلة: كيف تبني فتاة" The Trip, How To Build a Girl (تشارك في كتابة السيناريو مع كيتلين موران التي اقتبس الفيلم من روايتها التي تحمل العنوان نفسه)، وسيناريو المعالجة السينمائية لرواية "اقتل أصدقاءك". يقول: "في الخيال، بمجرد أن أعرف كيف تتحدث شخصية ما، أجد ذلك سهلاً للغاية... الأمر هو لعبة ببساطة، إنه ممتع. بينما مع ’يا أخي‘، وجدت صعوبة في الإبقاء على صوتي لأكثر من 400 صفحة. يشبه الأمر الاستماع إلى نفسك بشكل متواصل وأنت في حفلة". يعبر هذا عن مدى عدم ارتياح نيفن للكتابة عن نفسه لدرجة أنه في الكتاب يصف المذكرات بأنها "اعتراف قسري".
إذاً، لماذا ألف الكتاب؟ يجيب "هناك قول مأثور في عدم اختيارك مواضيعك، إذ إنها تختارك. بالنسبة إلي، يبدأ الكتاب كفكرة واضحة تصبح فكرة متكررة تتحول في النهاية إلى الفكرة الوحيدة الممكنة. لذلك، في مرحلة معينة، أدركت ’يا إلهي، سأضطر إلى كتابة هذه الفكرة‘. لكنني لم أكن مقبلاً عليها بفرح مثلما أفعل مع الرواية. أفضل كتابة خمس روايات على تأليف عمل آخر كهذا. أعتقد أنك إذا تعاملت مع المذكرات وأنت تقولين ’مرحى، حان الوقت لكتابة قصة حياتي‘ فأنت لا تفعلين ذلك بشكل صحيح".
بالنسبة إلى نيفن، كان البحث الذي تطلبه كتاب "يا أخي" الجزء الأصعب، لأسباب ليس أقلها "شعرت بالمسؤولية في القيام بذلك بشكل صحيح". من أجل سد الثغرات في حياة غاري الراشد، اتصل بأصدقائه ومعارفه القدامى، على رغم أنهم لم يكونوا جمعياً متعاونين. يقول: "هؤلاء أشخاص عاشوا إلى حد كبير على حافة القانون. عندما تكون كاتباً، تفوح منك رائحة الرسمية والسلطة. أنت تنزل من طائرة آتية من لندن حاملاً دفتر ملاحظاتك وتقابَل بالسؤال ’ما الذي يريده هذا الرجل بحق الجحيم؟‘". حصل أيضاً على نسخ من السجلات الطبية لأخيه التي تحتوي على تقارير نفسية مفصلة وكانت قراءتها تجربة قاسية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كانت وفاة والدهم، جون، بالسرطان هي التي أدت إلى تدهور صحة غاري العقلية. كان غاري يبلغ من العمر 24 سنة حينها وما زال يعيش في منزل العائلة وكان الثنائي على خلاف منذ فترة طويلة. نشأ والدهم المولود سنة 1924 خلال فترة الكساد وقاتل في الحرب العالمية الثانية. يقول: "بالنسبة إليه، فإن فكرة خروج غاري يوم الخميس، والاحتفال لأيام عدة ثم العودة للمنزل ليؤوي إلى الفراش عند ظهيرة يوم الإثنين، كانت أمراً يصعب فهمه. لذا كانا يتشاجران بمرارة ولم تتح لغاري مطلقاً الفرصة لتصحيح هذا الأمر، مما أدى إلى هذا الانفجار النووي المؤلم. في علاقتي مع والدي، لم يكن هناك كثير من الأمور التي لم نتحدث عنها، وفعلت بعض الأشياء التي آمل أن تجعله فخوراً. لكن غاري لم يكن مهيأ لإرضاء الوالدين مثلي. أعتقد أنه كان يقول لنفسه ببساطة ’اللعنة، سأكون سيئاً بقدر ما أستطيع‘".
لطالما شعر نيفن بأنه كاتب، على رغم أن تكريس نفسه للكتابة استغرق حتى بلوغه سن الـ34. عندما كان طفلاً، لم يكن "منخرطاً بشكل كامل في أي موقف اجتماعي لأنني كنت أراقب المواقف دائماً، أشاهدها وأدون ملاحظات حول ما هو مثير للاهتمام". في سني مراهقته والعشرينيات من عمره، حاول بشكل متقطع كتابة القصص لكن لم يكن يتمتع بالانضباط الذاتي للاستمرار. في النهاية، انحرف عن مساره بسبب الموسيقى. عندما أنهى دراسته الثانوية، ذهب إلى الجامعة، وعزف في فرقة، وقبل أن ينهي دراسته، عرضت عليه وظيفة في شركة تسجيلات موسيقية بالتزامن مع انطلاق موسيقى البريت بوب.
كانت السنوات العشر التالية عبارة عن "دوامة من المتع. كنت طالباً وكنت في فرقة، وبعد وصولي إلى منتصف العشرينات من دون الحصول على فلس واحد، فجأة وجدت نفسي أقول ’هيا، لديك كل ما تريد‘. كانت تجربة مدللة للغاية. لديك حساب إنفاق بلا حدود، وسيارة من الشركة، وبطاقة تغطي نفقات المحروقات. بحلول الوقت الذي وصلت فيه إلى الثلاثينيات من عمري، كنت لا أزال لا أعرف كيفية دفع الضريبة على السيارة، لأن موظفاً ما في الشركة كان ببساطة يوصل لصاقة الضريبة إلى مكتبي. لكن كان هناك شيء يقول لي بإلحاح إنني لست من المفترض أن أقوم بهذه المهنة".
خلال السنوات التي أمضاها نيفن في اكتشاف الفرق الموسيقية وتوقيع عقود معها، عرف أن فشله كروائي كان مرجحاً. يقول: "في مجال الموسيقى، يصبح من المألوف جداً بالنسبة إليك مفهوم تقديم مليوني نسخة من شريط تجريبي لكل 20 فرقة توقع عقوداً معها، بينما تتمكن اثنتان منها فقط من بيع أي تسجيلات. وبدا لي أن الحال هو نفسه مع النشر، إن لم يكن أسوأ. لكن، في النهاية، كان عدم محاولتي القيام بذلك يجعلني أكثر بؤساً من نتيجة أية محاولة للقيام به".
جون نيفن: نسفت كل جسر يمكن تصوره في كتاب "اقتل أصدقاءك".
وهكذا ترك وظيفته وباع شقته من أجل "تمويل غطرستي. حينها كنت أفكر في أنني أستطيع كتابة الرواية البريطانية العظيمة في 18 شهراً. في الواقع، استغرق كتابي الأول [’موسيقى من بيغ بينك‘ Music from Big Pink، رواية قصيرة تدور أحداثها في وودستوك في الستينيات] وقتاً أطول بكثير. لو لم تكن لدي حبيبة متسامحة وكريمة للغاية، لانتهى مصيري بالفشل". لكن قدره تغير حقاً بفضل رواية "اقتل أصدقاءك" المليئة بالدماء والكلام البذيء، التي وصفتها مجلة "ورد" بأنها "ربما أفضل رواية بريطانية منذ صدور ’رصد القطارات‘ Trainspotting [للكاتب إيفرين ويلش]". يقول إنه الآن "لا يمر يوم لا أسجد فيه حرفياً على ركبتي في مكتبي وأقبل الأرض امتناناً لأن الأمر نجح، لأنني كنت نسفت كل جسر يمكن تصوره ولم أكن أصلح لأية مهنة أخرى".
شرع نيفن بالفعل في كتابة رواية أخرى وأنهى للتو المسودة الأولى. كانت كتابتها بمثابة "نزهة مريحة" مقارنة بتجربة كتابة "يا أخي". على كل حال، فهو فخور بكتابه الأخير لأنه "يسلط الضوء على حياة ما كانت في الأحوال العادية ستخضع للفحص". على رغم أن نيفن ليس مقتنعاً بفكرة أن المذكرات قد تكون نوعاً من التنفيس، إلا أنه، ككاتب، يقول "هناك حاجة بسيطة إلى العلاج لأنك تقضي وقتاً طويلاً في الصحبة الذهنية لأكثر لحظاتك إيلاماً وأشخاص ليسوا هنا بعد الآن".
ربما تأتي أكثر اللحظات الآسرة في "يا أخي" في الفصل الأخير عندما يتعمق نيفن بجرأة في نفسية غاري ويتخيل بتفاصيل مدمرة ما حدث أثناء وجوده بمفرده في تلك الغرفة في المستشفى. يشير نيفن إلى أنه من الشائع أن يرغب الأشخاص المتبقون بعد الانتحار في معرفة ما حدث بالضبط، وأنهم يرغبون في السفر عبر الزمن إلى الماضي والتدخل. يقول متأملاً: "تعتقد أنك إذا تمكنت من الوصول إليه في تلك الليلة، فربما تغيرت الأمور، على رغم أنها لن تتغير على الأرجح. قد أتعرض لانتقاد شديد بسبب هذا الفصل لأنه من يدري ما كان يدور في رأس شخص ما عندما [كان يحاول] الموت؟ لكنني سأقبل النقد، أتفهمين قصدي؟ بالنسبة إلي كان الأمر محاولة لتحقيق السلام. لأن السلام هو ما أراده غاري".
سيصدر كتاب "يا أخي" لجون نيفن عن دار كانونغيت في الـ24 أغسطس (آب).
© The Independent